عندما تغير عمر بن الخطاب
انطباع عام كان عندي مفاده أن «عمر بن الخطاب» كان شديد الطبع، في حين كان «أبو بكر» لين الجانب، ومكثت مع حبي للصحابة كلهم -رضوان الله عليهم جميعًا- أشعر بالرهبة من ذكر عمر، وأتوقف أمام شدته مع النساء، فلا يخفف من رهبتي إلا خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العطوف وترفقه بهن، فتهدأ نفسي وتسكن في جوار رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
لكن مع تقدم العمر، ومتابعة الاطلاع، بدأت أقترب أكثر من سيرة عمر بن الخطاب لأكتشف أن الصورة التي كانت في ذهني عنه غير صحيحة، وأن عمر بن الخطاب عبر مسيرته في دروب الإسلام قد تغير، نعم.. تغير عمر، كما يتغير المسلم حين يقول سمعنا وأطعنا، ويقدم حكم الله ورسوله على طباعه وميوله.
ابن ثقافته
كان عمر قويًا عزيزًا، لكن قوته لم تقف حائلًا بينه وبين اتباع أعراف قومه، فوأد عمر ابنته قبل الإسلام، وعندما علم بإسلام أخته لطمها لطمة أطارت قرطها من أذنها، إلى أن شهد عمر بن الخطاب أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ومنذ تلك اللحظة تحول عمر، وتغيرت عبر السنين طباعه، فنجد في بداية المسيرة عمر الذي يغار، لا على نسائه وحسب، بل على نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيسأل النبي أن يحجب نساءه، وتنزل الآيات المحكمات بذلك، فلا يهدأ عمر، بل يلقى «سودة بنت زمعة» وهي في الطريق لا يظهر منها شيء فيقول لها:
«عرفناك يا سودة» -وكانت جسيمة- فتشكو للرسول -صلى الله عليه وسلم- فيقول لها الرسول مطمئنًا: «إنه قد أذن لهن في الخروج لحوائجهن»، فتخرج نساء الرسول بعدها في صحبته إلى الجهاد والحج.
وهو عمر الذي عرفت غيرته الشديدة على أهل بيته حتى ذكر رسول الله له يومًا:
وهو عمر الذي قال:
هكذا كان شأن عمر مع النساء: لا صوت يعلو، ولا مشورة، ولا خروج.
فجر التغيير
ثم وجدناه بعد أعوام من «.. حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم..» وأعوام من تربية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بالكلمة والقدوة يتحول إلى عمر الذي لا يملك -برغم غيرته- أن يمنع نساءه من الخروج للعشاء والفجر في المسجد، فلما راجعه ابنه وهو يذكره بغيرته يقول:
«قال رسول الله: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، ويصبح عمر الذي يقبل أن يعلو صوت امرأة في المسجد ترده إلى حكم الله ورسوله في المهور، وفي روايات نجد عمر الذي لم يكن يعد للنساء أمرًا -كشأن قومه في الجاهلية- يولي امرأة يقال لها الشفاء حسبة السوق.
ووجدناه يقف للمرأة التي نزلت فيها سورة «المجادلة» تنصحه وترشده، فلا يملك أن يمشي إلا بعد أن تفرغ من كلامها كله، فيراجعه أحد الصحابة، فيقول: «وكيف لا أسمع لمن سمع الله لها»، ثم هو في خلافته يتفقد أحوال الأرامل، ويحمل إلى منازلهن الدقيق على ظهره.. ويطهو لامرأة تضع وليدها طعامًا، ويدفع به لزوجها الذي لم يكن يعرف أن الذي رحم أهل بيته هو عمر بن الخطاب.
أجل، تغير عمر.. ما تغير إيمانه ولا يقينه، ولا تغير صدقه وإخلاصه، ظل عمر الذي يتجنب الشيطان فجه، لكن خلقه تغير، صار بالإيمان أرق وألين، صار وقَّافًا عند حكم الله ورسوله، والتزم بما «أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم».
أسلم عمر حقًّا؛ فتغير.. يرحمك الله يا ابن الخطاب.