متى يستطيع الإنسان صُنع جنته على الأرض؟
«يوتوبيا»، هي الحلم الأزلي للبشر.
مَن منّا لا يتمنّى أن يعيش في مدينة آمنة سعيدة غنية تكفل له الهناء والعيش الرغد. هذا الحلم الذي تبارَى الشعراء والكتّاب والفلاسفة في الكتابة عنه، وتمنّى وجوده على أرض الواقع.
وبسبب كثرة الحديث عنه شاعت كلمة «يوتوبيا» على الألسنة، وأصبح مجرد ذكرها مرادفًا لمعنى «المدينة الفاضلة». تلك المدينة المثالية التي حلم بها البشر منذ مئات السنين، تلك الجنة التي تعدّدت المحاولات الفكرية والسياسية لخلقها على الأرض.
وعلى الرغم من كل هذه المحاولات، بقي البشر يعيشون في مُدنهم «العادية»، حتى الآن. فلماذا عجز الإنسان عن صُنع جنّته الأرضية حتى الآن؟ إجابة هذا السؤال تتضمّن قصة جميلة وطويلة.
أفلاطون ليس المخترع الأول
يعتقد البعض أن أفلاطون هو صاحب الذِكر الأول للمدينة الفاضلة، وهذا خطأ شائع، وإنما صاحب أول تصور لما نُسمِّيه اليوم «يوتيوبيا» هو الشاعر اليوناني هوميروس، الذي عاش في وقت ما بين القرنين الثاني عشر والثامن قبل الميلاد، ويمتلك تأثيرًا كبيرًا على الثقافة الغربية بفضل ملاحمه الشعرية وأبرزها الأوديسة، التي تطرّق في النشيد السابع منها لأفكاره الأوّلية بشأن تلك المدينة الحُلم خلال وصفه لما أطلق عليه اسم «حدائق الكينوس»، قائلاً: «عصر مضى لا هموم فيه، ولا شيخوخة، ولا أحد يستأثر فيه بشيء، لأن جميع الثروات تعود للجميع».
وما بين عامي 750 و650 قبل الميلاد، وهي الفترة التي عاش فيها الشاعر اليوناني هسيودوس عاد الحديث اليوتيوبي للظهور مجددًا، بعد ما تحدّث هسيودوس في ملحمته «الأعمال والأيام» عن شكل حياةٍ «نموذجي لا عمل فيه، ولا معارك، بل وفَرة ومآدب عامرة».
وبعد هذين الشاعرين الكبيرين يأتي أفلاطون، الذي طالما اقترن لقبه بِاسم المدينة الفاضلة؛ بسبب كتابه الأشهر «الجمهورية»، الذي نُشر نحو 380 عام قبل الميلاد، والذي ناقش فيه العديد من المحاور المهمة، أهمها كيفية بناء دولة عادلة.
أكثر ما ميّز تصور أفلاطون عن سابقيه بشأن «المدينة الفاضلة»، أنه وضع لها تصورًا متكاملًا بما فيها المظاهر العمرانية وطريقة الحُكم، فحلم بأن يجد فيها المواطنون أفضل الخدمات بلا تعقيدات أو روتين، وأن يحكم هذه المدينة الفلاسفة؛ ظنًّا منه أنهم الأقدر على حُكم هذه المدينة الفاضلة وإبقائها على مثاليتها لأكبر وقتٍ ممكن.
وقسّم أفلاطون تصوره لفئات هذه المدينة الرئيسية إلى 3 فئات، هي:
أولًا: الرأس، وفيه العقل، وفضيلته هي الحكمة ويقصد طبقة الحكام من الفلاسفة.
ثانيًا: القلب، وفيه العاطفة، وفضيلته هي الشجاعة وهُم طبقة الجيش.
ثالثًا: البطن، وفيه الشهوات، وفضيلته هي الاعتدال وهُم طبقة الصناع والعمال.
ولقد اشترط أفلاطون في هذا التقسيم التنظيمي أن يكتفي كل فردٍ بالقيام بوظيفته، فلا يُسمح له بأن يمتدَّ مجال نشاطه إلى نشاطات الآخرين، وعلى الرغم من سعي أفلاطون إلى التوجه نحو الأفضل فإن صياغته طريقة الحُكم لم تكن مثالية كما قد نتخيل، فلقد رفض الفيلسوف الشهير الديمقراطية، ورفض المبدأ الذي يكفل حرية التعبير عن الرأي وممارسة أي تأثير في تقرير سياسة الدولة، بسبب قناعة أفلاطون بأن المواطنين لم يُعدُّوا جميعًا اقتصاديًا وعسكريًا، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على آرائهم في اتخاذ القرارات الصائبة للحكومة.
كل هذه التصورات كانت تخرج إلى النور تحت مُسمى المدينة الفاضلة، فيما لم يظهر مصطلح «UTOPIA» إلى النور إلا عام 1517م على يدي الفيلسوف والكاتب الإنجليزي توماس مور، الذي يُنسب له الفضل في اختراع هذا المصطلح، وكلمة يوتوبيا اللاتينية مشتقة من اليونانية، فكلمة «TOPOS» وتعني مكان، و«U» وتعني لا، ويقصد باليوتوبيا (لا مكان)، وبفضل جهود توماس مور نضجت فكرة «المدينة المثالية» وتم تصديرها إلى جميع أنحاء العالم، ومن بعده ستتشكل في الكتب والفلسفات وحتى الحركات السياسية.
حقيقة أم حلم رجل مضحك
لطالما ألهمت أفكار هؤلاء الفلاسفة وتصوراتهم الأدباء والكتاب ليُنتجوا يوتوبيا أخرى تُخلد في أعمالهم الأدبية، وتُعد رواية «يوتوبيا» للكاتب المصري أحمد خالد توفيق، والتي نشرها عام 2008 من الأعمال التي أسهمت في نشر مصطلح يوتوبيا في الأوساط العربية، ولكن المفارقة أن الرواية تروي أحداثًا عن «ديستوبيا»؛ وهي نقيض المدينة الفاضلة، ولكن أشهر هذه الأعمال في الأدب العالمي على الإطلاق هي قصة «حلم رجل مضحك» القصيرة للروائي الروسي (فيودور دوستويفسكي) التي نشرها عام 1877، في 22 صفحة بالتحديد وهي عدد صفحات القصة، رسم دوستويفسكي «يوتوبيا» مكتملة ثم يقرر هدمها، مجيبًا على جزء من التساؤل الذي نطرحه في موضوعنا.
اليوتوبيا الإسلامية: جنة الله على الأرض
لم تلقَ المدينة الفاضلة بين فلاسفة المسلمين تِلك الشهرة التي حظيت بها بين فلاسفة الغرب، إلا أن الطغيان السياسي دفع ثلاثة من أهم فلاسفة الإسلام إلى الاهتمام بالنظم السياسية، متأملين أحوال هذه المدينة المثالية، انطلاقًا من مفاهيم سقراط وأفلاطون، وفي محاولة منهم لاكتشاف أسباب «التأخر السياسي» في العالم الإسلامي، وكيفية معالجته. الفلاسفة الثلاثة هم: الفارابي وابن باجة وابن رشد.
أبو نصر الفارابي عاش بين عامي 870 و950م، برع في العديد من العلوم، مثل: الطب، والفيزياء، والموسيقى، والفلسفة، اعتنى بالتراث اليوناني وبذل جهودًا لتعريف العرب به، وبالنسبة للفارابي كان يعتبر أن الفلسفة بلغت نهايتها في العديد من دول العالم، لكنها تمتلك فرصة جديدة للحياة في المشرق العربي، والإجابة على الأسئلة التي يُناضل العديد من مفكري الإسلام للوصول إلى إجاباتها.
وضع الفارابي كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة»، وقسّمه إلى سبعةٍ وثلاثين فصلًا، عرج فيه على العديد من الموضوعات الفلسفية مثل الذات الإلهية وموجودات العالم والنفس الإنسانية ومبادئ الأخلاق الأساسية، لكن أهم ما قدّمه هو صياغته صورة تخيلية مُثلى للتعاون بين أفراد المجتمع من أجل بناء مدينةٍ فاضلةٍ يسود فيها العدل، وينعم سكانها بالسعادة، وتُمكِّنهم فضائلهم من الصمود في مواجهة المدن الجاهلة.
شبّه الفارابي المدينة الفاضلة بالجسم الصحيح الذي يتعاون أعضاؤه كلهم على تتميم حياة الإنسان، وكما أن الجسم أعضاؤه مختلفة، متفاضلة القوى، وفيها عضو رئيس هو القلب، كذلك المدينة أجزاؤها متفاضلة الهيئات وفيها إنسان رئيس، وحدّد الفارابي 10 خصال ينبغي توافرها في الشخص ليكون مقبولاً للرئاسة وهي: أن يكون تام الأعضاء، جيد الفهم، ذكيًا، حسن العبارة، محبًا للتعلم، غير شره على المأكول والمشروب، محبًا للصدق، كبير النفس، وأن تكون الثروة هينة عنده، وأن يكون قوي العزيمة.
وبعد وفاة الفارابي بنحو قرن ونصف القرن، عاد مفهوم «المدينة الفاضلة» للظهور في الفكر العربي على يدي محمد بن يحيى المعروف بابن باجة الذي عاش ما بين عامي 1080 و1138م. في مؤلفه «تدبير المتوحد» ناقش خلاله ابن باجة مفهوم المدينة الفاضلة، وتحمّس لبناء مدينة الفلاسفة التي حلم بها أفلاطون.
يكمن التشابه بين تصور ابن باجة والفارابي إلى المدينة الفاضلة، هو أن كلا الرجلين ربطا بين العيش فيها و«التطور الروحي»، فرأى ابن باجة أنه لا يمكن السكن في هذه المدينة إلا لِمَن «تدرّج في الموجودات القصوى وغمرته السعادة»، وهنا هو يقصد بالتحديد طائفة الفلاسفة، معتبرًا أن الواحد منهم هو الأولى بإقامة المدينة الفاضلة، لأنه امتلك النور الفطري، وسكن في الكون بالرؤيا، وترك للناس ضجيج الحياة والولع بالثروة والسلطة.
أما عن أبي الوليد محمد المعروف بابن رشد الذي عاش بين عامي 1126 و1198م، فقد تأثر بفلسفة الإغريق، حتى أنه شَرَع في دمج فلسفة أرسطو مع الفكر الإسلامي، وشرح ابن رشد كتاب جمهورية أفلاطون، وقام بتحليل أنواع السياسات وأنظمة الحكم.
تعمّق ابن رُشد في كتابه «السياسة» في وصف المدينة الفاضلة التي جاءت أقرب إلى مفهوم «مدينة الجمهورية» عند أفلاطون، والتي اعتنت بالحديث عن أهم الشرائح الاجتماعية التي يجب أن تضمّها الدولة، والتي رتّبها ابن رشد وفقًا لأهمية كل منهما بحسب رأيه؛ الأولى طبقة الحكام والإداريين، أما الثانية، فطبقة الجند والحراس، والثالثة طبقة الحرفيين من العمال والفلاحين والحدادين.
نار الفضيلة حرقت مَن اقترب منها
كل المدن الفاضلة التي ذُكرت لم تُشيد إلا في عقول أصحابها، وإن عرفناها من كتاباتهم؛ إلا أنها مُدن لم ترَ النور قَط، وبقيت حبيسة الأوهام والأحلام، وهو ما يدفعنا للتساؤل حول محاولات تحويل هذه الأحلام إلى الحقيقة. هل نَزلت اليوتوبيا ولو مرة على أرض الواقع؟
في ثمانينيات القرن الماضي، حكمت الشيوعية نصف الكوكب، تقريبًا، بعد ما وصلت إلى الحُكم في الصين وڤيتنام وكوريا الشمالية وكوبا ويوغوسلاڤيا وكمبوديا. تلك الأيديولوجيا السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشيوعية هي تشييد للمدينة الفاضلة كما تصورها كارل ماركس.
وهناك تشابه كبير بين مبادئ مدينة ماركس الفاضلة وجمهورية أفلاطون؛ فالشيوعية نظام يقوم على إلغاء الملكية الفردية، وعلى حق الناس في الاشتراك في المال، فالناس في الشيوعية شركاء في المال وسائر الثروات والمكتسبات، وهو ما يتشابه إلى حدٍّ كبير مع ما دعا إليه أفلاطون في كتابه الجمهورية.
ذلك النظام المثالي انتهى بالفشل التام، لأنه كان مجرد أحلام نظرية يصعب تطبيقها على أرض الواقع بسبب تعارضها مع قوانين كونية راسخة مثل الطبقية، ناهيك عن المبادئ الإنسانية الشيوعية المعقدة؛ التي تَسمح بقتل العشرات في سبيل المئات، والتضحية بالمئات في سبيل الآلاف.
هذا النهج بلغ ذروته في عهد الزعيم الروسي ستالين، الذي اتسم عهده بالدموية الفجّة بسبب حملات الإبادة التي راح ضحيتها الملايين منهم الفلاحون والمتظاهرون بمن فيهم الشيوعيون المعارضون لأفكار الحزب، وبسببها تحوّل النظام الذي جاء لحماية الطبقات العاملة من تسلط الرأسمالية إلى أكبر متسلط، وسرعان ما انتهت محاولاته لبناء مدينة فاضلة إلى نقيضها الفاسد ديستوبيا.
ما يناسبنا هو أقل من يوتوبيا
ترتبط فكرة اليوتوبيا بالفشل أكثر من النجاح، لأنها تشير إلى نقاط الضعف في مُدننا الحالية أكثر ما تخبرنا بالمجتمعات المثالية، وبهذا فإنها كلما طُرحت ستعيد إحياء العديد من الأسئلة حول الصعوبات الاجتماعية والسياسية التي نواجهها، والتي ستنتهي بنا إلى وضع حُلم المدينة الفاضلة بين مجموعة الأشياء غير القابلة للتحقيق، فهل يكمن الحل في التخلى عن فكرة اليوتوبيا؟
يقول الكاتب مايكل شيرمر في كتابه «الجنة على الأرض: البحث العلمي عن الآخرة والخلود واليوتوبيا»، إنه يعتبر أن يوتوبيا أصبحت تعني «لا مكان»؛ لأنه عندما يحاول البشر الناقصون الكمال- شخصيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا- فإنهم يفشلون. وهكذا تنتج تجارب اجتماعية فاشلة، وأنظمة سياسية قمعية، وأنظمة اقتصادية متعجرفة كلها ناتجة عن أحلام طوباوية وُضعت موضع التنفيذ.
وهو ما يدفعنا للتساؤل، إذا قررنا التخلّي عن اليوتوبيا، فما البديل؟
إجابة الكاتب الأمريكي كيفين كيلي على ذلك هو «البروتوبيا»؛ وهي السعي تدريجيًا نحو أن نصبح بشرًا أفضل، وليس أن نصل إلى الكمال، والتي يصفها قائلًا «بروتوبيا هي دولة أفضل من أمس ومن اليوم، على الرغم من أنها قد تكون أفضل بمقدار ضئيل للغاية، وهو ما يجعل أمر تخيلها أصعب، لأنها سيكون بها مشكلات جديدة بقدر ما فيها من مزايا».
هذا الطرح يتفق معه «كيلي»، والذي يرى أن، أيضًا، أن البروتوبيا هي المفتاح، حيث السعي نحو الأفضل وليس السعي نحو الكمال.