متى كان الرقص منبرًا لترويج المشروع القومي في إيران؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
يتناول المقال كتاب: «الجنوسة/ الجندر والرقص في إيران المعاصرة»، «Gender and Dance in Modern Iran»، لمؤلفته «آيدا مفتاحي»، منشورات راتلج 2016.
تاريخ الرقص في إيران هو معترك لأنواع النزاع: من يستطيع الرقص؟ أين يستطيع أن يرقص؟ كيف يستطيع أن يرقص؟ وما الذي ينبغي أو لا ينبغي أن يكون مرتبطًا بالرقص؟
كتاب «آيدا مفتاحي» هو سرد لتاريخ هذه الصراعات والتحولات السياسية والاجتماعية للرقص، وخاصة رقص النساء على المسرح في إيران الحديثة، كتاب جذاب وفيه الكثير من التفاصيل والإشارات التاريخية.
بدأت مفتاحي بقصة الرقص المعاصر منذ بداية الثورة الدستورية وحتى العقد الرابع من الجمهورية الإسلامية. خلال الفترة القاجارية لم يكن مسموحًا للنساء بالرقص أمام الملأ، وفي المناسبات التقليدية كان المطربون أو الرجال الذين يؤدون أدوار النساء (زنپوش) فقط من يرقصون، أو الرجال المردان؛ يعني أن الرجال الذين لا ينبت على وجوههم الشعر كانوا يرقصون، ويدعون واحدهم بـ«الفتى الراقِص».
لم يكن للنهضة الدستورية والدستوريين أي اهتمام بفن الرقص، ولكن عوضًا عن ذلك اهتموا بالمسرح كأحد الفنون الحديثة والتي تستطيع أن تخدم وترتقي بالحالة الثقافية وتعزز النزعة القومية وتروج لها، والمشكلة هنا أن المرأة كانت جريئة بعض الشيء على المسرح في مجتمع تقليدي متدين ومتشدد للغاية.
كان الحل كما يكتب سيد أحمد خان ملك ساساني الكاتب والناقد المسرحي في العام 1914 هو «التعلم في إسطنبول واستخدام النساء الأرمن واليهود»، وبهذا الشكل حل أصحاب المسرح هذه المشكلة باستخدام نساء غير مسلمات ومن أقليات دينية ومذهبية إيرانية أو مهاجرين، وفيما بعد اللاجئين والفارين بعد قيام الثورة الاشتراكية الروسية، وبعد ذلك رويدًا رويدًا دخلت النساء الإيرانيات على المسرح، وصار إعلان وترويج المقاهي والكاباريهات في شارع لاله زار يضج بأسماء راقصات محليات.
ترتبط قصة رقص النساء منذ البداية بالهوية الإيرانية والطريقة الأمثل لهذه الهوية، فطوال بحثها ودراستها تكشف مفتاحي كيف أن الرقص صار وتحوّل إلى منبر لترويج المشروع القومي في إيران. ومن المثير للاهتمام أن الشخصيات غير الإيرانية لعبت دورًا مهمًا في تأسيس ما سمي فيما بعد بالرقص الوطني الإيراني، وكان الهدف منه تصوير حركات أجساد النساء بما يتناسق ويتناسب مع الهوية الإيرانية. واحدة من أهم الشخصيات هي السيدة «نيلا كِرَم كوك» وكانت تعمل في القسم الثقافي للسفارة الأمريكية في طهران، وأيضًا لفترة من الوقت في وزارة الداخلية الإيرانية، حيث عهدوا إليها بتأسيس ما سمي: إدارة العروض، والتي تنظر وتشرف على عروض الأفلام والمسرح.
في العام 1946 أنشأت كوك «إستوديو إحياء الفنون الإيرانية القديمة»، وبعد سنة واحدة تم عرض مسرحية «أردشير بابك/ أردشير الأول»؛ هذا العرض المسرحي بالنسبة لإيران هو أول عمل جاد وأغزره إنتاجًا بغرض تقوية الفن والرقص الوطني، حيث يصور هذا العرض خمسة ملائكة يمسكون بيد «أردشير مؤسس» الإمبراطورية الساسانية حتى ينقذ إيران.
وكما تروي مفتاحي، فإن الرقص الوطني الإيراني الذي روّج له ورعته الأيديولوجيا القومية لحكومة «بهلوي»، كان «تقليدًا مبتكرًا»، هذا التقليد الذي ادعوا قدمه مع طرح سمات وخلع صفات عليه من قبيل: «قديم، أصيل، تقليدي، كلاسيكي»، لكنه بالمحصلة نتاج المعاصرة والحداثة: نتاج مزيج من عناصر الشعر الفارسي والتصورات التاريخية وثقافات الأقوام المحلية وبالطبع نماذج من الأزمنة القديمة.
كان القصد من وراء هذا التقليد الإبداعي المبتكر، هو إظهار قدم التاريخ للأمة الإيرانية وإظهار الحداثة والتقدم والرقي أيضًا، وفي عملية تطوير هذا التقليد كان يجب تغيير المفردات والكلمات. الآن مرة أخرى يتم استخدام كلمة «راقص/ راقصة» بغرض التحقير، وتطلق على شخص يعمل في كاباريهات لاله زار أو (فيلم فارسي) على المسرح.
بدلًا من ذلك صار يطلق على الفنانين الذين يؤدون أدوارًا في الصالات بالراقصين، وصارت كلمة راقص ترمز لاحقًا إلى عمل مبتذل وكانت تدل فيما سبق على الرقي والتقدم، فكان على المرأة الراقصة أن تجمع بين صفتين لترمز لهذه الهوية: إذ كان عليها أن تكون ساحرة وجميلة وعفيفة في ذات الوقت. يجب أن تكون أيضًا قادرة على أداء حركات الباليه وحركات الجسد الفارسية، لأن مفتاحي أشارت إلى أن صورة المرأة مقتبسة من الأوصاف المثالية للأدبيات الفارسية: شباب، عيون وسيعة، وجه جميل، وقامة ممشوقة. راقصة مختلفة عن راقصات لاله زار، أنوثة مقيدة بأسلوب لا يعتمد على الإغراء.
جسد وحركة المرأة الراقصة على المسرح الذي تديره الدولة، مثل قاعة رودكي بطهران، كان معالجة قضايا حداثوية للأمة الإيرانية. ولم يكن العامل الاقتصادي مهمًا للجميع، على العكس من عامل الاقتصاد في الكافيه والكاباريهات بـلاله زار وصناعة (الفيلم الفارسي) بحيث يعتمد على الجسد كثيرًا للراقص للحفاظ على الزبائن والبقاء والاستمرار.
في فصلين كاملين يتحدث الكتاب بشكل مفصل عن الرقص والراقصات في الكاباريهات. مفتاحي ومن خلال المراجعات الصحفية والأخبار والوثائق المتفرقة، وعبر مقابلات مع ممتهنين لهذه الحرفة خرجت رواية جديدة متناقضة تمامًا مع الإدراك الشائع بأن الراقصين على المسرح يمارسون البغاء ويبيعون أجسادهم.
من قابلتهم مفتاحي قالوا بأن الجميع لم يكن يرى ذلك، فعلى سبيل المثال وفي حوار مع «شوندكان» تحكي عن امرأة متزوجة، حيث كانت تأتي إلى المسرح بكامل حجابها الجادور والحجاب الكامل، هناك كانت تستبدل ثيابها، تقوم بالتمثيل ثم وفي نهاية البرنامج تعود بشكل مباشر إلى ما كانت عليه.
بعد الثورة الإسلامية شهد مسرح الرقص تحولًا وتغييرًا، وظهرت المصطلحات الدينية والمذهبية بداية في المطبوعات الإسلامية في ثلاثينيات القرن العشرين، ظهرت الآن بعد الثورة بشكل رسمي من قبل الحكومة من مثل نار الشهوات، الجذب الجنسي، الفحشاء، المنكر، العمل غير المشروع… إلخ، ومُنع الرقص أمام الملأ العام، وكذلك رقص المرأة أمام أعين غير المحرم بات ممنوعًا.
أما الحكومة الجديدة فلم تستطع بأي وجه القضاء على الرقص، بل على العكس وكما كتبت مفتاحي لم يكن الرقص منتشرًا في الخفاء وعلى هذا النطاق الواسع في إيران كما هو الآن وبأشكال وأنماط مختلفة.
بالطبع فإن بقاء هذا الفن حيًا وتعزيزه في المجتمع مدين لاستمراره لقاع المجتمع، في تعريفه بالناس وإعادة تعريفه وإيجاد طريقة للالتفاف على القيود المفروضة عليه، حتى يستطيعوا التخلص من المحافظين المتدينين ورقابتهم.
بطبيعة الحال تتغير الأسماء مرة أخرى: فبعض أنواع الرقص مثل «بريك» والتي تسمى: تمارين آيروبيك الرياضية، وهي متوفرة في أقسام الرياضة واللياقة البدنية وهي فرصة لإجراء هذا النوع من الرقص. والقليل من فرق الرقص الوطني السابق تبدل إلى حركات موزونة، حيث يعرضها الراقص بهذه الحركات.
كانت ملابس الراقصين داكنة واسعة وفضفاضة تغطي منحنيات الجسد والصدر. وعوضًا عن العزف الحماسي، هناك دفُّ صوفي يُستخدم، وكذلك لا تبرز الحركات الفردية الفنية. وتضرب مفتاحي عرض مسرحية ماكبث في سنة 2012 كمثال، حيث قدّم فيها رجلٌ دور السيدة «مكبث»، وقد نشرت صحيفة «تماشا» مديحًا عن الممثل تحت عنوان: «الرجل الذي تجاوز النساء».
يصف كتاب آيدا مفتاحي السياسة وعلاقة السلطة والظروف الاجتماعية لرقص المرأة على المسرح: صالة المسرح، مسرح الكافيه والكباريهات، ومسرح السينما ومسرح الصالات الفنية. وقد استفادت من مفهوم «علم السياسة» لدى «ميشيل فوكو» لتحليل هذه المعطيات، وكيف تتدخل السلطة وتدير الجسد في الحياة اليومية.
في العقد الماضي (ومن خلال التعرف على استخدام الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعية مثل يوتيوب وإنستغرام) صار للرقص في إيران مسرح آخر: مسرح افتراضي مجازي. وأصبح أثير الإنترنت مليئًا بالأشخاص والأفراد الذين أنشأوا لأنفسهم منصات ويقومون بصياغة أنواع الرقص أو لحشد الجماهير عبر عروض مباشرة على الهواء.
لتوضيح هذه النقاط قد يكون «ميشيل دوسرتو» أفضل من «ميشيل فوكو»، فقد كان فوكو مهتمًا بكيفية انتظام وانضباط الأمور، فيما ذهب دوسرتو إلى البحث عن اختلال الأمور. ويتساءل دوسرتو كيف يبتكر الناس بطرق مختلفة ودونما تنسيق في كثير من الأحيان تكتيكات سلوكية محددة في الحياة لمقاومة السلطة وإدارة العصا وتحويلها؟
السلوكيات التي تنتشر من خلال أثير الشبكة العنكبوتية تضعِف بنية السلطة. رقصة مائدة هجبري هي مجرد مثال واحد من مجموع هذه السلوكيات.