عندما أصبحت «سِنَّارُ» عاصمةَ الثقافة الإسلامية
مع نهاية هذا العام (2017م) تنتهي احتفالات المؤسسات الثقافية والتعليمية والفنية الرسمية والشعبية في السودان بمدينة «سنار» (جنوب الخرطوم بحوالي 280 كيلومترًا) عاصمةً للثقافة الإسلامية. وكانت «المنظمة الإسلامية للثقافة والعلوم» قد ناقشت في مؤتمرها في باكو (أذربيجان) عام 1430هـ/2009م مشروع الاحتفاء بالعواصم الإسلامية التاريخية، على أن يخصص لكل منها عامٌ كامل، وتم اعتماد لائحة تلك العواصم للفترة من2015 إلى 2024م وتقرر أن تكون «سنار» عاصمة الثقافة في هذا العام 2017م.
كان اختيار «سنار» في قائمة تلك العواصم موفقًا بكل المقاييس. فأول مملكة إسلامية تأسست فيها سنة 910هـ/ 1504م؛ أي بعد أقل من عشر سنوات من سقوط الأندلس سنة 1492م. واستمرت هذه المملكة ترفع راية الإسلام لأكثر من ثلاثمائة سنة حتى سقطت في سنة 1236هـ/1821م.
وعُرفت سنار بأنها أرض الذهب، واشتهرت باسم «المملكة الزرقاء»، أو «سلطنة الفونج». وقد اتسعت حدودها وضاقت حسب تقلبات الأحوال السياسية والعسكرية؛ إذ امتدت عند نشأتها شمالاً حتى حدود مصر الجنوبية حاليًا عند وادي حلفا، ثم قلصتها الحروب التي نشبت بين سلطنة سنار والعثمانيين في النصف الأول من القرن السادس عشر إلى الشلال الثالث شمالي مدينة الخندق حاليًا. وتوسعت السلطنة شرقًا حتى سواحل البحر الأحمر باستثناء ميناء ومدينة سواكن التي أصبحت عثمانية، أما في جهة الغرب فقد وصلت إلى كردفان، وفي جهة الجنوب وصلت إلى جبال النوبة.
أضحت «سنار» مركز إشعاع حضاري بفضل موقعها الجغرافي في قلب السودان، وبتركيبتها السكانية التي استوعبت جل الأعراق العربية والإفريقية، وتجلت فيها روح التسامح الإسلامي والتصالح مع الثقافات المحلية الموروثة مما قبل الإسلام. واهتم سلاطين «سنار» بمختلف فروع العلم والمعرفة، وسجل السناريون حضورهم في الأزهر الشريف بـ «رواق السنارية»، وفي بلاد الحرمين الشريفين بعدد من الأوقاف الخيرية لخدمة الحجيج القادمين من القارة السمراء، ووصف مادح الرسول «حاج الماحي» القادمين من سنار لزيارة المدينة المنورة بأنهم: «حباب السنانير» في رائعته الأدبية الشهيرة «شوقك شوى الضمير».
في نور الرمزية التي تمثلها «سنار»؛ فإن الاحتفاء بها إلى نهاية هذا العام يعني أيضًا الاحتفاء بغيرها من المدن السودانية العريقة مثل: دنقلة، والدامر، وسواكن، وحلفاية الملوك، وأربجي، والفاشر، وغيرها من الحواضر التي لا تزال شاهدة على عمق الثقافة العربية الإسلامية في السودان، وانفتاحها على مختلف الثقافات المحلية. وفيها تبرز قيم: التعاون، والكرم، والحوار، والتعايش السلمي، والتراحم الإنساني.
التقيت البروفسير يوسف فضل حسن الحاج يس، رئيس الأمانة العامة لـ «سنار عاصة الثقافة الإسلامية» في مؤتمر «الأوقاف تاريخها وحاضرها ومستقبلها: سلطنة سنار نموذجًا»، وهو أحدث فعاليات الاحتفال بعاصمة الثقافة بكلية الآداب/جامعة الخرطوم. والبروفسير فضل من مواليد 1931م، وهو أحد كبار مؤرخي السودان الحديث والمعاصر. وإذا رأيته وهو يعمل ويروح ويغدو في جنبات المؤتمر؛ رأيت شيخًا وقورًا بقلب شاب في الثلاثين؛ يلحقُه شباب الباحثين والباحثات طول الوقت، ولا يلحقونه. ومنهم الدكتورة أمل بادي رئيسة قسم التاريخ بآداب الخرطوم. وتواضعُ البروفسير فضل الجم، وابتسامه العذب يجعلان التعرفَ عليه وسط عامة الحاضرين أمرًا عسيرًا.
للبروفسير فضل عدد من المؤلفات والبحوث القيمة، من أهمها على الإطلاق كتابه: «العرب والسودان» (صدر في1967م بالإنجليزية)، وكتابه المرجعي بعنوان: «مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي» (الخرطوم: 2003م)، وله تحقيق كتاب: «الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان» لمحمد النور بن ضيف الله (الخرطوم 1971م)، وله أيضًا تحقيق مخطوطة «كاتب الشونة» (قيد الطبع)؛ وهذه المخطوطة كنز تاريخي بكل معنى الكلمة، وموضوعها هو تاريخ السلطنة السنارية والإدارة المصرية ؛ ولا غنى عنها لأي مؤرخ لتاريخ السودان وما حوله.
وقد اشترك في كتابتها كل من: أحمد الحاج أبو علي الشهير بكاتب الشونة، وهو مؤلفها الرئيسي، وقد عمل كاتبًا لخزانة المحاصيل (الشونة) لدى الإدارة المصرية إبان الحكم الإنجليزي/ المصري، وفرغ من كتابة المخطوطة في سنة 1838م. وأدخل كل من أحمد الحاج محمد جنقل، والزبير ود ضوة، والشيخ إبراهيم عبد الدافع، والشيخ الأمين محمد الضرير، تعديلات وإضافات على هذه المخطوطة، كان آخرها ما قام به الشيخ الضرير من تنقيحات وإضافات غطت الإدارة المصرية للسودان حتى سنة 1871م.
تؤرخ «مخطوطة كاتب الشونة» لسلطنة سنار منذ نشأتها في مطلع القرن السادس عشر، مرورًا بسقوطها في سنة 1821م، وصولاً إلى سنة 1871م. وقد أسهب كاتبها في ذكر تفاصيل الحقبة الأخيرة من عمر السلطنة، وبخاصة ابتداءً من عهد السلطان بادي الرابع، وبتركيز كبير على الرقعة الجغرافية التي شملت جزيرة سنار؛ أي المنطقة الواقعة بين النيلين: الأبيض والأزرق، والممتدة من جنوب النيل الأزرق وحتى مقرن النيلين شمالاً في مدينة الخرطوم حاليًا.
ولأهميتها الكبرى عُني بنشرها عدد من كبار المؤرخين في السودان؛ إذ نشرها مكي شبيكة دون تحقيق لأول مرة في سنة 1947م، ثم حققها ونشرها المؤرخ المصري الشاطر بصيلي في سنة 1961م، إضافة إلى تحقيق البروفيسر فضل الذي سيظهر قريبًا. وقد حققها أيضًا المؤرخ البريطاني بيتر هولت ونشرها بالإنجليزية في سنة 1999م، وتعتبر نشرته هذه أول نشرة كاملة بالإنجليزية لها؛ حيث كان هارولد ماكمايكل قد نشرها مختصرة ضمن كتابه «تاريخ العرب في السودان» الذي صدر في جزأين سنة 1922م.
أسس الفونج سلطنة سنار وأعلنوا إسلامهم في بداية عصر السلطنة، وأصبح الإسلام دينها الرسمي، واللغة العربية لغتها الرسمية في الإدارة والتجارة. واختلف المؤرخون حول أصل الفونج، وحول دوافع اعتناق سلاطينهم للإسلام. فبعضهم يرى أنهم من أصول عربية تعود إلى بني أمية، ويرى آخرون أنهم من أصل سوداني ينتمون إلى قبيلة «الشلك» التي سكنت الضفة الغربية للنيل الأبيض عند خط عرض 15 شمالاً، ويرجح يوسف فضل هذا الرأي. وذهب فريق ثالث إلى أن أصل الفونج هم «البرنو» أو «الفور» الذين هاجروا إلى النيل الأبيض واستطاعوا بعد سلسلة من الحروب أن يؤسسوا مملكة سنار.
ولكن ما معنى كلمة «الفونج»؟ يرى المؤرخ البريطاني بالمر رتشموند أن كلمة «فونج» تعود إلى (fune) وهو أحد ملوك كانم، من قبيلة سيف بن يزن التي سكنت جنوب صحراء أفريقيا الكبرى. ويرى أن المعنى اللغوي للكمة تعني (اللثام) وكان من عادة الملوك في تلك المنطقة أن يتلثموا، وقد ذكر خير الدين التونسي في أقوم المسالك أن سلطان الفور في زمانه كان يتلثم بشاش أبيض فلا تظهر منه سوى الأحداق. ولكن الشاطر بصيلي له رأي آخر في معنى «الفونج» سنعرفه بعد قليل.
ورغم هذا الاختلاف في أصل «الفونج» إلا أن المؤرخين اتفقوا على أن سلاطين الفونج تركوا للعلماء والمتصوفة مهمة نشر الإسلام، وتعليم سكان السلطنة تعاليمه وفرائضه. ثم بعد قرنين من نشأة السلطنة، وجد الإسلام طريقه إلى مؤسسات المجتمع السناري وسلطته السياسية. وكان أغلب أولئك العلماء والمتصوفة من السودانيين الذين تعلموا في مصر، أو في الحجاز، إضافة إلى بعض العلماء الذين وفدوا من خارجه واستقروا فيه، على نحو ما جاء في كتاب «الطبقات» لود ضيف الله. وأنشأ أولئك العلماء والمتصوفة الخلاوى القرآنية التي لا تزال تشتهر بها بلاد السودان؛ وهي مؤسسات متعددة الوظائف التعبدية، والتعليمية، والاجتماعية». وأسهمت الخلاوى في تخريج أجيال متعاقبة من الفقهاء وحملة العلوم الشرعية.
لم تكن سلطنة سنار أو «الفونج» ترفلُ طوال عهدها في الرخاء والاستقرار والعدالة والأمن؛ فقد شهدت أوقاتًا عصيبة، ووقعت فيها مظالم كثيرة ومن ذلك ما حكاه ود ضيف الله صاحب «كتاب الطبقات» من أن السلطان بادي الأحمر أمر قواته بجمع العشور من سكان سنار تحت زعامة سليمان التمامي، وحين تسامع الناس بخبر الجيش القادم ومهمته، جمعوا أموالهم ووضعوها عند الفقيه حمد ود الترابي، وآخرون وضعوها عند غيره من المشايخ والفقهاء، ولكن هؤلاء المشايخ لم يستطيعوا صد جيش السلطان؛ «فقد نهب ود التمامي مواشي الجميع بما فيها غنم الفقراء». ويكمل صحاب الطبقات الحكاية فيقول:
ويظهر من هذه الرواية أن الفقيه حمد ود الترابي كان ملاذًا للفقراء والمظلومين، وكان يقول لهم إنه لا يقبل الهدية، ولا له جاه ولا شفاعة عند السلطنة. ويظهر منها أيضًا أن الفقهاء كانوا قليلي الحيلة في مواجهة ظلم السلاطين وتعسفهم.
كنز آخر كشفت عنه احتفاليات السودان بسنار عاصمة للثقافة الإسلامية وهو: كتاب الشاطر بصيلي محمد عبد الجليل، وهو مؤرخ مصري، تشكلُ مؤلفاته مدرسة قائمة بذاتها في تاريخ مصر والسودان، وله كتاب مرجعي بعنوان: «معالم تاريخ سودان وادي النيل من القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر»، وكتاب: «تاريخ وحضارة السودان الشرقي والأوسط من القرن السابع إلى القرن التاسع عشر الميلادي»، إضافة إلى تحقيقه لمخطوطة كاتب الشونة الذي أشرنا إليها. وله محاضرة نفيسة ألقاها في نادي الموظفين بمدينة «ود مدني» في يونيو/حزيران 1935م، ونُشرت في كتيب بعنوان «على أطلال مدينة (سن النار)، أو مملكة الفونج»، وهو يذهبُ بخلاف المؤرخ بالمر إلى أن كلمة «الفونج» مأخوذة من لغة «الشُلك» الذين كانوا يسكنون ضفاف النيل الأزرق، ومعناها «الرجل الغريب»، وليس «الرجل الملثم» كما ذهب بالمر. وناقش الشاطر بصيلي الآراء الثلاثة التي ذكرناها بشأن الأصول العرقية للفونج، ورجح انتماءهم للأموين، وأكد على أن عمارة دنقس مؤسس السلطنة قد اختار «سن النار» وهو اسم ساحرة بارعة صادفها في حروبه في منطقة النيل الأزرق، وأطلقه على مملكته فأصبحت تسمى «سنار».
تدهشك حيوية أهل السودان وجديتهم في الاحتفال بسنار، وقد نشرت الأمانة العامة للاحتفال 70 كتابًا حتى نهاية سبتمبر 2017م. وأميز ما يميز هذه الكتب أمران: الأول هو موضوعاتها القيمة التي تغطي معظم مراحل تاريخ السودان قبل الإسلام وبعده، وثانيها هو حسن طباعتها ودقة لغتها العربية. ولا غرو أن تظهر هذه الكتب بهذا المستوى الرفيع ورئيس لجنة النشر هو البروفسير إبراهيم القرشي، وزير الثقافة السوداني الأسبق.
وثمة سبعون كتابًا أخرى في طريقها للنشر، وستظهرُ كلها قبل نهاية هذا العام حسب تصريحات البروفسير يوسف فضل. وهي تغطي مجالات: الآثار، والفولكلور، والتاريخ، واللغة، والمجتمع، والسياسة والدين، والفقه، إضافة إلى إعادة إصدار بعض الكتب النادرة مثل «مخطوطة كاتب الشونة» محققة بعنوان «تاريخ ملوك سنار والحكم التركي المصري في السودان»، وترجمة كتاب The Funj Kingdom of Sennar إلى العربية بعنوان «مملكة الفونج السنارية» تأليف المستشرق كروفورد. وكل هذه الكنوز ظهرت لنا في مناسبة «سنار عاصمة الثقافة الإسلامية»، وهي تستحق القراءة كونها تكشف عن صفحة من صفحات التراث الإسلامي العريق في قلب القارة السمراء.