هو رجلٌ مُضحك، وليس أكثر من ذلك في نظر الناس، وربما يراه بعض الغارقين في قضايا الفكر وقضايا الشعوب مفرطًا في السخافة، كيف لا وهو لا يدع حديثًا لهم يبحثون فيه بمنتهى الجديّة عن حلولٍ لمشكلاتٍ خطيرةٍ إلا وألقى الكثير من نكاته السخيفة غير المبالية، عقل تافه لا يهتم بالمعضلات التي تشغل تفكيرهم والهموم المترتبة عليها ولا يكترث لأي شيء.

شخص لا مكترث مثل هؤلاء الذين يتحدث عنهم كونديرا قائلا:

لقد أدركنا منذ زمنٍ طويل أنه لم يعد بالإمكان قلبُ هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام! لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة وهي ألا نأخذهُ على محمل الجد!

ذات مساءٍ قرر الرجل التافه اللامبالي أن ينتحر، وفي اليوم التالي عدل عن رأيه؛ ومن قد يهتم بذلك؟ فالكثير تراودهم فكرة الانتحار وتنقصهم شجاعة التنفيذ، ربما هو دستويفسكي الوحيد الذي رأى في قصة انتحاره ما يستحق الحكي، فهي انعكاسٌ لتجربته الروحية والفلسفية.

نشرت القصة عام 1870 بعنوان «حلم الرفيق الغريب» وأعيد نشرها بعنوان «حلم رجل مضحك»، وتتشابه تفاصيلها مع تفاصيل قصةٍ أخرى لدستويفسكي نُشرت عام 1864 بعنوان «الإنسان الصرصار» أو «رسائل من أعماق الأرض» والتي يعتبرها البعض أولى الروايات الوجودية.


تبدأ القصة بصديقنا التافه مجهول الاسم وهو يحاول تفسير كونه مضحكًا، فالجميع يضحك عليه، حتى هو نفسه كان يعلم كم هو مضحك ولكن عزة نفسه كانت تمنعه من الاعتراف. حاول معرفة السبب وراء ذلك حتى توصّل في النهاية إلى أن السبب هو أنه لا يرى في تلك الحياة ما يستحق الاهتمام، لا مبالاة حملها نحو العالم الكئيب فاقد القيمة والمعنى، فلم يعد في التفاهات الدنيوية ما يجلب له المتعة: «لا شيء في هذه الحياة يستحِـق الاهتمام، كان الأمر فيما مضى مجرد شك لكنني اقتنعت بعد ذلك بقناعةٍ كامِـلـة، وأيقنت فجأة بذلك يقينًا لا محيد عنه. بغتـة شعرت أنني لست معنيـًّا سواء وُجد هذا العالَـم أو لم يوجـد، وبدأت أشعر و أحس بكل جوارحي أن لا شيء وجد أثناء وجودي أنا»، «وعند ذلك ما عدت أغضب من الناس، بل ما عدت ألاحظ وجودهم»، فلم يعد يهتم لصورته بين الناس فهو غير قادر على احترام نفسه: «هل يستطيع الإنسان شديد الإدراك لكل ما حوله أن يحترم نفسه؟!».

وفي أحد المساءات الحالكة الماطرة، بينما كان رجلنا المضحك يسير في إحدى الطرق الكئيبة، يعاني من عجزه عن قبول البشر، وعن إقامة جسورٍ مع المجتمع الذي يراه غريبًا، نظر فجأة إلى السماء فرأى نجمًا صغيرًا يخترق عباءة السماء المظلمة، أيقظ النجم المتفرّد فيه فكرة؛ فكيف له أن يبقى وحيدًا في تلك السماء الحالكة، وفي تلك اللحظة قرر الانتحار. كان قد اشترى مسدّسًا قبل شهرين، قام بحشوه في نفس اليوم ولكن راوده أملٌ ضئيلٌ بالعثور على دقيقةٍ واحدةٍ يشعر فيها بأن شيئًا ما يستحق الاهتمام فرمى به في الدرج. ظل يبحث خلال الشهرين عن تلك الدقيقة، فلما لم يجدها بحث عن اللحظة الملائمة للانتحار، والتي حانت الآن.

وفي تلك اللحظة ظهرت من الفراغ طفلةٌ في الثامنة، مبللةٌ تمامًا تغطي رأسها بمنديل، وحذاؤها مثقوبٌ يمرّر من الماء أكثر مما يمنع، جذبته الطفلة من كمّه وهي تصرخ مطالبةً إياه أن ينقذ أمها المحتضرة، هذا الرجل فقد كلّ لذةٍ للحياة؛ حتى اللذات الرقيقة التي تثيرها فينا الإنسانية والأخلاق فقدها، فلم تعد الأخلاق عنده سوى حمل ثقيل لا قيمة له تحمله الأرواح البائسة منعدمة القيمة، تلك التي تنوي البقاء واستكمال الحياة، وهو لا ينوي ذلك، نهَرَ الفتاة وصاح في وجهها كي تبتعد، ولكنها ظلت تتبعه وتستجديه، وفي النهاية قررت أن تحمل رجاءها وصرخاتها وتبتعد.

عاد إلى المنزل، جلس إلى الطاولة، أخرج مسدسه ووضعه أمامه، ثم انتظر، وفي تلك اللحظة راوده إحساسٌ بالشفقة وتساءل لمَ لم يساعد تلك الفتاة وقد كان بمقدوره فعل ذلك؟، كان يعتقد وقتها بأن العالم لم يعد يعنيه فهو سينهي حياته بعد لحظات و «العالم قد وجد لأجلي وحدي فيكفي أن أطلق النار عليّ حتى يختفي العالم ولا يعود موجودًا»، ولكن رغم ذلك ورغم أن الأشياء حوله ما كانت تعنيه، إلا أنه كان يحسّ بالألم، وبدأت المحاكمات العقلية وبدأ يتساءل عن سبب شعور الشفقة الذي ظهر رغم أنه سيغدو صفرًا بعد قليل ومن أين ظهر ولماذا ظهر وهو ينوي التخلص من الحياة بعد لحظات: «فكل هذا العالم لم يكن يتعلق غير بي أنا بوعيي أنا، وبعد لحظات، عندما أقتل نفسي سينتهي كل ذلك، ولكن لماذا يؤنبني ضميري على ما فعلت؟ فلو أنني قد عشت في الماضي على سطح القمر أو المريخ، وارتكبتُ هناك عملاً شديد البشاعة والوضاعة مما لا يمكن تصوره فصرت مخزيًا مكلّلاً بالعار بطريقةٍ لا يمكن تخيلها، ثم وجدت نفسي فجأة على سطح الأرض مع كل تلك المشاعر والصور عما ارتكبته على هذا الكوكب، لكنني لن أعود إلى هناك لأي سببٍ كان، فهل سأشعر بالعار مما فعلته هناك؟ أم هل سأحس بعدم الاكتراث لكل ما حدث؟».

أشعلت الأسئلة النار في أعماقه ومنعته من الانتحار قبل أن يحلّها، فكأن مقابلته لتلك الفتاة أعطت الموت عذرًا كافيًا ليتهرب منه.


أخذه النوم فجأة ودونما إنذار على غير العادة، حيث رأى في نومه حلمًا. وكان دستويفسكي شديد الارتباط بالأحلام، تقول زوجته في مذكراتها:

سألته عن سبب ابتهاجه ذات مرة فأجاب أنه رأى حلمًا في المنام، فقهقهت، لكنه أوقفني قائلا: «لا تسخري مني، أنا أؤمن بالأحلام و أحلامي تتحقق دومًا. حينما أرى المرحوم شقيقي ميخائيل أو يحضرني طيف والدي في المنام لا بد أن تحل بي مصيبة؛ لكني هذه المرة رأيت جوهرةً براقةً بين مخطوطاتي في هذا الصندوق، ثم توالت أحلامٌ أخرى ولا أدري أين اختفت الجوهرة». فقلت له: «الأحلام تفسّرُ عادةً بالمقلوب»، وأسفت لما قلت؛ فقد امتقع وجهه وسأل: «تعتقدين أنني لن ألقى السعادة وأن ذلك مجرد أمل واهٍ؟». وأجبته: «والله لا أدري. ثم أنني لا أصدق الأحلام». واختفى كل أثرٍ للابتهاج، ودهشت لسرعة تبدل مزاجه.

رأى الرجل المضحك في ذلك الحلم تلك الحقيقة التي كانت غائبةً عنه وكانت لديه رغبة عميقة في الوصول إليها، فما الحلم إلا انعكاس لرغبة القلب (ما يحرك الأحلام فينا هو الرغبة وليس العقل)، وقد رأى في حلمه ما جعله يعدل تمامًا عن فكرة الانتحار: «إن تلك الحياة التي تُعلون من شأنها كنت سأنهيها بطلقة مسدس، لكن حلمي، حلمي أنا، فقد حمل إلي حياةً جديدة، عظيمة، متجددة، وقوية». كانت تلك الفتاة التي قابلها هي «المادة‏ ‏الحديثة‏ ‏وغير‏ ال‏هامة»، أي هي الأحداث‏ ‏التي ‏تقع‏ ‏في ‏الوقت‏ ‏السابق‏ ‏للحلم، والتي اعتبرها فرويد من المصادر الأساسية لتشكل الحلم.

حلم الرجل بانتحاره، بجنازته ودفنه، رأى نفسه داخل التابوت مغلّفًا بالوحدة والبرودة، تتساقط قطرات ماءٍ من خارج التابوت بتتابعٍ مستمر على عينه المغلقة، يتعذب ويغضب، يريد أن يصرخ في الوجود ولكنه عاجزٌ عن ذلك فتنعكس الصرخة بداخله: «أيا كنت؛ إن كنتَ موجودًا، فالتعذيب الذي يقع علي الآن مهما كان، لا يعدل شعوري بالاحتقار الذي سأحسه صامتًا ولو لملايين السنين القادمة!».

انفتح التابوت فجأة، وإذا بكائنٍ مجهولٍ غامضٍ يحمله ويطير به في الفضاء، كان ينتظر العدم المطلق بعد موته فإذا به بين يدي كائن، كائن لا إنساني بالتأكيد ولكنه لم يكن يكره البشر فقط بل كان يكره كل موجود؛ ولكن هذا المخلوق كان مختلفًا فلم يحتقره ولم يضحك عليه، ولم يرثَ له، بل حمله إلى أرضٍ أخرى وعالمٍ آخر يشبه عالمنا في كل شيء ولا يختلف عنه إلا في شيءٍ واحد: كانت تلك الأرض الأخرى تشبه الجنة التي عاش فيها أجدادنا قبل أن يرتكبوا أي خطيئة، كانت أرضًا مثالية لم تتلوث بعد بخطايا أهلها.

يحكي عن مثالية البشر الذين قابلهم هناك قائلا:

كانوا هادئين بلا رغبات، ولم تكن لديهم تلك المحاولات لمعرفة الحياة كما هو عندنا لأن حياتهم كانت كاملة، ومعرفتهم أكثر عمقًا وسموًّا من علمنا، لأن علمنا إنما يسعى لمعرفة الحياة وشرحها، لتعليم الآخرين، أما هم فقد عرفوا كيف يعيشون. لقد كانوا فرحين مرحين كالأطفال، يطوفون في أرجاء أحراشهم وغاباتهم يغنّون أغنياتهم الرائعة، ما رأيت بينهم حسدًا ولا خصومات، بل ما كانوا يعرفون معنى هاتين الكلمتين.

ويمر بعد ذلك البطل بعددٍ من القصص يكتشف خلالها معنى الوجود ولماذا تستحق الحياة أن تُعاش، فساكنو الأرض الجديدة لم تستمر مثاليتهم طويلاً كما أحب، بل علمهم هو الكذب والذي كان البذرة الأولى، تبعته اللذة والتي ولدت بدورها الغيرة والمنافسة، المنافسة لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم الكبرى بعد تخليهم عن بساطة الحياة، نتجت القسوة في النهاية، ومن ثم ظهر القتل، وأعطيت للصفات الجيدة أسماء لما ظهرت نقائضها، فاخترعوا العدالة لما أصبحوا مجرمين، واخترعوا الإنسانية عندما أصبحوا أشرارًا، واخترعوا العلم لما تعطشوا للعذاب وقالوا إن الحقيقة لا تُبلغ إلا بالعذاب.

وجد الرجل ما كرهه في البشر يحدث بين هؤلاء الناس، علم كيف يتولد الشر والكراهية، وكيف نُساهم في صنعه، واكتشف إمكانية وجود خيرٍ وسعادةٍ وبراءةٍ في تلك الحياة، فثار حنينه إلى الأرض التي سالت عليها دماؤه وإلى أهلها.

يحكي لنا البطل البائس الذي يمثل دستويفسكي في بحثه عن سببٍ لمواصلة الحياة، يحكي ملخص تاريخ الأفكار، وتاريخ البشر الباحثين عن تفسيراتٍ للسعادة، وما هم إلا يبعدون عنها؛ فالسعادة ليست الهدف بل هي الطريق، يفهمونك أنهم يضعون نظرياتٍ هدفها معرفة السعادة ولو عرضت عليهم فرصة حقيقة للسعادة لرفضوها وربما وصفوها بالتخلف، يبحثون عن قيمة الحياة وغاية الوجود، ولن يجدوها؛ فليس هناك دليل عند الولادة يكشف عن معنى الحياة، بل كل إنسان حر بأعماله في اختيار المعنى الذي يمنحه للحياة.

يحكي لنا الملخص الذي أوصل شخصًا مثله إلى الرغبة في الانتحار؛ فالبشر يعشقون العذاب والألم، يتمسكون بالاكتئاب ظنًّا منهم أن الأرض تخلو مما يستحق المتعة والجمال، وأن لا جمال ولا حب على الأرض إلا مع الألم والعذاب، فقط من خلالهما، لا نعرف حبًّا آخر وكما يقول نزار: «أن الدمع هو الإنسان، أن الإنسان بلا حزنٍ ذكرى إنسانْ».

استيقظ الرجل ليجد المسدس لا يزال موضوعًا بجواره، أبعده جانبًا وهو يبكي بشدة، صارخًا: الحياة الحياة، علي أن أحيا وأبشر!

قرر أن ينطلق مبشّرًا بتلك الحقيقة التي رآها في منامه، الحقيقة أن البشر يمكن أن يكونوا رائعين وسعداء دون أن يفقدوا القدرة على الحياة فوق سطح الأرض، لأن الشر ليس حالةً طبيعيةً للإنسان، فالإنسان أضعف من أن يصير شريرًا، أصبح يعشق الجميع، حتى أولئك الذين يسخرون منه بسبب حلمه أحبهم: «فهل حياتنا أكثر من حلم؟».

وحتى لو لم يتحقق شيءٌ مما حلم به، فسيكفيه أن يحب الآخرين كما يحب نفسه، هذا هو كل شيء وهو أعظم شيء، لا شيء آخر يستحق الحياة، فكما يقال إنه: «بمقدار رصيدنا من الرحمة نحن نطالع رحمات الله»، أي أن معرفة جمال الحياة في عين الواحد منا تختلف عنها في عين الآخر على حسب إحساسه هو بالرحمة وبالجمال، فإذا اختفت من القلب الرحمة فلن يرى في الكون سوى الشر والبؤس، ولو امتلأ القلب بحب النفس وحب الناس، لعرف الخير والجمال في الحياة وفي البشر، ولن يتوقف عن دعوة الناس إلى أن يعيشوا الحياة ويتوقفوا عن محاولة فهمها، يعيشوا السعادة بدلاً من البحث عن قوانين السعادة، يعيشوا الحياة بدلا من البحث عن معنى الحياة.

يقول نجيب محفوظ في أصداء السيرة الذاتية على لسان الشيخ عبد ربه التائه:

جاءني قومٌ وقالوا إنهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة، فقلت لهم تحركوا دون إبطاء، فالمعنى كامنٌ في الحركة.

كانت يد الفتاة هي الرابط الذي أعاد ارتباطه للبشر، اكتشف أنه كان يلوم غيره على دمار وفساد العالم وقد شارك هو معهم في صنع هذا الدمار؛ بكراهيته للناس، واحتقاره للخير، وإنكاره للجمال، والسكوت عما يراه حوله من شرور.

وقرر في النهاية أن يمضي ولا يتوقف حتى يعثر على تلك الفتاة؛ فربما تمكّن من جعلها تبتسم.