«ريش» و«من أجل زيكو»: متى يكون الفقر مقبولًا؟
لطالما كان الفقر جزءًا رئيسيًّا من أفلام السينما المصرية، لأنه لطالما كان جزءًا رئيسيًّا من مصر نفسها، يمثل الفقر لفظة أساسية في سرديتنا عن أنفسنا كدولة نامية يسكنها ملايين الأفراد في ظروف مادية واجتماعية غير آدمية، انقسمت تلك الأفلام بين أفلام ضد سلطوية، تصور الظروف المعيشية الصعبة في مقابل الظلم المؤسسي، أو أفلام تمثل الفقير المرح الذي يعاند الظروف ويمر بمواقف كوميدية مضحكة، لكنها في داخلها مؤلمة يحتمها عليه وضعه الاقتصادي والاجتماعي، هناك نوع ثالث من الأفلام التي تمثل الفقر، وهو ما يمكن تسميته «إباحية الفقر – poverty porn»، وهو استغلال أوضاع الطبقات التي تقع في أدنى الهرم المجتمعي لاجترار أحداث إثارية وموغلة في الميلودراما والتطرف الأخلاقي والمادي، فتصبح المادة النهائية مزيجًا بين النقد المجتمعي والتسلية الاستغلالية.
تراجعت صناعة السينما في الأعوام الأخيرة ومعها كم الأفلام المنتجة سنويًّا في مصر لأسباب متعددة؛ منها طبيعة الإدارة السياسية والتضييق الرقابي، وتراجع جمهور الصالات السينمائية بشكل عام بعد جائحة كورونا، تعرض الأفلام القليلة التي يتم إنتاجها على منصات رقمية أو تصدر في المواسم المختلفة مثل العيدين أو الصيف، وتتراوح أشكالها المحدودة بين أفلام الحركة والحرب المصنوعة تحت إشراف الدولة أو أفلام الكوميديا الخفيفة، لكن ازدهر مؤخرًا الشق الآخر من الصناعة المصرية عالميًّا، وهو صناعة السينما المستقلة التي تستهدف المهرجانات العالمية وتدعم من قبل مؤسسات دولية ومحلية بميزانيات متوسطة أو محدودة، عادة ما تتناول تلك الأفلام طبقات مجتمعية بعينها، لاعتبارات عدة منها ميل صناع تلك الأفلام للارتباط بتصنيف الأفلام الواقعية، أو طبيعة المهرجانات العالمية التي تميل لدعم رؤية مأساوية محددة للدول النامية من منطلق استعماري وفوقي.
صدر في عامين متتاليين فيلمان مصريان يتناولان طبقات متشابهة تخوض صراعات متشابهة في مجتمعات تكاد تكون متطابقة، قوبل أحدهما بالدعم والإطراء والنجاح الجماهيري، بينما قوبل الآخر بدعوات المقاطعة والمنع على الرغم من كونه غير معروض بشكل واسع في دور العرض، لم يمر العرض المحلي الأول لفيلم “ريش” لعمر الزهيري بسلام، فبعد فوزه بجائزة أسبوع النقاد في مهرجان كان، التقطه مهرجان الجونة السينمائي، كان من الممكن أن يمر العرض مثل أي عرض مهرجاني محدود في فعاليات تقع في مدينة ساحلية صغيرة يشهد عروضها مجموعة محدودة من النقاد وصناع السينما والجمهور.
لكن ما جعل اسم الفيلم يجري على ألسنة الجميع ويصبح حديث وقته هو خروج عدد من الممثلين المصريين من العرض اعتراضًا على إساءة الفيلم لسمعة مصر بتصويره “مشاهد مقززة” للفقر في الطبقات الدنيا والظروف الاقتصادية الصعبة، تلا ذلك بعدة أشهر عرض فيلم من أجل زيكو من إخراج بيتر ميمي، والذي تقع أحداثه في طبقة مشابهة إلى حد كبير وظروف لا تختلف كثيرًا عن تلك التي صورها فيلم ريش، نجح الفيلم جماهيريًّا نظرًا لقصته الخفيفة وأداءات ممثليه خفيفي الظل، لم يتهمه أحد بتصوير صورة مغلوطة أو مقززة لمصر، فما الذي صنع تلك الفجوة الضخمة في ردود الأفعال بين فيلمين يتناولان طبقة واحدة في بلد واحد.
الكوميديا/الكوميديا السوداء
تقع أحداث فيلم ريش المحدودة – فهو فيلم لا يعتمد على الدراما بشكل رئيسي بل على الأجواء العامة – في بيت صغير تسكنه أسرة مكونة من زوج وزوجة وثلاثة أطفال، تعيش الأسرة في ظروف مادية غير آدمية، يخلو منزلهم من أي أثاث عدا أريكة صغيرة وسرير، تظهر الحوائط المقشر دهانها والتلفزيون القديم الذي يعرض مشاهد تبدو خارجة عن الزمن، يقرر الأب ذات يوم أن يقيم حفلة عيد ميلاد باذخة لطفليه، يريد أن يبهرهم فيأتي بساحر مناسبات، يجرب الساحر خدعة تحول الأب إلى دجاجة، لكنه لا يملك القدرة على إرجاعه رجلًا مرة أخرى، يمثل تحول الأب إلى كائن غير آدمي مما يترك الأسرة دون معيل الحادث المحفز الرئيسي لأحداث الفيلم الذي تتحول وجهة نظره لتبني وجهة نظر الزوجة التي لا صوت لها تقريبًا وهي تحاول أن تتلمس طريقها في عالم ليس للنساء، وخاصة الفقيرات منهن.
تبدو قصة ريش وهي في وضع كتابي قصة مباشرة وبسيطة، ربما تتضمن عوامل كوميدية ومأساوية في الوقت نفسه، لكن الأساليب التي تبناها عمر الزهيري تخرج الفيلم من كونه فيلمًا سهل الهضم والتلقي إلى فيلم يميل لتبني جماليات غرائبية متأثرًا بسينما شمال أوروبا وبعض المخرجين السرياليين الغرائبيين مثل السويدي روي أندرسون والفنلندي آكي كوريسماكي، يعتمد الفيلم في كوميديته على الجانب المظلم منها، أو كما يمكن تسميته الكوميديا السوداء، ويخرجه ابتعاده عن التمثيل المباشر للأشياء كما هي مثل زمن ومكان الأحداث أو اللغة واللهجة التي يتحدث بها الممثلون عن كونه فيلمًا كوميديًّا أو مسليًا، فهو فيلم مجرد وصعب المشاهدة، يعتمد على العمارة والتصوير والصوت والحركة لإيصال ما يريد إيصاله، يمكن بالطبع الجدال بأنه فيلم لم يصنع لأعين الطبقة التي يمثلها، فمن الصعب أن يتم الاستمتاع بالفيلم على نطاق جماهيري واسع، فهو ليس مضحكًا أو مسليًا بشكل تقليدي، ولا يجعل من الفقر مادة إثارية تنهار فيها القيم وتعم بها الفوضى التي تجذب الجماهير بشكل تطهيري.
على عكس ذلك يمكن تصنيف فيلم من أجل زيكو، فهو فيلم كوميدي ببساطة، ليس فيلم كوميديا سوداء أو كوميديا اجتماعية، توجد به مزحة في كل جملة حوارية، وعناصر كوميديا جسدية، وأغنية أصبحت ظاهرة محلية، تقع أحداث من أجل زيكو في بيت ضئيل، بالكاد يحتوي على ما يجعله آدميًّا، وتعيش به أسرة من أربعة أفراد، زوج وزوجة وطفل ووالد الزوج، يكتظ البيت بساكنيه ومتطلباتهم المعيشية، بالكاد تكفي الأسرة عائدات عمل الزوج الذي يقود سيارة تكريم الموتى والزوجة التي تعمل في طبخ الطعام الجاهز للسيدات الأعلى طبقيًّا.
تواجه الأسرة مصاعب مفاجئة حينما يمسها الأمل، يأتيهم خبر أن ابنهم مقبول في مسابقة أذكى طفل في مصر، وبسبب صعوبة تدبير نقود الرحلة يتحايل الزوج بقيادة عربة عمله التي لا يملكها حتى يصل إلى سيوة، ويضطر لأخذ الأسرة بأكملها، مما يولد مواقف وصعوبات على طول الطريق، بشكل كتابي فإن قصة زيكو يمكن أن تحتوي عناصر مأساوية، فإن الأمل الذي يواجه الأسرة يصعب أن يكون حقيقيًّا، أو أن يتم تحقيقه فعلًا أو تغيير واقعهم بصدفة إلهية، لكن طبيعته الخفيفة التي تولد الكوميديا من الظروف الصعبة جعلته فيلمًا سهل الهضم والاستهلاك، لا يلوم مؤسسة أو نظامًا معينًا على حال الأسرة، ويعتمد على الحلول السحرية لحل المشكلات، مما يولد “شعورًا جيدًا” وأملًا متجددًا في تغيير الحال في يوم وليلة.
وصفت طبيعة الفقر في فيلم ريش بالمقززة، ووصفت بطلته التي تقوم بدورها دميانة نصار القادمة من قرية في المنيا بالوصف نفسه، ذلك لأنه لا يوجد ما يمكن الضحك عليه في الفيلم، لا تضحك البطلة نفسها على معاناتها، بل تعاني فحسب، لا يوجد أمل سهل يغير حياتها في الأفق، الساحر لا يطلق تعويذة تحسن مستواها المادي، أو يجعل البلد الذي تعيش به أكثر رأفة بالنساء الواقعات في نفس الظروف، لا تتفاجأ بأن أحد أبنائها يملك موهبة سوف تنقل حياتهم إلى مستوى آخر في غمضة عين، لم يصف أي ممثل أو ناقد فيلم زيكو بالمقزز على الرغم من عيش أبطاله في بيت مشابه لذلك الذي يعيش فيه أبطال ريش، لكن أبطال زيكو يملكون الرضا والقدرة على الضحك في وجه المآسي، كما أن الوضع البصري الذي يختاره الفيلم لنفسه مرح وملون، تطغى عليه درجات دافئة من الأحمر والأصفر، بينما يختار صناع فيلم ريش صناعة صورة باردة مطفأة الألوان، تندمج فيها العناصر بخلفياتها، يغطى كل شيء بمزيج من الرمادي والأزرق المشبع بالأبيض الذي يضفي روحًا مقلقة تغطي على المرح في الفيلم.
لم يوصف فيلم من أجل زيكو بالإساءة إلى مصر، فمن ناحية هو من إخراج بيتر ميمي الشهير بعمله تحت إدارة الشئون المعنوية، كما أنه لا يصور الفقر كوضع أبدي أو حياة يصعب الفكاك منها، في حين تم اتهام فيلم ريش بتجاهل إنجازات الدولة وعملها على تحسين الأوضاع المعيشية لمن هم تحت خط الفقر، ذلك الازدواج في الرؤية نابع من ميل المشاهد من الطبقات الأعلى لنبذ ورفض الامتيازات الخاصة التي يملكها، ورفضه لمواجهة أن هنالك من يعيش بجانبه في ظروف لا يستطيع تصديقها، لكن عندما يعرض نفس المستوى المعيشي بنفس راضية لا توجه أصابع الاتهام لانعدام العدالة الاجتماعية، بل تلوم الأفراد على الكسل، فإن الواقع يصبح أخف وأكثر قابلية للاستهلاك.
الانتصار/الخسارة
لا يخفى على أحد أن فيلم من أجل زيكو هو “اقتباس” حر من فيلم فتاة الشمس الصغيرة Little Miss Sunshine الأمريكي الصادر عام 2006، نقل زيكو أحداثه إلى مصر بسلاسة، وربما اختار لأبطاله أن يكونوا في مستوى أكثر فقرًا من أبطال الفيلم الأمريكي، لكنه غير كذلك التيمة الرئيسية للفيلم التي يمكن وصفها ببساطة بأنها الخسارة، فتاة الشمس الصغيرة هو فيلم عن الخسارة، بينما من أجل زيكو هو فيلم عن الانتصار، يصعب على فيلم مثل زيكو أن يغزل قصة حول تقبل ما هو متوسط، لذلك استبدل بالبطلة المتوسطة التي لا تملك موهبة خارقة أو جمالًا باهرًا بطلًا يملك صوتًا غنائيًّا لا مثيل له، طفلًا يملك موهبة مدفونة يؤدي اكتشافها لإنقاذ أسرته ونفسه من الفقر ويصنع لنفسه مستقبلًا لم يكن يتوقعه.
كان من الممكن أن يسير صناع من أجل زيكو حسب السيناريو الأصلي، وأن يتبنى ثيماته الرئيسية ويستنسخ صراعاته، لكنهم لا يملكون رفاهية إنهاء الفيلم دون انتصار، انتصار تقليدي خيالي يصعب تصديقه، لكنه يرسم الابتسامات على الشفاه ويجنب الفيلم اتهامات الإساءة للبلاد أو إدارتها، أو إفشاء اتهامات الكآبة وانعدام الأمل والمناظر المنفرة، الانتصار الذي ركز عليه الفيلم الأصلي هو اكتشاف مفهوم الأسرة من جديد، وتقبل الاختلاف وإمكانية أن يكون الفرد عاديًّا، عن طريق رحلة طريق تكشف مكنونات كل فرد في الأسرة وتغلف كل لحظة بكوميديا خفيفة لا تمحو الألم لكنها تخفف من وقعه، يحتفي الفيلم بالخاسرين، الذين يكمن انتصارهم في المحاولة، بينما يخلق زيكو انتصارًا كل ما يتطلبه صدفة كبرى، كلا الفيلمين يمكن تصنيفه تحت اسم أفلام الشعور الجيد Feel Good Movies، لكن زيكو يختار الشعور الجيد الذي يوفره النجاح المادي، وليس إعادة استكشاف الروابط العائلية.
تمثل ذروة فيلم زيكو وذروة فيلم ريش الاختلاف الرئيسي بينهما، والذي يشبه الاختلاف بين زيكو والفيلم الذي اقتبسه، وهو التضاد بين الانتصار والخسارة، لم تكلل رحلة المرأة في ريش بالانتصار لأن عالمها فاقد لمقوماته، لا يمكن تصور أن تهديها صدفة ما عوامل نجاح غير منطقية في ظل ظلم مؤسسي وضغوطات متعلقة بالنوع، في حين اختتم زيكو ذروته بأغنية انتصاره التي تضمن له التلقي الجيد والنجاح الجماهيري، وتجاهل التفكير في مفاهيم العدالة الاجتماعية أو غيرها، يمكن النظر إلى رد الفعل تجاه كلا الفيلمين كمؤشر لطبيعة التلقي وكيف يسهل تقبل الأوضاع المؤلمة فقط إذا تقبلها الذين يمرون بها، مما يطغى على الشعور بالذنب والرفض، يجب تغطية الفقر والأوضاع الاجتماعية المتدنية بغلاف من الخفة والسعادة لكي يكون من الممكن تمريره، أما الفقر غير المغلف بالأمل والألوان فإنه يصبح عاريًا، كاشفًا ويصعب تقبله.