عندما يتراجع الجهاديون: ذنوب الماضي ومناورات المستقبل
من وراء القضبان؛ سعت الجماعات الإسلامية الجهادية إلى البحث عن مفتاح لأبواب الخروج من السجون. وتحت وطأة الغارات وقصف المدفعيات، حاول المقاتلون البحث عن مخبأ ربما يمكنهم من إعادة ترتيب قواهم من جديد. في ظروف تتسم بالقسوة والمعاناة، سعى الجهاديون إلى إعادة صياغة الإرث الجهادي من جديد. فإلى أي مدى كانت إعادة صياغة الأيديولوجيا والعقيدة تحت وطأة النار والسوط جدية؟ وهل هي تجديد فكري أم إعادة صياغة بلون كتابي مغاير؟
تميزت حركة المراجعات الفكرية التي أحدثها أبناء التيار الجهادي بتنوع مجالاتها ومضامينها، فمنها المراجعات المنهجية والعقائدية والتنظيمية، ومن تلك المراجعات نستقرأ ثلاثا تمثل نموذجا لأغلب المراجعات الجهادية.
نحو منهج رشيد للجهاد
خاضت المجموعة القيادية في حركة أحرار الشام، أبرز الحركات المقاتلة في الثورة السورية بجوار جبهة النصرة، كحسان عبود (أبو محمد الحموي، قائد الحركة، رئيس الهيئة السورية)، وأبو يزن الشامي (عضو المجلس الأعلى)، وأبو عبد الملك (شرعي الحركة)، حملة مراجعة شاملة للسلفية الجهادية اتسمت بجديتها، وبدت مبشِّرة جدا في إمكانية جذب جمهور واسع من الشباب المتأثر بالسلفية الجهادية إليها، وتقديم نموذج معتدل من السلفية الجهادية ملتزم بقضايا الثورة وبسياسة عقلانية دون تفريط في ثوابت الحركة الإسلامية. لكن الضربة القاصمة التي وجهت إلى الحركة، وفقدت الحركة على إثرها قيادتها كاملة في حادث غامض أثناء اجتماع شامل، أثرت بقوة على الحركة، وعلى عملية المراجعة التي تبنتها. فلم تكن الحادثة فقدانا لقيادة الحركة كاملا في آن واحد فحسب، وهي صدمة كافية لشل الحركة بالكامل، بل كانت أيضا فقدانا لقيادة كاريزماتية شبابية امتازت بجرأتها النقدية، وجاذبيتها الفكرية، ودماثة أخلاقها التي أيضا لا مطعن فيها.
من بين الأوراق القليلة التي بقيت من تلك المحاولة الهامة، ورقة لأبي أيمن الحموي، القيادي بالحركة، عنونها بـ «نحو منهج رشيد»، والتي ذكر في مقدمتها أنها ليست نتاج جهد فردي، وإنما هي ثمرة الاجتهاد الجماعي لقيادات الحركة، وأفكارهم النقدية.يمكن تلخيص الأفكار البارزة في تلك الورقة في التالي:
يرى الحموي أن المشروع الجهادي فشل في إقامة الدولة الإسلامية وحماية الأمة. فيقول: «إن السلفية الجهادية التي تسنمت مراكز القيادة والسيادة في الساحات الجهادية فشلت فشلا ذريعا في حل مشاكل الأمة الإسلامية كغيرها من التيارات الإسلامية، مع كونها بذلت الدماء والأشلاء»، بل إنه يرى أن السلفية الجهادية قد جنت على المشروع الإسلامي ونفرت الناس منه.
يؤكد على أن عدم قدرة الجهاديين على الاندماج والتوحد مع الأمة هو أبرز معالم فشل الجماعات الجهادية وهو ما أفقدها القدرة على إقناع الناس بمشروعها. كما يتطرق إلى أن تبني التنظيمات الجهادية عقلية نخبوية واستراتيجيات مواجهة معتمدة على حروب العصابات أفقدها القدرة على تحقيق نجاح على أرض الميدان، مع من سماهم الحموي: الطواغيت وأهل الباطل.
يرى أن تباعد الجماعات الجهادية عن تبني وحمل قضايا الأمة الأساسية مثل تحرير فلسطين وتطهير البلاد من القوات الأجنبية والتركيز على مواجهة العدو القريب بدلا من العدو البعيد أفقدها الرأي العام الإسلامي. كما أن توحد الجماعات الجهادية وكبريائها وعدم قبولها النصيحة ورفضها لمشاركة تيارات إسلامية أخرى في مسار العملية الجهادية وإقامة الدولة الإسلامية وتكفير من لا يقوم بتكفير الطواغيت وحب الرئاسة يراها الحموي من أهم عوامل عزلة التيار الجهادي.
يضيف الحموي أيضا أن هناك عدة انحرافات فكرية تملكت الفكر السلفي الجهادي المعاصر منها: فقه الدليل والتمذهب: أي الولاءات للطوائف والمذاهب الدينية على حساب المشروع الأساسي وهو إقامة الدولة الإسلامية،والإعراض عن تعلم أصول الفقه واللغة فهو يذكر أن الجهاديين انصرفوا. وآخر ما ذهب إليه الحموي في انحرافات التيار السلفي الجهادي هو عدم الرفق بالمخالف ورفض الآخر وهو ما دفع إلى تأكيدهم على أن الإخوان أشر من العلمانيين، وقتل عوام الشيعة أولى من الأمريكان.
تميزت ورقة الحموي بأنها أكثر تكثيفا عن المراجعات السابقة حيث كونها ركزت على الممارسات والانحرافات السلوكية والمنهجية الجهادية، فيما ابتعدت عن المراجعة النظرية لمفاهيم الجهاد وفقهه، وانطلقت المراجعات ليس من داخل السجون ولكنها نتجت نتيجة الأخطاء التي وقع فيها الجهاديون أنفسهم وهو ما يمثل عاملا صادقا في كتاباته فهو ليس منتقدا بقدر ما هو باحث عن الإصلاح، تأكيده على أن ما آلت إليه الأحداث في سوريا يدعي إعادة النظر في منهج الجهاد هو عامل يبتعد كثيرا عن عولمة الجهاد، تمثل ورقة الحموي أيضا تجديدا في الفكر الجهادي ومراجعاته التي تميزت بكونها صورية.
ترشيد الجهاد
وقال أيضا: «الديمقراطية دين جديد ومن اتبعها أو دعا إليها فقد كفر». ربما يدفعك هذا التناقض إلى التساؤل حول ماهية التيه الفكري لصاحب المقولتين، فسيد إمام يعرف بأنه صاحب العمدة في أعداد العدة والذي أسس للفكر الجهادي في معسكرات تدريب المجاهدين في أفغانستان وهو أمير جماعة الجهاد المصرية في الثمانينات، ظل المنظر الأول للجماعات الجهادية حتى تم القاء القبض عليه في اليمن 2001 وتسليمه للسلطات المصرية في 2004 وبعد أن خرج من السجن اعتكف على انتقاد الجماعات الإسلامية بل وذهب إلى تكفيرها ووصف الأخوان بالمرتدين.
سعى الدكتور فضل في مراجعته إلى نقد الفكر الجهادي المعاصر الذي كرس عددا من المغالطات الشرعية منها استحلال القتل على الجنسية والقتل بسبب لون البشرة والقتل على المذهب، وقتل من لا يجوز قتله من المسلمين وغير المسلمين، كما أنه رفض الإسراف في الاحتجاج بمسألة التترس لتوسيع دائرة القتل، واستحلال أموال العصومين وتخريب الممتلكات.
انطلق الدكتور فضل في ترشيد الجهاد من بيان أن شرط القدرة التنظيمية والمادية كمقوم أساسي للجهاد ومن ثم فإن المستضعف والعاجز لا يجوز لهما الجهاد ويرى أن واقع الجماعات الإسلامية الجهادية يتراوح بين العجز والاستضعاف ومن ثم لا يجب عليها القتال، كما أنه لا يجيز تغيير المنكرات باليد إلا لذي سلطان في سلطانه، ويرفض الصدام مع السلطات الحاكمة في بلدان المسلمين من أجل تطبيق الشريعة باسم الجهاد، كما أنه يستنكر خطف الأبرياء طلبا للفدية فهو غير جائز شرعا فإذا لم تكن تملك نفقة الجهاد فلا وجوب للجهاد.
يشير أيضا الدكتور فضل إلى شرط الحصول على إذن الوالدين والدائن للخروج إلى الجهاد، كما يؤكد أنه لا يجب القيام بالواجبات الشرعية والجهاد إذا كان سيعود بالضرر على المسلمين وضياع مقاصد الشريعة، فلا يجوز الدفع المسلمين إلى مواجهة غير متكافئة مع أعدائهم، كما أنه يتطرق إلى أطروحة الخروج على الحاكم ويرى أنه لا يجوز الخروج عليه لأنه سينجم عنه مفاسد كثيرة، وهو يوضح أن الجهاد ليس السبيل الأوحد لمواجهة الواقع ولكن هناك آليات أخرى تتمثل في كالدعوة والهجرة والعزلة والعفو والصفح والإعراض والصبر على الأذى وكتمان الإيمان.
أما عن دار الإسلام ودار الحرب فقد نهى إمام عن قتل أو نهب السائحين في دار المسلمين فهم لديهم الأمان الشرعي، كما أنه نهى عن قتال أو تنفيذ عمليات جهادية في بلاد الأجانب باعتبارها دار حرب واعتبر أن ذلك غدرا لا جهادا، فيما شدد على ضرورة الحفاظ على أرواح المدنيين مؤكدا أنه لا يجوز، كما أنه لا يجوز التعرض للمنتسبين إلى الإسلام بسبب اختلاف المذهب.
تطرق الإمام فضل إلى رفض جهاد المنفرد وأكد أنه لا يجوز إلا بشروط؛ هي «أن من له إمام أو أمير لا يجوز أن يفعل شيئا من ذلك إلا بإذنه، أن يغلب على ظن المنفرد أن قتاله سيعود بنفع على الدين وأهله، أن لا يعود قتال المنفرد بضرر على الدين وأهله،أن لا يشتمل جهاده على عدوان منهي عنه شرعا، كالعدوان على دماء وأموال من لا يجوز له التعرض لهم من المسلمين وغيرهم».
دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد
أسس الأفغان الليبيون في نهايات القرن الماضي ما عرف بالجماعة الليبية المقاتلة والتي هدفت إلى إسقاط نظام معمر القذافي،متبنية الجهاد المسلح كآلية للتغيير، ولكن ملاحقات نظام القذافي لقيادات الجماعة دفعت بهم بالعودة إلى أفغانستان ولكن تم اعتقال الكثير منهم في الخارج وتسليمهم إلى النظام الليبي ، ومن داخل السجون الليبية خرجت الجماعة الأكثر عنفا في ليبيا آنذاك بمبادرة_ رعتها مؤسسة القذافي للتنمية برئاسة سيف الإسلام القذافي _ لتقوم بمراجعة فكرية شاملة لأيديولوجيتها في مقابل الإفراج عنهم،في الوقت الذي أعلنت القاعدة مبايعة الجماعة لها في ليبيا في 2007.
سعت الجماعة في مراجعتها إلى إعادة تصحيح مفهوم الجهاد، وخرجت محاولات تصحيح الجهاد بدراسة تحت مسمى «دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس..». وفيه، تبنت الجماعة مفهوما أوسع للجهاد من مجرد القتال التي صنفته إلى ثلاثة عشرة مرتبة منها جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين، مؤكدة على أن اختزال مفهوم الجهاد في القتال بالسيف هو خلل وقصور فكري، فالإسلام دين واقعي لا يدعو إلى استخدام العنف في التغيير والإصلاح، وإنما القتال في الإسلام فهو لحماية المشروع الإسلامي والإسلام والمسلمين.
واعتبرت الجماعة الجهاد فرض كفاية لا فرض عين مخالفة بذلك أسس الفكر السلفي الجهادي، مؤكدة أنه يصبح فرض عين في حالة غزو الكفار على بلاد المسلمين وفي حالة طلب إمام المسلمين النفير إلى الجهاد، كما أوضحت أنه لا يجوز الخروج للجهاد الكفائي إلا بإذن الوالدين والدائن كما لا يجوز الطعن فيمن لم يخرج له.
كما وضعت الجماعة ضوابط وآداب للجهاد منها النهي عن قتل النساء والأطفال والمسنين والعميان والرهبان، والنهي عن المثلة أي قطع الرأس أو الأذن أو الأنف، والنهي عن الغلول ووجوب الوفاء بالعهد حتى مع الكفار ومن ثم لا يجوز قتل من منحهم المسلمين عهدا من الذمة أو الأمان أو عقد معهم هدنة، ولا يجوز قتل السفراء والرسل، وتحريم المشاركة في قتال الفتن بجميع أنواعها وتحريم الخروج على الحاكم.
مراجعات الجماعة الليبية لم تتطرق إلى تغيير أو رفض لمفهوم الجهاد، ولكن جل ما أعادت صياغته هو تخفيف حدة الخطاب الجهادي والصراع مع النظام فقامت بنبذ العنف المحلي كآلية للتغير وهو ما كانت تحتاج إليه الأنظمة آنذاك، ولكن الثورة الليبية كشفت نفعية تلك المراجعات؛ فما إن اشتعل الحراك المسلح ضد نظام القذافي، حتى سارعت الجماعة من جديد تحت مسمى «الحركة الإسلامية الليبية للتغيير» إلى استخدام العنف وتوظيفه في مواجهة القذافي.
ليست بحركة تجديد فكري
يشير توقيت خروج مراجعات الجماعات الإسلامية الجهادية سواء أفرادا أو تنظيمات إلى دلالة هامة هي ارتباط تلك المراجعات بضغوط خارجية تتمثل في الضغط الأمني من قبل الأنظمة السياسية، فمعظم تلك المراجعات إنما خرجت من داخل زنازين السجون، ونتيجة لتفاهمات بين تلك الجماعات والأنظمة الأمنية وهو ما تم مع مبادرة الجماعة الإسلامية في مصر والجماعة المقاتلة في ليبيا.
أتت تلك المراجعات كرد فعل على الضغوط الداخلية وكنقد ذاتي للمنهج والفكر الجهادي واستراتيجياته، بعد أن فشل المشروع الجهادي في تحقيق أي حلم أو هدف، كما أنه خسر يوما بعد يوم الرأي العام فاقدا لقدراته البشرية والمادية بعد أن تضافرت الجهود المحلية والخارجية لخنق قدراته.
ولما كان التيار الإسلامي المعاصر يميل إلى اتباع استراتيجيات التكيف والتأقلم مع الظرف المرحلي، فإن مراجعات الجهاديين لم تخرج عن كونها إطار تكتيك مرحلي تمكيني لإقامة الدولة الإسلامية بآليات أخرى منها الاعتراف بالمشاركة السياسية والديمقراطية ونبذ العنف، فتستوي بذلك مع استراتيجية القوى الإسلامية المعتدلة التي تتبنى التحول من الدعوي إلى السياسي.
عودة الخطاب المسلح الذي تصاعد بشكل متسارع في أعقاب الربيع العربي وغلو توظيف الجهاد كوسيلة لإقامة الخلافة الإسلامية، وعودة من تراجع فكريا إلى تبني خطاب العنف من جديد، مرتبط بالإرث العقائدي والفكري الذي ما زال مترسخا في العقل الإسلامي الجهادي.
فحقيقة الممارسات التي يقوم بها مقاتلي السلفية الجهادية تشير إلى وجود مراجعات فكرية لا تغيير منهجيات سلوكية؛ فبالرغم من أدبيات المراجعات التي تنهي عن قتل المدنيين والأجانب والنهي عن التمثيل بالجسد والنهي عن توظيف الذئاب المنفردة في الهجمات الجهادية، إلا أن كل هذه السلوكيات تزداد يوما بعد يوما وهو ما يعني أن تأثير حركة المراجعات بلا جدوى.
جبهة النصرة والتكيف المرحلي
يأتي إعلان جبهة النصرة فك ارتباطها بتنظيم القاعدة ليضيف إلى محاولات المراجعات الفكرية والعقائدية والمنهجية التي شغلت بال كثير من أبناء التيار الجهادي في السنوات الماضية، ليصبح هناك مراجعات تنظيمية ربما ليست النصرة أول من قامت بهذه الخطوة ولكنه يعتبر الأهم لثقلها العسكري في سوريا.
ولقد تعددت الدوافع التي أدت إلى فك الارتباط منها محاولة كسب تأييد الرأي العام الدولي كونها أصبحت حركة مقاومة وطنية دون القاعدة لنظام الأسد، ضغوط الدول الخليجية عليها لفك ارتباطها بالتنظيم الإرهابي، اشتداد العمليات العسكرية للتحالف الدولي على مواقع التنظيم ومن ثم فقدانه لقدراته البشرية والعسكرية ومحاولته الدخول كطرف من أطراف العملية التفاوضية على مستقبل سوريا، ومن ثم فإن قرار النصرة ما هو إلا محاولة للتكيف مع الظرف المرحلي.
- أبو أيمن الحموي،نحو منهج رشيد، ميثاق للإعلام والنشر،2014
- عبدالحكيم الخويلد، وآخرون، دراسات تصحيحيةفي مفايهم الجهاد والحسبة والحكم على الناس، المنارةللإعلام،
- سيد إمام، وثيقة ترشيد الجهاد في مصر والعالم