عندما تأتي رياح الديمقراطية بالخريف، 3 حكايات لأنظمة منتخبة
يُعد معهد «آلن» للأبحاث العلميَّة خاصةً في علوم الأحياء وعلوم المُخ والخليَّة هو متجر الصَّدمة، فقد كشفت بعض التَّقارير المسرَّبة منه عن قصَّة تحمل في طيَّاتها الخيارات المحدودة التي كانت متوفرة لدى طفلة في الـ 18 من عمرها في فترة الخمسينيات، والتجاوزات التي اقترفتها الحكومات والأطباء في تلك الفترة في استخدام سلطاتهم.
استهلَّ الملف بتشخيص حالة الطفلة: إنها طالبة تمريض في جامعة ماكغيل بارعةٌ في دروسها ووصفها الطبيب المعالج لها بأنها شخص متوازن على نحو معقول ثم يتابع موضحًا أنهَّا تعرضت لقليل من القلق والاضطِّرابات بسبب أبوها المسيء إلَّا أنَّها بعد بضعة أسابيع من دخولها إلى المعهد، بدأت تظهر عليها تصرفات طفوليَّة وتعبِّر عن أفكار غريبة، فقد أصبحت تهلوس وتميل إلى التخريب؛ فباتت تارة تميل إلى العنف والعدائية الشَّديدة وتارة أخرى تميل إلى التكاسل والخمول، وقد أظهر التَّشخيص الأخير لحالتها أنَّها تعاني من انفصام في الشَّخصية وتَظهر عليها بعض المعالِم الهِيستيريَّة. ثمَّ اختتم ملف التَّشخيص الخاص بها أنَّ الطِّفلة قد خضعت للعلاج بالصدمة الكهربائيَّة.
على الجهة الأخرى من الشُّرفة نجد إمكانية صناعة الخوف من ربيع الديمقراطية؛ فقد احتال البعض على النِّظام الدِّيمقراطي، فوصلوا للحكم بـ آليات ديمقراطيَّة سليمة، لكنَّ ما قدموه بعد ذلك من أليات وسياسات لإدارة دُولهم جاء على عكس السِّياق الدِّيمقراطي الذي جاءوا على منواله. وهو ما يُمكن أن يُطلق عليه «الديمقراطية الشَّكلية». فكيف تصبح الدِّيمقراطية رياحًا خريفيَّة صادمة؟
قد تكون إجابة مثل هذا السؤال قد جاءت من قبل خمسة وخمسين عامًا، في كتاب «نهاية الأيديولوجيا»، حيث كتب دانيال بيل أن الأيديولوجيا «هي نظام شامل لواقع شامل، مجموعة من المعتقدات التي غُرست مع العاطفة، وتسعى إلى تحويل طريقة الحياة بأكملها». واليوم نجد العديد من أقوى القادة فخورين بكونهم استبداديين، بل ويثنون على الاستبداديَّة كنموذج للآخرين. وفقًا لقاعدة بيل، هل ستكون عقيدة الاستبداد مستقبلنا الذي ننتظره؟!
الرواية بدأت عند أدولف هتلر
أدولف هتلر
الحزب النازي عقد العزم على تقلُّد زمام الحكم بشكل قانوني. هذا ما قاله أدولف هتلر بعد أن استطاع التربُّع على عرش ألمانيا عبر آليات ديمقراطية في الشَّكل إلاَّ أنَّ مضمونها جاء على منوال غير ذلك. لقد تمَّ تعيين هتلر كمستشارًا لألمانيا في 30 يناير 1933م، ووقتها كانت الحكومة ائتلافية وما لبثت كثيرًا حتى أتلف هتلر التعدُّدية في ألمانيا ومن ورائها الديمقراطية. فكيف تُثنى له ذلك؟
كان أمام هتلر مشكلة وحيدة عندما وصل إلى رئاسة الوزراء في ألمانيا وهي الرايخ (البرلمان) حيثُ أنه لم يحْظَ الحزب النَّازي فيه بالأغلبية المطلقة. الأمر الذي ألجأ هتلر لاستخدام سلطاته لحلِّ الرايخ وقام بحلِّه كي لا يعارضه في شيء، وخلال الستَّة أسابيع التي أقيمت فيها الانتخابات كانت السُّلطة التَّنفيذية والتَّشريعية في يد هتلر وفقًا لمِا سَنَّه من قوانين وتشريعات في ظل غياب السلطة التشريعية.
وما لبث الأمر كثيرًا بعد حل الرايخ، حتى تخلَّص هتلر من جميع منافسيه في أغسطس 1933م، حيثُ أصدر مكتبَه مرسومًا يمنع فيه توجية أيَّ نقدٍ للحُكومة، وألغى حرَّية التَّجمع وأغلق صحيفة الحزب الشِّيوعي. وبعد أنْ أشعَل هولنديّ شيوعي النَّار في البرلمان الألماني، وجد هتلر فرصته المنتظرة للتخلُّص من الشِّيوعيين، فوُجِّهت التُّهمة للشِّيوعيين الألمان، وتمَّ توقيف 10 آلاف شيوعي ألماني في يومٍ واحد. وأُغلِقت جميع الصُّحف ووسائل الإعلام الخاصَّة بالشِّيوعيين في ألمانيا.
وبعد أن مات الرَّئيس الألماني هيندنبورغ عام 1934م، بدلًا من الدَّعوة لانتخابات رئاسيَّة استولى هتلر على المنصب، فأصبح الرَّئيس ورئيس الوزراء معًا. وبعدها أصدر هتلر مرسومًا بإلغاء الأحزاب، وتمَّ إعلان الحزب النازي الحزب الوحيد الشَّرعي في ألمانيا. كما كون هتلر قوَّات خاصَّة تقوم بحراسته وتقوم بعمليَّاته الخاصَّة، ومن هنا تحولت ألمانيا من بلدٍ بانتخابات ديمقراطيَّة وحكومةٍ ائتلافيَّة إلى بلد يحكمها شخصٌ واحدٌ.
بوتين القيصر الروسي الماكر
انتُخب بوتين رئيسًا في مارس عام 2000م، ثمَّ أُعيد انتخابه عام 2004م، وانتهت ولايته الثَّانية عام 2008م، ونظرًا للمحاذير الدستوريَّة لم يحظى بوتين بولايته الثَّالثة. وهنا ظهر وجه بوتين الجديد. ديمتري ميدفيديف الذي كان رئيس الحملة الانتخابيَّة لبوتين. لقد اقترح بوتين في مجلس الدُّوما (البرلمان الروسي) بأن يصبح ميدفيديف رئيسًا خلفًا له بعد أن انقضَت مُدَّة رئاسته. وبعدها وصل ميدفيديف إلى الرئاسة بتزكية ومباركة من بوتين. وحينها أصبح بوتين رئيسًا للوزراء منذ عام 2008م وحتى 2012م. وخلال هذه الفترة أشارت وسائل الإعلام الرُّوسية، والمعارضة الرُّوسية، بأنَّ السُّلطة الحقيقية كانت في يد بوتين. ولم تلبث الظنون كثيرًا حتى اندلعت أزمة جورجيا فكان التَّصرف الأول والأخير بيد رئيس الوزراء بوتين وليس الرَّئيس ميدفيديف.
وفي سبتمبر 2011م، وبعد انتهاء فترة رئاسة ميدفيديف اقترح على الحزب الحاكم (روسيا الموحدَّة)، دَعَّم بوتين للرئاسة خلال مؤتمر للحزب. بعد أنْ نجح ميدفيديف صنيعة بوتين في تحقيق ما جاء من أجله. ففي 2008م تمَّ اعتماد تعديل دستوري بتمديد فترة الولاية الرِّئاسية من 4 إلى 6 سنوات اعتبارًا من عام 2012م. وبعدها أتى بوتين للرِئاسة الروسية عام 2012م بالفعل وأعاد منصب رئيس الوزراء لميدفيديف وبذلك بات بوتين الحاكم الأوحد لروسيا حتى عام 2018م ويحق لبوتين دستوريًا التَّرشح لانتخابات 2018م ويحكم روسيا حتى عام 2024م، وهكذا ستصبح سنين حكم بوتين لروسيا حوالي 25 سنة (منذ 1999م وحتى 2024م).
نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في فرض أيديولوجية قومية جديدة على المجتمع الروسي، حيث أصدر قانون 2012م لتقليص جميع المنظمات غير الحكوميَّة التي تلقَّت أموالًا أجنبية، وعملت في الفضاء السِّياسي الرُّوسي على نطاق واسع. وكذلك إصدار قانون آخر لتقليص الجمعيَّات غير الحكوميَّة «غير المرغوب فيها»، بما في ذلك مكتب كارنيجي في موسكو ومنظَّمة النَّصب التِّذكاري، وهي هيئة شُكَّلت في أواخر الثَّمانينات من القرن الماضي بهدف تسجيل حالات القمع التي شهدتها السَّنوات الستالينيَّة (وما بعدها)، وخاصة في معسكرات العمل.
يبدو نمط بوتين جاذبًا لغيره من القادة الآخرين، لا سيَّما الرَّئيس التُّركي رجب طيِّب أردوغان، والرَّئيس المصري عبد الفتَّاح الِّسيسي وأخيرًا رئيس وزراء المَجَر فيكتور أوربان، آخر المعجبين ببوتين: إنَّ الرِّياح «تهُبُّ من الشَّرق» هكذا عبَّر أوربان عن ترحيبه الحار بالرئيس الروسي في بودابست. وما يزيد الأمر إحباطًا هو أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والمجر عضو بالاتحاد الأوروبي. ومن هنا يمضي نمط بوتين في التغلغل داخل المنظمات التي أُنشئت من أجل تعزيز مبادئ الديمقراطية.
صندوق الديكتاتورية «صنع في إسرائيل»
في التاسع عشر من مارس 2015م، قال (رون بروسور) سفير تلِّ أبيب لدى الأمم المتحدة: إنه يمكن لمنظمة الأمم المتَّحدة أن تختلف مع سياسات الحكومة الإسرائيليَّة، ولكن لا يمكنها إنكار أن إسرائيل هي الدَّولة الدِّيموقراطية الوحيدة في الشَّرق الأوسط.
في تقريرحقوقي يرصد حقوق الإنسان في إسرائيل على مدار عام 2014م، والذي أصدرته جمعيَّة حقوق المواطن في إسرائيل، حيث ركَّز التَّقرير على حقوق الأقليَّة العربيَّة في مستوطنات إسرائيل والتي يبلغ عددها ما يقرُب من المليون ونصف المليون عربي والتَّهميش الحادث لهم، وكذلك حقوق التَّظاهر في الضِّفة الغربيَّة وحقوق المواطنين في القدس الشَّرقية وإلقاء الضُّوء على استخدام القُّوة المفرطة من قبل الشُّرطة، ضدَّ المتظاهرين العرب واستخدام الشُّرطة الإسرائيليَّة لسائل (بؤش) وهو أحد أكثر السوائل ذات الرَّائحة الكريهة في العالم، بلا حساب ورشَّه على المنازل والتَّجمعات السَّكنية الكثيفة بلا تمييز مما يؤدى إلى حالات اختناق عديدة وغثيان وآلام في المعدة، فضلًا عن بقاء رائحته الكريهة لأيام عديدة بلا زوال مسببَّة حياة أشبه بالجحيم. كما تناول التقرير الحرب التي شنتها القوات الإسرائيلية على قطاع غزة وتهديد حياة المليون ونصف المليون شخص على أقل تقدير وما ارتكبته القوات الإسرائيليَّة من مجازر في حق شعب غزَّة.
أمَّا بالنِّسبة للحياة الطُّلابية بإسرائيل، ففي آخر أربع سنوات لجأت جامعة حيفا إلى تعديل دستورها لتتمكن من إعطاء صلاحية مطلقة لرئيس الجامعة (باستشارة نائبه وعميد الطلبة) تتيح له أن يمنع أي فعاليات أو أنشطة طلابية، وقد تم هذا عبر القضاء الإسرائيلي وبالتالي تم صدع التَّظاهر الطُّلابي المزمن للسُّلطة الإسرائيلية، ومنْع الفعَاليَّات السِّياسية أو التي بها أي شُبهة سياسيِّة أو اعتراض على النِّظام الإسرائيلي.
ويعطي البند 6.2 من دستور الجامعة الحق لرئيسها باتخاذ كافة التَّدابير المناسبة لمنع الفعاليات داخل حرم الجامعة، كلمة فعَاليَّات تشمل (أي أنشطة جماهيريَّة فنيَّة/ ترفيهيَّة/ سياسيَّة/ اجتماعيَّة/ ثقافيَّة… إلخ)، وكلمتا (التدابير المناسبة) معناها حقُ رئيس الجامعة في استدعاء القوة الأمنيَّة للتعامل مع الطلبة.
وفي سياق الحياة الأمنيَّة تقدمَّت المحاميَّة الإسرائيليَّة، في مارس 2015، (آن سوتشيو) باسم جمعيَّة (حقوق المواطن الإسرائيلي) برسالة إلى المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية (يهودا فاينشطاين) تطالبه فيها بالتحقيق فيما يسمَّي بالقائمة السوداء وهي قائمة تحتوي على أسماء المشاركين في مظاهرات القدس، حيث قدَّمت هذه القائمة إلى بلدية القدس لاتخاذ إجراءات عقابيَّة ليس فقط ضد المتظاهرين وإنما ضدَّ أسرِهِم أيضًا تبعًا للقانون الإسرائيلي، أي أنَّ الكيان (الديموقراطي) سيعاقب كل من يتظاهر وكل من يعرف من يتظاهر أو يمُت له بصلة.
ومن هنا تُعَد مَقولَة «رون بروسور» أمام الأمم المتَّحدة مَحض التَّشكيك والرَّفض. ومن يمكن طرح سؤال، هل تراجع مؤشِّرات الدِّيمقراطية يُنذر باقتراب وقت رحيلها؟