محتوى مترجم
المصدر
When Marx looked outside Europe
التاريخ
2010/09/01
الكاتب
Nagesh Rao

تلخّص خاتمة كيفن أندرسون في كتاب «ماركس في الهوامش: عن القومية والإثنية والمجتمعات غير الغربية Marx at the Margins: On Nationalism, Ethnicity, and Non-Western Societies» الخطوط الرئيسية لحُجته: «لقد أسّس ماركس نظرية خطيّة غير اختزالية للتاريخ … وحلّلَ التعقيدات والاختلافات في المجتمعات غير الغربية، ورفضَ ربط نفسه بنموذج واحد للتنمية أو الثورة».

يرى المطلعون على النظرية الثقافية والنقدية، لا سيما في الدراسات ما بعد الكولونياليّة، أنَّ حُجّة أندرسون تتعارض مع الكثير من الافتراضات حول الماركسيّة السائدة في الأوساط الأكاديمية. الماركسيّة، كما قيل لنا، هي ظاهرة نشأت بشكل غريب في القرن التاسع عشر. ولذا، فإنَّ تلك الأفكار ليست قديمة فحسب، لكنها متناقضة داخليًا وغير متّسقة، إن لم تكن رجعية؛ لأنها تقوم على مفاهيم حتميّة ذات مركزية أوروبية للتغيّر التاريخي.

عادة ما يتم إثبات هذه الفرضيات عن طريق إعادة نشر مجموعة من الاقتباسات المختارة من كتابات ماركس الأولى عن الهند التي يؤكّد فيها أنَّ الاستعمار البريطاني في الهند كان له دور تدميريّ وتجديديّ على حد سواء. أُثيرت هذه النسخة من ماركس على يد إدوارد سعيد في وصفه المشين لماركس بأنّه مجرد مظهر من المظاهر اليسارية للاستشراق في القرن التاسع عشر، وترسّخت هذه النسخة كذلك من خلال الانتقادات ما بعد البنيويّة وما بعد الحداثويّة لمفاهيم ماركس «الغائيّة» و«التقدميّة» للتاريخ، ومن ثمّ يجري تسليم هذه النسخة عن ماركس إلى الأجيال المتعاقبة من العلماء والباحثين كمرجع معتمد. واستنادًا إلى مجموعة من الاقتباسات، التي تمّت دراستها في نقولات عديدة من مصدرها، فإنّه لا يزال يُلقى بالماركسيّة في مزبلة التاريخ.

ومع ذلك، ثمة ردود على المزاعم التي تقول بأنَّ الماركسيّة أوروبية، واستشراقيّة، وحتميّة وغائيّة، كما لم يكن هناك ندرة في الدراسات الأكاديمية المخصصة لتبريء ماركس من ادّعاءات منتقديه. وحتى داخل الدراسات ما بعد الكولونياليّة، حيث تتوافر مثل هذه الإقصاءات للماركسيّة، هناك أقلية متحمسة فرضت نفسها في الدفاع عن الأساليب والرؤى النظرية لماركس. وقد ساهم الباحثون اليساريون مثل سوميت سركار، وعرفان حبيب، وإعجاز أحمد، ونيل لازاروس، وأوجست نيمتز، وغيرهم في هذا الأرشيف المتزايد من المواد النقديّة.

قد لا يكون كتاب «ماركس في الهوامش» أول عمل يتولى هذه المهمة، ولكنّه بلا شك يُعدّ معيارًا للمناقشات حول هذا الموضوع، إن لم يكن الدفاع النهائي عن الماركسيّة في السنوات القادمة. في عمل بَليغ ومحكم، يأخذنا أندرسون بصبر كبير عبر ثروة لا تصدق من الأبحاث، جميعها يؤدي بشكل ملائم إلى الاستنتاج الذي بدأت به هذه المراجعة. هذا البحث الدقيق الذي كتبه أندرسون المتاح للمبتدئ، والرائع والمفيد للمتخصص، يقدّم لنا ماركسيّة لا تكون فيها دوليتها (أو عالميتها، إذا صح التعبير) مجرد فكرة عَرَضيّة. لقد برز ماركس وإنجلز، بحسب قراءة أندرسون، ليس فقط باعتبارهما المفكرين الأكثر تقدميّة في عصرهما، ولكن باعتبارهما المنظّرين الأكثر بصيرة وصلة بالأزمات العالمية الجاريّة في عصرنا.


الانتقادات الموجّهة ضد ماركس

لعدة سنوات بعد نشرها في عام 1969، حدّدت المختارات المتحيّزة من شلومو أفنيري (Shlomo Avineri) لكتابات ماركس وإنجلز عن الكولونياليّة مسار مناقشات موقف الماركسيّة تجاه الكولونياليّة الأوروبية، والثقافة، والاقتصاد السياسي للمستعمرات نفسها، وتجاه مسائل القوميّة والتحرّر الوطني. ولكنَّ نقد المنظّر المعروف إدوارد سعيد لماركس في كتابه الرائد، «الاستشراق»، هو الذي روّج لفكرة أنَّ الماركسيّة كانت ذات مركزية أوروبيّة ميؤوس منها.

حُجة سعيد، كما هي معروفة، اعتمدت على عدد قليل من الاقتباسات منزوعة السياق، ولا سيما من المقال الأول لماركس «الحكم البريطاني في الهند». كتب ماركس هذا المقال في عام 1853، وكان، بحسب أندرسون، «أول منشور مهمّ لماركس عن مجتمع غير غربيّ». وفي حين انتقد ماركس الكولونياليّة البريطانية لإلحاقها «نوع أكثر حدّة» من البؤس بشعب الهند أكثر مما كانوا يعانون من قبل، إلّا أنَّ ماركس في هذا المقال بدأ بوضع الخطوط العريضة لنظرية «الاستبداد الشرقي» الذي كان يُستخدم لوصف الاقتصاد السياسي للمجتمعات الأوروبية غير الغربية.

نظرية «الاستبداد الشرقي»، إلى جانب مفهوم «نمط الإنتاج الآسيوي»، تقدّم الشرق كــ «آخر» للغرب؛ آخرٌ منغلق إلى الأبد في وضع ثابت، وراكد، ومتخلف مقارنة بالغرب، آخرٌ ستجرّفه ببساطة قوى «التقدّم» الأوروبية مع كل التناقضات الملازمة لها. يرى سعيد أنَّ هذه الرؤية ذات المركزيّة الأوروبية للتاريخ ليست محض صدفة في فكر ماركس، بل إنّها جزء من التقليد الاستشراقي للمعرفة الذي كان يعتمد عليه ماركس.

وبالرغم من كل شيء، لم يكن هناك سوى هيغل الذي رأى الهند كأمة «ظلّت ثابتة ومحدودة» عبر التاريخ «يفتقر شعبها إلى الوعي الذاتي»، مما يجعلهم «غير قادرين على كتابة التاريخ». ولذا فإنَّ الهنود (والأفارقة)، بحسب هيغل، كانوا شعوبًا ليس لها تاريخ، بل ومحكوم عليها «بالخضوع للأوروبيين».

وكما يشير أندرسون، وفقًا لسعيد، بالرغم من «إنسانية» ماركس وتعاطفه مع معاناة الشعوب، إلّا أنَّ الرؤية الاستشراقية الرومانسية هي التي سادت في النهاية. في هذه الرؤية، الكولونياليّة البريطانية، في حين أنها مدمّرة في المقام الأول، إلّا أنّها في التحليل النهائي ستقوم بدور تجديديّ في الهند. لقد أصبحت هذه الرؤية للماركسيّة مهيمنة في الدوائر الأكاديمية، وخاصة في تلك المجالات التي كانت الأكثر تأثرًا بكتاب سعيد.


الأرشيف الحقيقي

على خُطى إعجاز أحمد، وجاني، ونيمتز، وغيرهم، يرى أندرسون أنَّ هذه الرؤية لماركس رؤية زائفة. كتاب «ماركس في الهوامش» يبيّن لنا أنَّ هذه النسخة الهزيلة من ماركس لا يمكن أن تستمر إلّا من خلال تجاهل الأرشيف الحقيقي لكتابات ماركس وإنجلز عن المجتمعات غير الغربية، وهي كتابات أكثر اتساعًا بكثير مما اعترف به منتقدوه. يخبرنا أندرسون، على سبيل المثال، أنّه في عام 1853، في ظلّ بدء ماركس الجولة الأولى من أبحاثه عن الهند وإندونيسيا، أنتج ملاحظات، «لم يُنشر أي شيء منها في أي شكل، تُشكّل حوالي مئة صفحة مطبوعة».

وكانت هذه البداية فقط. كما يوضح أندرسون، بحلول عاميّ 1860 و1870، كان ماركس يقرأ بنهمٍ كبير ويكتب على نطاق واسع حول موضوع الحكم البريطاني في الهند، ويُعلّم نفسه الروسية لدراسة كتابات الأنثروبولوجي الروسي مكسيم كوفالفسكي (Maxim Kovalevsky) حول ملكية الأراضي في الهند، وفي النهاية أنتج ملاحظات ضخمة (16 ألف كلمة، بحسب أندرسون) عن عمل جون بد فير «القرية الآرية في الهند وسيلان The Aryan Village in India and Ceylon».

قراءة أندرسون لهذا الأرشيف الشاسع تبيّن لنا أولًا أنَّ المجتمعات غير الغربية لعبت دورًا محوريًا على نحو متزايد في حسابات ماركس وإنجلز لجدليّة التوسُّع الرأسمالي والنضال من أجل التحرّر الذاتي للطبقة العاملة. ونتيجة لذلك، نقّح ماركس وإنجلز باستمرار آراءهما السابقة عن هذه المناطق من العالم مع تطوّر أحداث جديدة، وتوفر أبحاث جديدة كذلك. يقتبس أندرسون، على سبيل المثال، حُجّة براناف جاني (Pranav Jani) بأنَّ هناك تحولًا ملموسًا في كتابات ماركس حول الهند ابتداءً من عام 1857، عندما اندلعت أول ثورة كبيرة ضد الحكم البريطاني في المنطقة.

ويقول أندرسون، وهو محق في ذلك، إنَّ «غياب حركة قومية تقدّميّة غير تقليلدانيّة في الهند» قبل عام 1857 كان يعني أنَّ ماركس لم يكن أمامه سوى عدد قليل من البدائل السياسية المُجدية ليقدّمها في عام 1853. وبالتالي رأى ماركس تحرّر الهند من الاستعمار كعمل قائم على إسقاط الرأسمالية في بريطانيا، وحينها لم تكن احتمالات قيام ثورات ناجحة مناهضة للاستعمار قد دخلت في الصورة بعد.

ومع ذلك، استشرف ماركس في عام 1853 إلغاء ميثاق شركة الهند الشرقية الذي حدث بالفعل بعد عام 1857، وإقامة حكم التاج البريطاني، وربط ذلك بــ «ارتفاع هيمنة طبقة التصنيع من المنزل». ويكتب أندرسون أنّه حتى في عام 1853، بدأ ماركس الإشارة إلى «احتمال وجود حركة تحرّر وطني هندية».

«بحلول عام 1853، بدأ ماركس التغلب على التحيّز في التعامل مع المجتمعات غير الغربية في كتاب «بيان الحزب الشيوعي». وبالرغم من استمرار دك أسوار الصين (والهند) من خلال ما اعتبره ماركس الآثار التدريجية للتجارة العالمية والغزو الاستعماري، إلّا أنَّ الناس من داخل المجتمعات غير الغربية لديهم الآن احتمال «التخلص من العبودية الإنجليزية» والبدء الذاتي في «تجديد» مجتمعاتهم وثقافاتهم. وهذا التجديد من شأنه الحفاظ على إنجاز الحداثة الرأسمالية».

في أعقاب ثورة 1857، بدأ ماركس في الكتابة عن الهند ووصفها بأنها «أفضل حليف لنا»، وأصبحت كتاباته تميل على نحو متزايد إلى فضح الفظائع البريطانية بدلًا من التباكي على سُبات وركود الهنود. وردًا على تقارير الفظائع التي ارتكبها الجنود الهنود ضد البريطانيين، ربط ماركس هذه الفظائع بالتاريخ الطويل من الفظائع المماثلة التي ارتكبها الأوربيون، من قيصر إلى نابليون، بدلًا من نعتها بالبربريّة الهندية. وعلاوة على ذلك، في شكل ثورة السيبوى الهندية، كما يكتب أندرسون:


نهج ديناميكي

«كان ماركس يجد في الهند الاستعمارية شيئًا مشابهًا لتشكيل الرأسمالية للطبقة العاملة. ولذا، فإنَّ تقدّم الكولونياليّة كان ينتج حفاري قبرها. وكان هذا التحوّل الجدليّ غائبًا فيما يتعلق بآسيا في كتاب «بيان الحزب الشيوعي» وفي الكثير من الكتابات عن الهند عام 1853».

وبطريقة مماثلة، يحلّل أندرسون كتابات ماركس وإنجلز عن بولندا وروسيا، وعن العبودية الأمريكية والحرب الأهلية وأيرلندا والجزائر، ويوضح مرة أخرى ديناميكية نهجهم، والحساسية والوضوح الذين حلّلوا من خلالهما المجتمعات غير الغربية. ولذلك كان يتتبع التطوّر من توصيف إنجلز الشائن للشعوب السلافية (وغيرها) بأنها «شعوب غير تاريخية» إلى كتابات ماركس في عام 1880، حين كان «يرى احتمال أنَّ قيام ثورة شيوعية في روسيا يمكن أن تكون نقطة الانطلاق لتحول اشتراكي أوروبي واسع النطاق». ولكن مع انتهاء المنظّرين الذين سعوا لتحويل العلاقات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم، طرح ماركس وإنجلز وجهة نظر متعاطفة بشكل متزايد مع نضالات التحرّر الوطني، وجعلا مناهضة الكولونياليّة والعنصرية مسألة مركزية في آرائهما الثورية التي يتجاهلها المنتقدون.

إنَّ كتاب «ماركس في الهوامش» هو مساهمة قيّمة في التحدي المستمر لتعافي الماركسيّة من العديد من التحريفات الأكاديمية. وعلى الرغم من أنَّ أندرسون يمتنع أحيانًا من استخلاص الاستنتاجات القوية التي تشير إليها تحليلاته، مفضّلًا ترك الأدلة تتحدث عن نفسها، إلّا أنَّ كتابه يُعدّ من الكتب الأساسية لأي شخص يسعى لاستكشاف التطوّر والتعقيد في كتابات ماركس وإنجلز عن العرق والقومية والإثنية، والتطوّر التاريخي للمجتمعات غير الغربية.