ترددت كثيرًا قبل الشروع في الكتابة عن هذه القصة المؤلمة التي تحل ذكراها رقم ١١٢٢ هذه الأيام، حتى لا أزيد نفسي والقراء غمًّا في العيد، والذي أصبح شعار أكثرنا فيه لسنوات «بأيةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ». لكن لم يهزم ترددي إلا اقتناعي باستحقاقها لتسليط الضوء على ما تكتظُّ به من عِبَرٍ واجبة في كل زمان ومكان.
هذه القصة هي حلقة من حلقات سلسلة سرمدية من جنايات الاستبداد والفساد السياسي، والذي كان أول وأشد ما أصاب الأمة الإسلامية منذ ارْتسَمَتْ آثارُها الأولى على صفحة التاريخ، ودفعت – وما تزال وستظل – بسبب إخلاله بالناموس الرباني لإدارة العالم على قواعد العدل والشورى، أثمانًا باهظة من الأرواح والأموال والأعمار والأجيال.
دخل طغيان الحكام وبطانتهم من اللصوص، والأفّاقين، وعلماء السلطان، من الباب، فدخل في ذيله الفتن والاضطرابات، والمذاهب المنحرفة في الفكر والسياسة، والغزاة من كل جنسٍ ولون. وخرجت الخيريّة، والوسطية، وأحقية الاستخلاف، بل أصبح الوجود نفسه – مجرد الوجود – وكذلك الهوية، محلَّ نظرٍ وشك. وخرجت الخيريّة، والوسطية، وأحقية الاستخلاف، بل أصبح الوجود نفسه – مجرد الوجود – وكذلك الهوية، محلَّ نظرٍ وشك.
يوم التروية ٨ ذي الحجة ٣١٧ هـ .
تردَّدَ هذا البيت في أرجاء الحرم المكي بنغمةٍ سادية شاذة، وصوتٍ نشازٍ، مصدره أبو طاهر الجنابي، الثائر الذي دوَّخ الخلافة العباسية لسنين، كان فيها زعيمًا لدولة القرامطة المتمردة، والتي بسطت هيمنتَها الدموية على جنوب العراق – قلب دولة الخلافة العباسية – وأجزاء من إيران، وشرق الجزيرة العربية بشكل شبه كامل. وامتدَّت أذرعها الطويلة تعبث هنا وهناك في الشام ومصر واليمن والحجاز.
هذه المرة، أرادت هذه الذراع أن تصفع دين الناس في حرم الله. فكبسَت ضيوف الرحمن في مكة، وأعملت السيف في الآلاف منهم، حتى امتزجت مياه زمزم بدمائهم وأجسادهم الطاهرة، ولم ينسَ المجرمون قبل خروجهم من مكة إلى قواعدهم أن يكسروا قلب خصومهم المسلمين في كل مكان، فجردوا الكعبة من كسوتها، وانتزعوا الحجر الأسود، ولم يُعيدوه إلا بعد ربع قرن، بعد محاولات للافتداء بالمال من أمراء أتراك، ووساطاتٍ من الفاطميين أولاد عمومة القرامطة.
حدثت هذه المجزرة المروعة في غيبة – أو الأدق غييوبة – تامة لدولة الخلافة التي كانت بالكاد تسيطر على بغداد وجوارِها، ويتلاعبُ بخُلفائها أمراءُ العسكر الأتراك منذ جلبهم المعتصم، آخر العباسيين الأقوياء قبل قرن من الزمان، وأنشأ لهم سُرَّ من رأي «سامراء» وجعلها قاعدة ملكه.
بينما تفرق جسد الدولة القوية الغابرة بين عشرات الحكام والدُّوَيْلات المتناثرة، والمتطاحنة، هنا وهناك. مما هوى بمناعة الأمة إلى الحضيض، وفتح الباب على مصراعيْه أمام جراثيم الغزو الخارجي، وتمدد السرطاناتٍ الداخلية الخبيثة في صميمها.