عندما انبثقت الماركسية من رحم التصوف
من تقع عيناه للوهلة الأولى على عنوان هذا المقال، ستثيره المفارقة بطبيعة الحال ولعله يظن ربما أن هناك خطأً ما فيه، بدايةً أود أن أطمئن القارئ أن العنوان الذي قرأه سليم ومقصود المعنى تماماً.
ولكن هل يرمي ذلك العنوان، إلى أن كارل ماركس كان صوفياً؟ الإجابة التقليدية هي بالقطع لا، حيث لم يكن الأخير كما هو معروف مؤمنًا بالأديان فضلاً عن التصوف، إلا أن المفارقة وراء تلك الحقائق المسلم بها والتي لا يشكك فيها أحد، هي أن الرجل قد شيد فلسفته المادية الجدلية الشهيرة من خلال تأثيرات متراكمة تنحدر من التصوف اليهودي والمسيحي، تسربت داخل بنية الفلسفة في أوروبا منذ القرن السابع عشر، ثم تطورت في القرن اللاحق الذي ولد ومات فيه كارل ماركس، وصولاً إلى القرن العشرين الذي شهد منتصفه تشكل مدارس ما بعد الحداثة التي بدأت تعي اتجاهاتها النقدية بأثر رجعي تأثير التصوف اليهودي على الفلسفة أو بالأحرى المعرفة الغربية برمتها.
وكان من تجليات ذلك على سبيل المثال، أطروحة الفيلسوف الألمانى يورجن هابرماس عن تأثير التصوف اليهودي على الفلسفة الألمانية،والتي أكد خلالها أن الفكر التصوفي اليهودي قد حكم الفلسفة الألمانية والفلسفة الغربية الحديثة بوجه عام، هذا فضلاً عن أطروحات دافيد باكان في هذا الإطار التي قاربت بين منهج التحليل النفسي لسيجموند فرويد والتراث القبالي في تقنيات الأحلام ومركزية الجنس فى كليهما.
لأسباب عديدة لا تخفى لم يتم النظر إلى الماركسية حتى الآن في ضوء هذا المنظور، ولكننا سنحاول هنا رغم كل تلك المفارقات البادية في هذا التناول، أن نقدم من خلال تقفي ينابيع روافدها الرئيسية المتمثلة في المثالية الألمانية والديالكتيك الهيجلي تحديداً، وفسلفة فيورباخ المادية، منظوراً مختلفاً بشكل جذري يعيد تأريخ جينالوجيتها المعرفية، ويؤصل لها من زوايا وأبعاد منسية لم يتم التطرق لها من قبل على الرغم من وجاهتها واعتباريتها وأهميتها غير القليلة كما سنرى في السطور المقبلة.
تأثيرات التصوف في الفلسفة المثالية الألمانية
التصوف بطبيعته ظاهرة دينية تتسم بالعالمية في الخبرة الإنسانية والدينية المشتركة، ولذلك ليس هناك حتى الآن تعريف شامل وواضح، يتضمن جملة تلك الخبرات التي توصف عادة بالوعي الصوفي. حيث هو يشبه المفاهيم النفسية الأخرى التي لا تسمح بطبيعتها بالتعريف وتستعصي عليه، وسبب هذه الصعوبة التي تقترب من حدود الاستحالة جملة أسباب يمكن إجمالها فى كون التجربة الصوفية بتباين صورها، وتعدد أنماطها تجربة فردانية خالصة تنزع إلى الاحتجاز دون المشاركة ولا تستهوي إلا القلة من أتباع الأديان عموماً.[1]
و قد تقاطعت الفلسفة مع التصوف تاريخيًا كما يذكر عزمي بشارة في كتابه: «الدين والعلمانية في سياق تاريخي»، فى حالات استثنائية تحولت الفلسفة فيها إلى ما يشبه النحلة الدينية كما فى حالة فيثاغورس وبعض تيارات الرواقية والأفلاطونية، وكما فى حالة بعض الفلاسفة الثيولوجيين الأكثر حداثة مثل ابن سينا (980 – 1037 م) ومايستر إكهارت (1260 – 1327 م) وصدر الدين الشيرازى (1572 – 1640) من الذين تتميز فلسفتهم بأنها آتية من اللاهوت، لكنها تخرج عن البنية اللاهوتية العادية، وتبدأ بالتفلسف حول الغيب بوجدانية إلى حد الإشراقية، حتى حدود التعبد والتصوف فتعود لتتجاوز حدود الفلسفة، ولا مجال هنا في الأخير – بحسب بشارة – للتوسع فى مسألة هل تكسب العالمين، عالم الفلسفة وعالم اللاهوت، أم تخسرهما. اللاهوتيون يقولون هؤلاء فلاسفة، والفلاسفة يقول هؤلاء لاهوتيون.. حيث لا مجال بالنهاية وفق ما يذكر بشارة للمكوث طويلا عند هذه الحالات.[2]
يُعرف التـراث الصـوفي اليهـودي كما هو معلوم باســم «القبَّــالاه» والقبَّالاه هي مجموعة التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود. والاسم مُشتَّق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر أو القبول أو التقبل أو ما تلقاه المرء عن السلف، أي «التقاليد والتراث» أو «التقليد المتوارث». وكان يُقصَد بالكلمة أصلاً تراث اليهودية الشفوي المتناقل فيما يعرف باسم «الشريعة الشفوية»، ثم أصبحت الكلمة تعني، من أواخر القرن الثاني عشر، «أشكال التصوف والعلم الحاخامي المتطورة».[3]
يعد أهم تطور حدث في تاريخ القبالاة هو ظهور القبالاة اللوريانية نسبة إلى إسحق لوريا، والذي يُعرف أيضاً باسم «هاآري هاقدوش» أي «الأسد المقدَّس». والذي يشار إليه أحياناً باسم «الإشكنازي»، أو اختصاراً باسم «آري».[4]
كان لمذهب لوريا الجديد في القبالة ومنهجه النقدى التحليلى الذى يبدأ بالنقض والتفكيك ثم ينتهي بالبناء والتركيب فى صورة مختلفة وجديدة، أثر واضح على فلسفة هيجل (1770 – 1831 م)، حيث ناقش هيجل مذهب لوريا في القبالة في محاضراته بعنوان «التاريخ والفلسفة والدين»، كما كان لمذهب لوريا أيضًا الأثر الواضح على سيجموند فرويد في اتجاهاته في مجال علم النفس والتحليل النفسي.[5]
و جدير بالذكر هنا أن فلسفة «إسبينوزا» الذي درس بدوره العبرية والتلمود في مدرسة دينية يهودية من 1639 حتى 1650م. والتي اكتسحت العالم الغربي بأسره،و أثرت بشكل عميق على الفلسفة الألمانية بوجه خاص، كانت فلسفة ذات معالم قبَّالية واضحة.
كما كانت السبينوزية هي أهم القنوات التي تدفَّق من خلالها الفكر القبَّالي وخطابه على العقل الغربي.[6] ورغم البنية المنطقية والديكارتية الخارجية التي تحيط بفلسفة سبينوزا، فإنها تظل تتصل في بنيتها العميقة مع التصوف. [7]
كما هو معروف تقوم فلسفة سبينوزا على فكرة وحدة الوجود، ومصطلح وحدة الوجود Pantheism هو مصطلح يوناني مؤلف من مقطعين «Panبمعنى شامل أو عام» و«theismبمعنى إله» فهو شمول الألوهية لكل شيء، أو أن وجود الله ووجود العالم هما ضرب واحد من الوجود، وقد عرف البروفسور «إبراهام ولف» وحدة الوجود فى مقال له في دائرة المعارف البريطانية حيث يقول: «وحدة الوجود في الفلسفة واللاهوت تعنى النظرية التي تقول إن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، فالكون ليس خلقًا متميزًا عن الله». [8]
ووفقًا لهذا التعريف الذي يطرحه البروفسور إبراهام وولف والذي يمثل وجهة النظر الشائعة عن مصطلح وحدة الوجود والذي يتفق كذلك مع التحليل اللغوي لمصطلح وحدة الوجود Pantheism، فإن وحدة الوجود تكون بذلك النظرية التي تقول إن العلاقة بين الله والعالم علاقة هوية بسيطة.[9]
بحسب «ولتر ستيس» في كتابه «التصوف والفلسفة» يثير ذلك التعريف الأخير عدداً من المغالطات، حيث إذا لم تكن وحدة الوجود تعني شيئاً سوى مجرد المطابقة في الهوية بين الله والعالم، فإن ذلك يرادف قولنا إن صاحب فلسفة وحدة الوجود يقصد أن الله هو مجرد اسم آخر يختار بعض الناس استخدامه- لسبب بالغ الغرابة – لما يُطلق عليه بعضهم الآخر اسم العالم، وهو ما لا يعبر في النهاية – بحسب ستيس- عن حقيقة قضية وحدة الوجود حيث لا تتمثل الإشكالات التي تثيرها المسألة في مجرد الخلاف اللغوي في المسميات والألفاظ، ولهذا فإن العلاقة بين الله والعالم فى فلسفات وحدة الوجود المختلفة بطبيعة الحال ليست مجرد علاقة هوية بسيطة بل علاقة هوية مركبة.[10]
و لذلك ساق ستيس تعريفاً آخر أكثر تركيباً لمسألة لوحدة الوجود، حيث عرف وحدة الوجود بشكل عام بأنها الفلسفة التي تؤكد القضيتين الآتيتين في آن واحد معاً وهما:-
– العالم يتحد مع الله في هوية واحدة.
– العالم متميز عن الله أي أنه لا يتحد معه في هوية واحدة.
وهذا الرأي كما يذكر ستيس ينطوى – على الأقل في ظاهرة – على مفارقة منطقية وذلك بطبيعة الحال قبل التعمق داخل الشروحات الفلسفية والمنطقية المعقدة لفكرة وحدة الوجود، وهذه المفارقة الظاهرية على الأقل تشكل وفقاً لستيس السمة الكلية لجميع أنواع التصوف.
ولذلك فإن وحدة الوجود بحسب ستيس مهما عولجت فلسفياً ومهما قدمت فى سياق المحاججات المنطقية، فإنها تظل رغم ذلك تضرب بجذورها باستمرار في التصوف وفي عالم الوجدان والشعور، حيث هي بالأصالة فكرة صوفية قبل أن تكون فلسفية، وربما كان ذلك أحد العوامل في كثرة التعبير عنها تاريخياً من خلال اللغة الشعرية بشكل أكبر من مجرد التناول الفلسفي في معالجة هذه المسألة.[11]
في سياق علاقة فلسفة سبينوزا بالتصوف يقول أيضاً هارولد هوفدنج فى كتابه تاريخ الفلسفة الحديثة:
و تكاد تتطابق أطروحة سبينوزا حول الطبيعة الطابعة والطبيعة المنطبعة بشكل مذهل مع أطروحات يوهانز سكوت اريجينا (815 – 877 م) الأقدم كثيراً من طروحات سبينوزا والأكثر وضوحاً في علاقتها بالتصوف، واريجينا هو فيلسوف أيرلندي المولد عاش في فرنسا. وأسس مذهبه الفلسفي الصوفي على الأفلاطونية المحدثة، وعرض جوهر مذهبه هذا في مؤلفه «في الطبائع الإلهية». الذى قسم فيه الوجود إلى أربعة طبائع، تستدعي في الذهن بشكل مباشر مقولات سبينوزا:
(1) لم تخلق بل هي خالقة.
(2) مخلوقة وخالقة.
(3) مخلوقة وليست خالقة.
(4) غير مخلوقة وغير خالقة.
وقد كان مذهب اريجينا في جوهره أيضاً كفلسفة سبينوزا مذهبًا من مذاهب وحدة الوجود، ولذلك أدانته الكنيسة الكاثوليكية.
من الجدير بالذكر أن فلسفة سبينوزا قد تركت أثراً غائرًا في الفلسفة الحديثة بلغ من الحد أن قال عنه فيلسوف بحجم هيجل «إما أن تكون إسبينوزياً وإما ألّا تكون فيلسوفاً على الإطلاق»[13]، وقول الأخير يكاد يكون تقريباً تردادًا لعبارة مشابهة لليسينغ فى محاورته الشهيرة مع جاكوبى سنة 1780 م عندما ذكر له فى إحدى فقرات رسالته بأنه «ليس هناك فلسفة غير فلسفة سبينوزا».
وقد قيل الكثير عن حجم تأثير سبينوزا منذ القرن السابع عشر وإلى يومنا هذا، لعل من أبرزها إظهاراً لحجم ذلك التأثير قول جيل دولوز:
وقد شكلت فلسفة سبينوزا في العموم لاهوتًا سرياً أخذ انتشاره بين الفلاسفة وطلاب الفلسفة في أوروبا في بادئ الأمر طابعًا متخفيًا، أدى تناميه وتمدد نفوذه في النهاية إلى طبع فلسلفة سبينوزا بصمتها على العديد من المدارس والاتجاهات الفلسفية الغربية التي توالت بعد ذلك وخاصة المثالية الألمانية عبر تأثير فلسفته الواضح على فلاسفتها، وبوجه خاص على أقطابها الثلاثة: فيشته وشيلينغ وهيجل.
وقد أعادت وأحيت المثالية الألمانية التراث الفلسفي الصوفي ذا الجذور الأفلاطونية المحدثة داخل الفلسفة الحديثة من حيث لا يلاحظ الكثير من الدارسين، وأدخلت المقولات الصوفية القديمة فى خضم المناقشات والجدل النظري لفلسفات الحداثة، فالفكرة الأبرز للمدرسة المثالية التى يعد الكون بموجبها فى حقيقتة ليس سوى أفكاراً وصوراً عقلية، مع اعتبار وجود الأشياء خارج أذهاننا أمراً مشكوكاً فيه وغير قابل للبرهان عليه، هي فى حقيقتها تأثر بأصداء الهرمسية، التي كانت تذهب إلى أن كل ما فى عالمنا من أشياء، موجود وجوداً عقلانياً وذهنياً وحسب، وهي فكرة تعددت تناولاتها العرفانية والدينية.
وهى سمة بحسب ولتر ستيس تميز الفكر الهندي على وجه الخصوص، حيث نجد فى الهند أشد أشكالها تطرفًا حتى أن العالم يعد «مايا» أو وهما بل أن بعض المفكرين الهنود ليمضون إلى حد أبعد من ذلك فيقولون : «إن العالم غير موجود على الإطلاق».[15]
كما أننا نجد الفكرة بصورة أو بأخرى، وبدرجات تختلف شدة وضعفًا في فلسفات برمنديس وأفلاطون – وسبينوزا وكانط وهيجل وبعض المثاليين الإنجليز القدامى والمحدثين[16]، كما عبر أيضًا جوردانو برونو الفيلسوف والدارس الديني الإيطالي عن ذات الفكرة أيضًا بمقولته الشهيرة «العالم عدم جميل».
ولا تمثل فكرة المثالية وحدها التلقي الوحيد من تلقيات التصوف داخل الفلسفة المثالية الألمانية، ولكن تتعدد تبديات الجذر التصوفى غير المرئي لأفكار المثالية الألمانية لتظهر في مختلف مناحي النسق المثالي الألماني بشكل واسع، ونلاحظ ذلك مثلاً عند هامان (1730-1788) الذي وكان متصوفًا يؤمن بوحدة الذات والموضوع بشكل يحيلنا إلى فكرة وحدة الوجود، وينبذ التقسيم الثنائي الكانطي للإنسان إلى ذات وموضوع. فالإنسان كل واحد في نظره ووحدة متكاملة لا تتجزأ ولا تنفصم عراها.[17]
ونلاحظ ذلك أيضاً عند فيشته في فكرته عن النظام الأخلاقي الكوني المقدس الساري في الطبيعة والشبيه بمفهوم الإله لدى سبينوزا ونلاحظ ذلك أيضاً لدى شيلينغ في مزجه للذاتي والموضوعي ضمن فلسفته التي توحد بين الإنسان والطبيعة والروح والمادة في انصهار مطلق، فالطبيعة وفقاً لفلسفته هي الروح المرئية والروح هي الطبيعة اللامرئية، ونلاحظ ذلك أيضاً لدى هيجل الذي يستعيض عن الامتزاج في فلسفة الوحدة لشيلينغ بفكرة الوحدة مع التمايز في إطار دياليكتيكي[18].
ومن تلقيات التصوف في الفلسفة المثالية الألمانية أيضًا فكرة الاتحاد، وهي فكرة رغم مدى إغراقها في التصوف، إلا أنها انتقلت بهدوء وسلاسة إلى الفلسفة الحديثة على يد هيجل كما سنرى، والاتحاد عموماً فكرة تعددت وتنوعت تلقياتها الفلسفية والعرفانية عبر الزمان وهي من المعالم البارزة للنسق الديني الدارمي في شبه القارة الهندية.
وتعد فكرة الاتحاد من أبرز أفكار الأفلاطونية المحدثة، وهي توجد كذلك عند إخوان الصفا الذين تأثروا بالأفلاطونية المحدثة في فكرتهم عن منشأ الكون الذي وفقًا لفلسفتهم يبدأ من الله ثم إلى العقل ثم إلى النفس ثم إلى المادة الأولى ثم الأجسام والأفلاك والعناصر والمعادن والنبات والحيوان ثم إلى الإنسان الذي يشكل جزءاً من النفس الكلية التي بدورها سترجع إلى الله ثانية بعد الموت – الذي يسميه إخوان الصفا بـ«البعث الأصغر» – عند يوم المعاد – الذي يسميه إخوان الصفا بـ«البعث الأكبر».
وبالعودة إلى سياق حديثنا عن الفلسفة المثالية الألمانية نعود لنوضح كيف أحيا هيجل المفهوم العرفاني القديم للاتحاد بالإله في الفلسفة لحديثة، حيث يقوم ذلك على فهمنا لمسألتين مركزيتين في فلسفة هيجل النسقية تتمثل أولاهما، في فكرته عن تمايز الروح والطبيعة، والتي تناقض فلسفة شيلنغ التي تلغي التمايز بينهما في إطار كلي من وحدة الوجود، وذلك من جهة، وتتمثل الثانية، في فلسفته عن التاريخ التي في نهاية سيرورتها الجدلية تتحقق روح المطلق في التاريخ من جهة أخرى.
حيث يؤدي تراكب هذين الفكرتين داخل البناء الهيجلي على ولادة تلقائية لمفهوم يعادل المفهوم الصوفي للاتحاد بالإله، حيث نقطة نهاية الدياليكتيك هي ذاتها نقطة بداية ذوبان الحدود الفاصلة بين الروح والطبيعة، وذلك يجعلنا نفهم بأثر رجعي مسألة التمايز عند هيجل بين الروح والطبيعة بشكل مختلف، فهيجل لا يناقض النموذج الوحدوي لشيلينج إلى آخر المدى، فالتمايز بينهما لدى هيجل ليس مطلقاً، حيث ينتهي التمايز بنهاية المطاف مع الاندماج الكلي للروح المطلق الذي تُخْتتم به صيرورة التاريخ والذي يعادل تقريبًا مفهوم الاتحاد بالإله.
وهذا التحقق لروح المطلق في نهاية التاريخ لدى هيجل يتقارب كثيرًا مع الرؤية الدينية كالعودة الثانية للمسيح، ونزول أورشليم الجديدة من السماء، وكعودة كريشنا، وميثرًا في الهندوسية والميثرائية، حيث تتحقق في تلك النبوءات الدينية الوحدة بين العالمين العلوي والدنيوي السفلي.
و قد يبدو غريباً أن نقول أن جذور الجدل الهيجلى هى الأخرى تلقى قديم من تلقيات العرفان والتصوف داخل الفلسفة، حيث إن أصول فكرة الجدل معروفة، ولا تخفى جذورها الفلسفية اليونانية، حيث بدأت فكرة الجدل فلسفيًا منذ هيرقليطس المالطي وزينون الأيلي منذ عصر فلسفة ما قبل سقراط، ولكننا نطرح هنا في مقاربتنا رؤية مختلفة بعض الشيء، تُرجع فكرة الجدل للهرمسية ذات الأصول الهيلينية، التي تمثل أحد أهم روافد التصوف.
فهناك عدة مبادئ أساسية في المعارف الهرمسية تؤسس بشكل أو بآخر للمنطق الجدلي وهي:
– مبدأ القطبية
ويقول هذا المبدأ، إن كل ما هو مخلوق ثنائي مزدوج، له قطبان ولكل شيء نقيضه، حيث هناك وجهان لكل شيء.
– مبدأ التناغم
ويقول هذا المبدأ، إن كل شيء يكون بسبب حركة موزونة: ذهابًا وإيابًا، دفق ذاهب ودفق آت، تأرجح أمامي وتأرجح خلفي، حركة مثل بندول الساعة، فهناك ثمة تناغم بين كل زوج متناقضين. وهناك علاقة جذرية بين هذا المبدأ ومبدأ القطبية.
– مبدأ السبب والنتيجة
يقول هذا المبدأ إن هناك فعلاً لكل رد فعل، ورد فعل لكل فعل، وبالتالي لا يحدث أي شيء بالصدفة إنما الصدفة هي مصطلح يعبر عن حدوث شيء ما من دون أن نلاحظ أو ندرك السبب المسبب له.[19]
ويمكننا ببعض التأمل أن نلاحظ أن تراكب المبادئ الثلاثة المستلهمة من المتون الصوفية الهرمسية، يؤسس للبنية الغائرة للمنطق الجدلي الذى تطور بشكل هادئ ومتدرج لاحقًا على يد فلاسفة تأثروا بمصر القديمة كهيرقليطس وزينون الإيلي، وذلك صولاً إلى تطور مفهوم الجدل بشكل كبير كما نعرفه اليوم على يد فلاسفة مثل وكانط وشلنغ وهيجل وماركس.
فيورباخ والمادية في الفلسفة الألمانية
على الرغم من الطابع الصوفي الذي يلف فلسفة سبينوزا، فقد تم التعامل معها في تلقياتها المبكرة نسبياً إليها كضرب من ضروب الإلحاد. وهذا كان هو الوجه الآخر لها بالفعل، لأن النظر للإله كوجود موضوعي في مقابل مفهوم الذات الإلهية التي تتسم بالوحدانية، كما في الأديان الإبراهيمية كالمسيحية والإسلام في تفسيراتها التقليدية، لا يفرق في الحقيقة كثيراً عن الإلحاد، حيث يفقد مفهوم الإله تماسكه ووحدته أمام تكثر مظاهر العالم الطبيعي من حولنا، ويتحول تقريباً إلى استعارة ومجاز.
وقد تسببت فلسفة سبينوزا بالنهاية في خصومة فلسفية شهيرة مثلت حدثاً مهماً في حياة ألمانيا الفلسفية والثقافية، كان من أبرز أحداثها اكتشاف الفيلسوف الألماني «فيردتيش جاكوبي» الذي كان يرى في السبينوزية أنها فلسفة تفضي مباشرة إلى الإلحاد. انتماء لسنغ الفيلسوف والكاتب المسرحي الألماني إلى النزعة السبينوزية التي كانت آخذة في الانتشار سراً في ألمانيا في تلك الآونة.
إلا أن المفارقة تتوارى في النظر إلى السبينوزية كفلسفة صوفية،وأنها أيضاً في الوقت نفسه ضرب من ضروب الإلحاد، حينما نفهم بعض الجوانب شديدة الغموض في التصوف الألماني عن الإلوهية، ومنها على سبيل المثال مفاهيم المتصوِّف الألماني جيكوب بيمه (Jacob Boehme 1545 ـ 1624) الصوفية المرتكزة حول مفهوم سلبي وعدمي خالص للإلوهية. ومنها وصف بيمه للوجود الإلهي بـ« Ungrund» أي الهوَّة، أو العدم الأزلي.[20]
ومقولات بيمة تشبه أيضاً مقولات مايستر اكهارت المتصوف وعالم اللاهوت المسيحي المولود في ألمانيا الذي يصف الوجود الإلهي: «إن الله خاو كما لو كان غير موجود»، كما يسمي اكهارت في موضوع آخر الوجود الإلهي، باسم الإلوهية الصامتة، والعدم غير المسمى، والقفر الساكن.
ونلاحظ هنا كما يقول ولتر ستيس، إن كلمة الساكن تعني انعدام الصوت، وكلمة القفر تعني انعدام الحياة، وهو ما يشي بوضوح بتبني اكهارت لهذا المفهوم السلبي الخالص للإلوهية.[21]
كما أن اكهارت يستخدم أيضاً تشبيه الظلام، فيقول : «إن نهاية الأشياء جميعاً، إنما هي تلك الظلمة الخفية : ظلمة الإلوهية السرمدية».[22]
كما يصف المتصوف الألماني يوحنا تاولر الوجود الإلهي بطريقة متماثلة أيضاً، حيث يستخدم تعبيرات «الظلمة الإلهية» و«العدم الذي لا اسم له و لا شكل»، و«البرية القفراء».[23]
وأما في التصوف اليهودي، فإن تصور الوجود الإلهي باعتباره عدماً، فهو قول تم التعبير عنه تعبيرات صريحة كثيرة الترداد، حيث ينقل ولتر ستيس عن الأستاذ شوليم في كتابه «الاتجاهات الكبرى للتصوف اليهودي»، ويقول: «إن الوجود الإلهي كثيراً ما يوصف على أنه العدم الصوفي»، كما يذكر أن عبارة «في أعماق عدمه» كانت تعبيرًا عزيزًا بصفة خاصة على نفوس القباليين من اليهود في القرن الثالث عشر.[24]
جدير هنا بالذكر أن تبني المتصوِّف الألماني جيكوب بيمه لهذا النسق القبالي قد جعل من ذلك الأخير إحدى أهم القنوات التي تحولت من خلالها القبَّالاه إلى رافد أساسي في الفكر الديني المسيحي.[25]
وقد بدأت الأفكار القبَّالية منذ نهايات القرن الخامس عشر تتبدَّى في كتابات وأعمال بعض الفنانين مثل الفنان الألماني دورر Durer. كما قام كريستيان نور فون روزينروث Christian Knorr Von Rosenrotth بنشر أجزاء ضخمة من الزوهار والقبَّالاه اللوريانية في كتابه كشف القبَّالاه (1684).[26]
ويصل هذا التيار المتأثر بالقبالاه إلى قمته في كتابات المتصوِّف الألماني فريدريك أتنجر (1702 ـ 1782) الذي تركت أعماله أثراً عميقاً في كتابات كثير من الفلاسفة الألمان مثل شلنج وهيجل.
في تلك الأثناء ظهرت الرومانتيكية، بفضل الارتباط الحاصل بين الفلسفة والأدب، حين تأثر المفكرون الألمان في البداية بالأدب الفرنسي المتبني للمذهب الكلاسيكي، وذلك مع نظرة خاصة للإرث اليوناني من منطلق تجاوز العقل لصالح الطبيعية[27]، التي يشكل حبها والرغبة في الفرار إلى أحضانها إحدى أهم سماتها،والرومانتيكية بذلك« تلتقي بشكل أو بآخر مع واحد من الأنماط العامة للخبرة الصوفية والذي يسمى بمصطلح الوعي المنفتح على الخارج والذي فيه تتحد الذات الإنسانية مع العالم الطبيعي»، ويصطلح على تعريفه بالنمط المنفتح على الخارج أو التصوف المكتسب وأحياناً سمي بالتصوف الطبيعي.
و يغلب على هذا النمط ألا يكون ذا مضمون ديني، وفيه تتأمل الذات الإنسانية الطبيعة ومظاهرها المشخصة والمتعينة في الخارج، وتتصورها على ما فيها من تنوع وتضاد: وحدة واحدة، تسقط خلالها التناقضات والتمايز، وهذا النمط من الوعي الصوفي نجده بوضوح عند أتباع المذاهب الرومانسية من الشعراء والأدباء والفنانين. كوليام وردوورث على سبيل المثال ( William Wordworth 1770-1850)) الشاعر الإنجليزي وأكبر شعراء الحركة الرومانسية الإنجليزية ولاسيما في ديوانه التمهيد Prelude.
في تلك الفترة أصبحت القبَّالاه جزءاً لا يتجزأ من رؤية كثير من المثقفين الغربيين، أو النموذج أو الصورة المجازية الكامنة في فكرهم، حتى أنه صار لا يمكن الحديث عن أصولها اليهودية في ذلك الوقت. فالمفكر الديني السويدي عمانويل سويدنبورج Swedenborg الذي أثَّر في ويليام بليك William Blake، تشبع بالمنظومة القبَّالية حتى أصبحت منظومته الفكرية قبَّالية غنوصية دون أن يطلع على أي مصادر يهودية، كما تبدى بوضوح أيضاً أثر القبَّالاه في منظومة الفيلسوف وعالم الرياضيات الألماني الشهير لايبنتز.[28]
ولعلنا من هنا نفهم كيف أدى التنوير الألماني الذي لم يكن استثناء من تيارات التنوير في أوروبا المتأثرة بالتصوف المناوئ لأشكال الإيمان المسيحي التقليدي، إلى ولادة فلسفة فيورباخ تلميذ هيجل المنقلب عليه بنهاية المطاف، كتطور طبيعي لتلك السيرورة المعرفية ، دون حتى الحاجة إلى مناقشة أفكار ذلك الأخير، التي تحولت معها فكرة وحدة الوجود الطبيعية والصوفية إلي وحدة وجود مادية فحسب.
ختامًا
غني عن الذكر أخيراً في هذا السياق أن المادية الجدلية لماركس اليهودي الألماني الذي عايش السياق الزمني أيضاً لتلك التحولات، جاءت بإتفاق مختلف دارسي الماركسية كمزيج بين مادية فيورباخ، وديالكتيك هيجل، اللذين تقفينا نسبهما التاريخي والمعرفي في هذا المقال.
ولعلنا رأينا هاهنا في الأخير كيف استطاعت المعرفة الغربية أن تمر من مرحلة إلى أخرى، حيث تلاقت وتداخلت تلك المعتقدات والأفكار التي تولد وتلك الأخرى التي كانت تموت، في مرحلة من التوسط التاريخي بين عالمين.. عالم تقليدي كان ينتهي وعالم للحداثة آخذ في التشكل.
وهكذا ربما نفهم بنهاية المطاف كيف تولدت المادية الجدلية من رحم التصوف، في مفارقة لم نتوقف لديها فيما يبدو بالشكل اللائق لفهمها حتى الآن.
- في التصوف المقارن: ملاحظات منهجية د. عرفان عبد الحميد , دورية إسلامية المعرفة – السنة التاسعة , العدد 36 , ربيع 1425 ه / 2004
- عزمي بشارة , الدين والعلمانية في سياق تاريخي , الجزء الأول , المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية, الطبعة الأولى , الدوحة , يناير 2013 , ص 43 , بتصرف يسير
- د.عبد الوهاب المسيرى ,موسوعة اليهود و اليهودية والصهيونية, المجلد الخامس , الطبعة الأولى, 1999 , دار الشروق , القاهرة
- المصدر السابق- بتصرف
- عاطف هلال – الفكر القبالى ونبى اليهود الثانى موسى ابن ميمون – مقال منشور على شبكة الأنترنت على الرابط أدناه http://atef.helals.net/mental_responses/jewish_history/session_15.htm
- المصدر السابق- بتصرف
- ولتر ستيس- التصوف و الفلسفة – ترجمة أ.د إمام عبدالفتاح إمام – مكتبة مدبولى – ص 263
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- ولتر ستيس- التصوف و الفلسفة – ترجمة أ.د إمام عبدالفتاح إمام – مكتبة مدبولى – ص 268
- جوزف أيوب- اسبينوزا – الحوار المتمدن-العدد: 3668 – 2012 / 3 / 15
- المصدر السابق
- الزمان و الأزل – مقال فى فى فلسفة الدين – ولتر ستيس – ترجمة د زكريا إبراهيم – مكتبة الأسرة – القاهرة – 2013 – ص 263 [[16]] المصدر السابق
- المصدر السابق
- رحيم العراقي – قراءات في الفلسفة المثالية الألمانية – الحوار المتمدن-العدد: 1466 – 2006 / 2 / 19 – بتصرف يسير
- المصدر السابق
- هذه المبادىء مذكورة فى دراسة منشورة عام 1908 – بعنوان كيباليون – كتبها أشخاص مجهولين أطلقوا على نفسهم مسمى «المبتدؤن الثلاثة». – و الكتاب رغم حداثته النسبية و رغم الانتقادات التى وجهت إليه من حيث كون الكثير من أفكاره تعتمد على مبادئ من حركة العصر الجديد الحديثة نسبيا. إلا أنه يشكل تجريدا و خلاصة حقيقة للفلسفة الهرمسية من خلال نصوص متونها القديمة , فهو بمثابة شروحات على المتن الأصلى تجرد و تكثف و تركز ما ورد بالمتون الهرمسية المختلفة , و هو بذلك لا يكاد يضيف للأفكار الموجودة فى النصوص الأصلية شيء و يمكن للقارى أن يجد نص الكتاب باللغة الإنجليزية فى مصادر عدة مفتوحة على الأنترنت
- المصدر السابق
- الزمان و الأزل – مقال فى فى فلسفة الدين – ولتر ستيس – ترجمة د زكريا إبراهيم – مكتبة الأسرة – القاهرة – 2013 – ص 52 & 53
- المصدر السابق ص 53
- المصدر السابق ص 53
- المصدر السابق ص 54 & 55
- د.عبد الوهاب المسيرى ,موسوعة اليهود و اليهودية والصهيونية, المجلد الخامس , الطبعة الأولى, 1999 , دار الشروق , القاهرة
- المصدر السابق
- محمد حيرش بغداد, الخطاب المثالي في الفلسفة الألمانية الحديثة. دراسة تحليلية ونقدية / إنسانيات, 44-45 | 2009, 233-234 .
- المصدر السابق