متى تتقدم «السنة العملية» على «الحديث النبوي»؟
مسألة «تقديم العمل على الحديث» من المسائل المعقدة التي أشبعها قدماءُ العلماء ومحدثوهم بالدرس والبحث، وبالأخذ والرد. وهي تندرجُ أولًا في مسائل علم أصول الفقه، وتندرج ثانيًا، وبالتبعية، في مسائل علوم الحديث. وعلى ذلك، فإنَّ مَعْقد السؤال فيها هو: متى تتقدم السنة العملية على الحديث النبوي؟ ولماذا؟
وقد قرأتُ بحثًا جديدًا في هذا الموضوع كتبه معتز الخطيب، وعقّبتُ عليه في الندوة التي نظمها مركز دراسات مقاصد الشريعة (لندن)، ومختبر الدراسات الشرعية والعمران بكلية الآداب جامعة مكناس (المغرب) في الفترة من 2 إلى 4 مايو/آيار 2018. وهو قد اقترح لحل هذا الإشكال: إضافة مسلك «رعاية العمل» بالأدلة التي تستلزم التأسي، ويتحقق بها البيان، وهما مقصودا السنة بمعناها الشامل؛ إلى جانب مقصدها التشريعي. وفي نظري أن هذا الحل يقتضي بالضرورة إعادة تعريف مفهومي «العمل» و«القبول» وفق معناهما الأصولي والحديثي في آن واحد.
بالنسبة لمسلك رعاية العمل بالأدلة للوقوف على ما هو «سنة» تستلزم التأسي، ويتحققُ بها البيانُ، يكون «العمل» في هذا السياق بمثابة «إجماع فعلي» على ترك الحديث المقبول وفق معايير القبول المعتبرة. وبما أن الإجماع العملي غالبًا ما يدل على «المصلحةِ»، والمصلحة المعتبرة شرعًا دليلٌ كلي (مقاصدي): إما بجلبِ منفعةٍ أو بدرءِ مفسدةٍ؛ إذن فإن مسألة تقديم العمل على الحديث ينفتح له بابٌ من هذه الجهةِ. ويؤيد هذا أن أغلبَ الأمثالِ الشارحةِ التي نجدها في كتب العلماء بخصوص المقصود من «الإجماع الفعلي» أو ما جرى عليه العملُ، هي بشأن قضايا معقولةِ المعنى. ومعلوم أن رعايةَ المصلحة هي ثمرةُ الاستدلال المقاصدي بالأدلة الكلية.
وقد ذهب قدماء العلماء إلى جواز تقديم السنة العملية على الحديث النبوي لأسباب ترجع لـ «غير باب التعليل عند المحدثين، وتدور على الترجيحِ، أو التأويلِ، أو النسخِ». والعلةُ عند أهلِ الحديث كما يُستفاد من أقوال الرازي وابن الصلاح وغيرهما هي: سببٌ يقدحُ في قبول الحديث مع أن ظاهرَه السلامةُ منها. وقد تصيبُ العلةُ السندَ أو المتنَ أو تصيبُهما معًا. أما العلة عند الأصوليين فهي: الوصفُ الظاهرُ المنضبطُ (بعضهم أضاف: المناسب)، وهي تؤثرُ في الحكمِ لا بذاتها بل بجعلِ الشارع، كما يستفادُ من أقوال الغزالي والرازي والبيضاوي وغيرهم.
وإذا افترضنا وقوعَ العلةِ بمفهوم المحدِّثين في حديث بعينه، فإن النتيجة هي تعذُّرُ «العلةِ» بمفهوم الأصوليين في هذا الحديث عينِه، أو ضعفِها على أقلِّ تقدير. ومن هنا ينفتح أفق البحث على مقاصد التقديم والتأخير في هذه المسألة من باب جدلية العلل بين حقلي الحديث والأصول. فحديثيًّا، قد تقضي العلةُ برفض الحديث، وهنا ينفتح المجال للعمل؛ وإن لم تقض برفضه، فسينفتح المجال للترجيح والتأويل والنسخ ومن ثمّ تقديم العمل باعتبار الحكمة أو المقصد.
وأصوليًّا، تقعُ العلة في صلبِ مبحث «القياس»، والقياس، كما هو معلوم، من أدوات معرفة الحكم فيما لا يوجد له دليل نصي؛ فهو من هذه الحثيثية نوعٌ من البحث عن مقصد حكم معلوم وتعميمِه لثبوت المصلحة فيه بدلالة اشتراك العلة. وبهذا يمكن إعادة تعريف المقصود بـ «العمل» والمقصود بـ «القبول» بحسب النظرِ المقاصدي الذي يولده الجدل بين «علل الحديث» عند علماءِ الحديث، و«عللِ الأحكام» عند الأصوليين.
إن «الحديثَ» ألصقُ بالقول، والسنة ألصقُت بالعمل، بحسب ما انتهى إليه صديقنا معتز، وهذا صحيح إجمالًا. ومما انتهى إليه أيضًا أن جدليةَ «القبول والعمل» تدور حول: إمكان رواية الحديث عن الثقات ولا يعملُ به، ولزوم قبول الحديث الصحيح وإن لم يعمل به؛ لأسبابٍ تتعلق بالتأويل، والترك، والنسخ؛ ولا تتعلقُ بعلل الحديث في سنده أو في متنه أو فيهما معًا.
وثمة مطارحات مشبعة قدمها الأصوليون والفقهاء في هذه المسائل، وبخاصةٍ مطارحات الأئمة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد رضي الله عنهم أجمعين. وأقوال القوم في هذا الموضوع يمكنُ تقسيمُها إلى قسمين: الأول يتحدث عن أنه ليس كلُّ حديثٍ مقبولٍ يُعمل به، وأن التمييز بين الحديثِ والعمل من شأن الفقهاء؛ لأَّنهم أَعرفُ بالاستنباط ومواقع الأدلة. أما القسمُ الثاني فيتحدث عن تقديمِ العمل على الحديث عند الاختلافِ لأن «العمل أثبت».
وتأتي جهود الإمام الشاطبي في هذا السياق لتضيف بعدًا متميزًا؛ إذ كان همه الأكبر هو: تجاوز مركزية الرواية ــ في مفهوم السنة ــ إلى مركزيةِ «العمل»، وجعل «العمل» مبدأً كليًّا ضمنَ كليات الأدلة. وأحدثَ نقلةً نوعيةً كبيرةً في النظر الكلي إلى «السُّنة» بأن ميَّزَ بين «العملِ القليلِ والعملِ الكثيرِ»، وتجاوزَ عمومَ فكرةِ العمل إلى البحث في أوجه العمل وملابساته وسياقاته. وفي رأينا أن هذا السياق الذي يركز على «العمل» باعتباره «إجماعًا فعليًّا»، يسهم في فتح المسألة على مفهوم «السيرة النبوية» من جهة، ويقتضي من جهة أخرى فتح باب البحث في قضية تكييف الفترة التاريخية لصدرِ الإسلام، أقصدُ: عصرَ الرسول، وعصرَ الخلفاء الراشدين.
أما مفهومُ «السيرةِ»؛ فلأن حياةَ النبي صلي الله عليه وسلم هي مصدرُ الأسوةِ الحسنة التي يتعينُ على المسلم اقتفاؤها، ومقصدُ السنة هو البيانُ وحصول التأسي والتشريع. وللسيرة مروياتها التي تكشف عن جوانب أساسية من معنى: السنة العملية. ومروياتُ السيرة قد تتطابق مع مرويات الحديث وقد تختلف معها. وبينما يعتمد قدماءُ المؤرخين حشدَ الآثار وتمحيصَ الأسانيد وتسجيلَ ما دقَّ وجلَّ من الوقائع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وذاك أحسنُ ما في طريقتهم؛ نجد أنَّ المؤرخين المحدثين يميلون إلى التعليلِ والموازنةِ وربطِ الحوادث المختلفة في سياقٍ بنائيٍّ متماسك، وذاك أحسنُ ما في طريقتهم، على حد تعبير الشيخ الغزالي في كتابه القيم «فقه السيرة» (القاهرة: دار الريان للتراث، 1407هـ/1987م ــ ص9-13).
وتفيد طريقة القدماء وطريقة المحدثين في بحوث السيرة أيما إفادةٍ في تحقيق مسألة «تقديم العمل على الحديث»، حيث يتحدُ مقصدُ السيرةِ مع مقصد السنة في «البيان» العملي من جهة، وفي «التأسي» بالقدوةِ الحسنة صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى. وهذا الطرح يقرِّبُ البعيد، ويختصر الطريقَ إلى «الرؤية المقاصدية» لمسألة تقديم الحديث على العمل، ويلقي عليها أضواء لا غنى عنها. وقد أثيرت هذه المسألةُ عندما أصدرَ الشيخ محمد الغزالي كتابه «فقه السيرة»، وتعقَّبه الشيخ الألباني فيما أورده من آثار وأحاديث. وقد أَعملَ الألباني فيها مبضع «المحدث» روايةً ودرايةً، ورد عليه الشيخ الغزالي برؤية أراها «مقاصدية» من الطراز الرفيع في مجملِها.
وقبل الذي جرى بين الغزالي والألباني، كان الشيخُ مصطفى السباعي قد دخلَ في مساجلةٍ أكثرَ استقطابًا بينه وبين الشيخ محمود أبي ريةٍ بشأن ما ذهب إليه الأخير في كتابه «أضواء على السنة المحمدية» (القاهرة: دار المعارف، الطبعة الخامسة، د. ت). وهي مساجلة مفيدةٌ أيضًا في فهم مسألةـ «تقديم العمل على الحديث»؛ حيث ميّز الشيخ السباعي بين معاني السنة عند «الأصوليين» و«المحدثين» و«الفقهاء»، وناقش مسألةَ «حجية السنة» وفق معناها عند الأصوليين؛ وهو المعنى الذي يبحث عن حجيتها ومكانتها في التشريع (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، بيروت: المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1405هـ/1985م ص 2 ــ 44).
وأما قضيةُ تكييف «صدر الإسلام»، وهو يشملُ عصرَ الرسول وعصرَ الخلفاء الراشدين من بعده، فأمرٌ يقعُ في صميم بناء رؤية مقاصدية لمسألة «تقديم العمل على الحديث». فتلكَ الفترةُ هي «الوعاءُ الزمني» لنزول النص وللتطبيق الأول له ولأحكامِه. هي فترةُ «العمل» الذي كان أقربَ لمقصدٍ أساسي من مقاصد السنة وهو «التأسي» بالقدوة الحسنة لرسول الله، وبنورِ بيانه النبوي.
ويحيط الغموضُ بتلك الفترة، إلى الدرجة التي تقع فيها أحيانًا المقارنة الحسابية بينها (وهي لا تزيد عن نصف قرن)، وبين ما تلاها (وهي أحقاب زمنية بلغت أربعة عشر قرنًا تقريبًا، ونحن الآن في نهاية العقد الرابع من القرن الخامس عشر الهجري).
والمهم هنا هو أن تلك الفترةَ الأولى لم تكن عهدَ تطبيقٍ، أو عملٍ فحسب؛ وإنما كانت عهدَ تشريع بالأساس في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضًا في حياة الخلفاء الراشدين؛ لأن مدة حياتِه منذ بعثته هي مدةُ نزول الوحي ومدة العمل الأول للصحابة الذين نقلوا إلينا في أقوالِهم وأعمالِهم ما أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وما الذي أخذوه عنه؟
لقد أخذوا عنه القرآن والسنة (القولية والعملية والتقريرية). فالسنةُ بهذا المعنى واردة بالرواية والملاحظةِ عن أصحابه صلى الله عليه وسلم، ولم تكن أعمالُهم مجردَ «تطبيق»، ولكنها بمثابة «سوابق تشريعية»، وعليه فإن أهميةَ «الصدرِ الأول» للإسلام ليست لكونه «تجربةً تاريخية»، ولكن لأنَّ له «قيمةً تشريعيةً أصوليةً»، كما قرّر المستشار طارق البشري (كتابه: في المسألة الإسلامية المعاصرة، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة: دار الشروق، 1417هـ/1996م، ص72-74).
ومقتضى هذا النظر أن ما نستخلصه من أصول من تلك الفترة إنما يتعلقُ بما يعتبر لدى المسلم نصوصًا وأحكامًا غير تاريخية، أي أن لها صفةَ الدوام وتعلو على نطاق الزمان والمكان. وتكييف تلك الفترة الأولى (عصر الرسالة وعصر الخلفاء) على هذا النحو الذي يقترحُه الحكيمُ البشري من شأنه أن يدعمَ التأصيلَ المقاصدي لمفهوم «العمل» في علاقته بــ «الحديث»، دون حاجة إلى الإغراق في تفاصيل الجدل الحديثي والأصولي القديم في المسألة.
وإذا علمنا أن المقصود بـ «العمل» الذي يتقدّم على الحديث هو «السنة المتَّبعة» أو «الإجماع الفعلي» كما ذهب ابن قتيبة، فإنه يبقى سؤالان استفهاميان، أولُهما هو: هل يمكن تعيينُ زمنٍ محدد لاعتبار «العمل» فيه داعيًا لترك الحديثِ إذا كان مستجمعًا الشروطَ اللازمةَ لذلك؟
وبفرض أننا أخذنا بالرأي القائل بأنَّ الزمنَ المقصود هو عصر الرسول وخلفائِه الراشدين، فنحن في حاجةٍ إلى إعمال اجتهاد المستشار البشري الذي أوردناه فيما سبق بشأن «تكييف» عصر الرسول والراشدين على أنه عصر تطبيق وتشريع في آن واحد. وثانيهما هو: هل يمكنُ التمييزُ بدقةٍ بين مفهوم «العمل» الذي يُتركُ من أجله الحديثُ، ومفهومٍ آخر هو: «العُرف»، وكيف إذا اختلطا معًا في الواقع ونفسِ الأمر؟
إن «العُرف» عند التحقيقِ لا يخرجُ عن كونه مسألةَ ممارسةٍ عملية وسلوكية، وإن شئتَ: هو سنة اجتماعيةٌ متبعة، وغالبًا ما يأتي اتباعها ثمرةَ منظوماتِ القيم والمبادئ السائدة في المجتمع . ومن هنا قد يمتزج مع «العمل» الذي هو «سنة متبعة»، أو هو «عملُ الأكثر»، أو عملُ أهل المدينة عند الإمام مالك. والعرفُ كذلك له اعتبارُه الأصولي كما هو معلومٌ في الدرس الأصولي؛ فكيف نميِّزُ أو نوفقُ بين «العرف» و«العمل» الذي يُترك من أجله الحديثُ ولو في عصر الرسول وعصر الراشدين. هل من أداة للتمييز بين هذا وذاك؟ سؤال نطرحه كي يجيب عليه أهل الاختصاص.