عندما دفعت أمريكا «الجزية» للدولة العثمانية
السطر الثاني من الترنيمة الرسمية لمشاة البحرية الأمريكية هو «إلى سواحل طرابلس»، ثم بعدها سطران يتحدثان عن شجاعة مشاة البحرية الأمريكية «المارينز» وقتالهم لصالح دولتهم سواء كانت المعركة في الجو أو البحر أو الأرض. فما علاقة «طرابلس» بالبحرية الأمريكية ومشاتها، ولماذا تشغل سطرًا في ترنيمةٍ لا تتعدى مدة إنشادها دقيقتين؟
صدق أو لا تصدق، الولايات المتحدة الأمريكية كانت تدفع أموالًا للدولة العثمانية. ربما تعلم بالفعل أن عددًا كبيرًا من الدول الأوروبية خضعت في فترةٍ ما لسلطان الدولة العثمانية وكانت تدفع لها أموالًا هى الأخرى، لكن بات تصوّر ذلك حاليًا صعبًا لما آل إليه الحال من قوة أوروبا وانتهاء الخلافة العثمانية. والأصعب من تصور أوروبا تدفع الضرائب تصوّر أقوى دولة في العالم حاليًا وهى تخضع لدولةٍ أخرى طالبةً الحماية والدعم، والأكثر صعوبةً على الخيال أن تكون تلك الدولة إحدى دول الخلافة العثمانية المسلمة.
تلك الأموال المدفوعة للخزينة العثمانية تختلف المصادر في المصطلح التي تطلق عليها، المصادر العربية تميل لتسميتها «جزية»، أما المصادر الأجنبية فتسميّها «إتاوة» أو «قرصنة». فدعنا لا ننشغل بالمصطلح ودلالته عن أن هناك حقيقة يعترف بها الجميع، أن الولايات المتحدة كانت مضطرة لدفع «أموال» للولايات العثمانية. القصة تبدأ من الأساطيل البحرية للدولة العثمانية الموجودة جنبًا إلى جنب مع أساطيل الدول البربرية، الواقعة على الساحل البربري، ليبيا والجزائر وتونس. تلك الأساطيل المرابطة في البحر المتوسط كانت مهمتها تأمين السفن الجارية في البحر مقابل مبلغ مُحدد تدفعه الدولة المستفيدة.
الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بريطانيا، كانت تدفع 600 جنيه إسترليني للعثمانين سنويًا، هولندا ومملكتا هانوفر وبريم الألمانيتان كانوا يدفعون نفس المبلغ أيضًا. أما الدنمارك، فكانت تدفع 4000 ريال سنويًا مشفوعةً بالهدايا والأسلحة، المملكة الصقليّة كانت تدفع ذات المبلغ. أما مملكة «سردينيا» فكانت تدفع 6 آلاف جنيه. ظلت الأمور على ما هى عليه حتى أخذت الأمور في التغيّر بدايةً عام 1776، عام استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن إنجلترا. بعد الاستقلال بـ6 سنوات بدأت السفن الأمريكية تضع أعلامها الخاصة وتشق بحار العالم.
الولايات المتحدة تعترف بعجزها
لم تعد الولايات المتحدة تدفع أموالًا للخزينة العثمانية فأصبح تأمين السفن الأمريكية مسئولية أصحابها. في يوليو/ تموز عام 1885 تعرّضت الأساطيل الجزائرية لـ11 سفينة أمريكية، استولوا على بعض تلك السفن وساقوا بعضها إلى ميناء قادش الجزائري والبعض الآخر إلى سواحل الجزائر الأخرى. اختلف المكانان لكن اتفقا في أنهما كانا خاضعين للجزائر الخاضعة بدورها للولاية العثمانية. صفعة قوية وجهها الجزائريون والعثمانيون للولايات المتحدة، لكن لم تكن الولايات المتحدة قادرة على رد الصفعة أو حتى على استرداد سفنها المختطفة بالقوة العسكرية.
استغرق الأمر 10 سنوات من الجانب الأمريكي ليدرك أنه سوف يحتاج إلى سنوات أطول لبناء أسطول قادر على مواجهة الأسطول الجزائري والعثماني. لذلك خضعت الولايات المتحدة للأمر الواقع ووقعت اتفاقية صلح مع الدولة العثمانية في سبتمبر/ أيلول عام 1895. كُتبت المعاهدة باللغة التركية، لتكون بذلك المعاهدة الوحيدة في تاريخ الولايات المتحدة التي يُوقع عليها رئيس أمريكي غير مكتوبة باللغة الإنجليزية. علاوةً على تفرّد لغة الكتابة كان مضمونها أيضًا غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، فهى المعاهدة الوحيدة التي تُقر الولايات المتحدة فيها بدفع ضرائب لدولة أخرى مقابل الحماية.
بمجرد التوقيع على الوثيقة دفع جورج واشنطن، أول رئيس أمريكي، 642 ألف دولار ذهبي في الحال لـ«بكلر حسن التركي» باشا. على أن تدفع الولايات المتحدة سنويًا 12 ألف ليرة عثمانية للجزائر التي تُرسلها بدورها إلى الخزينة العثمانية. أما من ناحية العثمانيين فقد أطلقوا سراح السفن المحتجزة لديهم، ومنحوا أساطيل الولايات المتحدة الإبحار الآمن في البحر المتوسط وفي المحيط الأطلسي.
استطاعت السفن الأمريكية أن تحصل على الأمان بمباركة العثمانين لا بفضل قوتها العسكرية، لكن الوضع لم يُعجب توماس جيفرسون، ثالث رئيس للولايات المتحدة. جيفرسون استاء من كيف يُسيطر «العثمانيون الحمقى» على البحر، وأراد أن يُلقن الولاة العثمانيّن درسًا لا ينسونه في كيفية القتال والدفاع عن الكرامة. بهذه اللهجة الحادة حشد جيفرسون قواته من أجل أن يخطو أول خطوة في إرساء أساسات الإمبراطورية الأمريكية، وأخبرهم أيضًا أن النصر الذي سيحققونه سوف يُدشن حقبةً جديدةً للأسطول الأمريكي خاصةً، وللتواجد الأمريكي عامةً، في مناطق العالم الحيوية.
إعلان متبادل للحرب
بدأ جيفرسون حربه بالمماطلة في دفع الأموال المستحقة، خاصة أن والي طرابلس طلب زيادة الرسوم إلى 225 ألف دولار سنويًا. ثم أعطى الإذن لتحرك حملته العسكرية بقيادة الأميرال «ريتشارد ديل» نحو سواحل طرابلس الجزائرية. قاد ديل السفينة «فيلادلفيا»، أكبر سفينة حربية بناها الأمريكيون آنذاك، برفقه 300 جندي على متنها. تجاورها السفينة «بريزيدنت» ذات الـ44 مدفعًا، ويبحر في ظلهما سفينتان أصغر حجمًا تحمل إحداهما 32 مدفعًا،والأخرى 12 مدفعًا. لذا، صدق أو لا تصدق، فإن الولايات المتحدة الأمريكية خاضت حربًا ضد الدولة العثمانية وخسرتها.
كان طلب زيادة الرسوم مرسلًا في أواخر عام 1801، فاستغله جيفرسون فقدّم في فبراير/ شباط عام 1802 طلبًا للكونجرس الأمريكي بإقرار قانون لحماية التجارة الأمريكية الخارجية، وخاصة سفن الولايات المتحدة من خطر الطرابلسيين. شعر الأمريكيون بالخطر خاصةً بعد أن أمر والي طرابلس بتنكيس وكسر سارية العلم الأمريكي الموجودة أمام القنصلية الأمريكية في طرابلس، كإشارة تهديد لهم بعد مماطلتهم في دفع المبلغ الإضافي.
لم يتلق والي طرابلس، يوسف قرة مانلي، ردًا بعد كسره سارية العلم فاعتبر أن الأمريكان يريدون الحرب. أرسل يوسف أسطوله ليجوب البحر المتوسط بحثًا عن أي سفينة ترفع العلم الأمريكي وأسرها وأسر طاقمها حتى تدفع الولايات المتحدة المبلغ المطلوب. أرسلت الولايات المتحدة قنصلها ليُعلن احتجاجه رسميًا على ما يقوم به الأسطول الطرابلسي، وطلب منه الإفراج عن جميع البضائع والسفن التي أسرها الطرابلسيّون. جاءه الرد الرسمي العثماني سريعًا بمطالبته بمغادرة حدود الخلافة العثمانية فور وصول الرسالة إليه. إذن، كلا الطرفين قد أعلن الحرب على الآخر، وكلاهما كان سكرانًا بقوته.
لم تكد شمس النهار تغرب حتى أرسل والي طرابلس رسله ليدّقوا طبول الحرب في شوارع المدينة، وأمر الخطباء بأن يصعدوا المنابر ليُحفزوا الناس للمعركة القادمة. أمام الأجواء المشحونة لم يجد القنصل الأمريكي بدًا من الخروج من الجزائر متوّجهًا إلى تونس. لا يبدو أن الأميرال ديل الذي تحرك منذ أسابيع قد وصلته أصوات طبول الحرب، كذلك لم يكن والي طربلس على علم أن الولايات المتحدة قد اختارت الحرب منذ وقتٍ طويل.
الولايات المتحدة تحرق سفنها
فيلادفيا تدخل جبل طارق للتزوّد بالمؤن، فتجد الأخبار تنتظرها بأن الطرابلسيين يبحثون عنهم ولو عثروا عليهم لأغرقوهم من فورهم. لذلك أصدر ديل أمرًا عامًا بمهاجمة أي سفينة طرابلسيّة تلوح في الأفق، سواء كانت عسكريةً أو سفينة صيد، فلم يشأ المجازفة بالانتظار حتى التأكد من هوية السفينة. لم يمنع الحذر من وقوع قدر الهزيمة الساحقة، محاصرة طرابلسيّة للأسطول الأمريكي كاملًا، وأسر «فيلادفيا» ذاتها. رغم ضخامة فيلادفيا فإن أسرها كان بسيطًا، ففي أثناء المعركة أرادت السفينة أن تناور فوقعت في منطقة مياه ضحلة مما سهّل صعود الجنود العثمانيين فوقها.
أُسرت السفينة بطاقمها المُكون من 300 بحار، وبعد أن كانت فيلادفيا في طريقها لترسيخ هيبة الولايات المتحدة، أصبحت علامة عجز جديدة، خاصة حين فشل الأمريكيون في استردادها لاحقًا فأرسلوا جنودهم ليلًا لإحراقها كي لا يستفيد منها العثمانيون. أُحرقت فيلادلفيا في 16 فبراير/ شباط عام 1804 على يد فرقة يقودها «ستيفن ديكاتور»، بفضل نجاحه في تدمير فيلادلفيا أصبح ديكاتور أصغر فرد يحصل على ترقيةٍ لقبطان في تاريخ البحرية الأمريكية.
بينما كان الأسطولان يبحثان عن بعضهما،لم تصبر الولايات المتحدة حتى ترى النتيجة فقررت أن تلعب لعبةً إضافية بجانب الحرب، الوقيعة. كان من المعروف وجود خلافات بين يوسف، والي طرابلس، وأحمد، شقيقه ووالي مصر، وحاولت الولايات المتحدة استغلالها. أرسلت الولايات المتحدة إغراءاتها المادية والوعود بسلطة أقوى وتحالف طويل إلى والي مصر، فقط إذا قبل التحالف معهم للتمرد على أخيه في طرابلس. قبل أن يأتيهم رد أحمد باشا، عاش الأمريكيون مأساةً أثناء حصارهم لـ«درنة» الليبية جعلتهم ينسون عرضهم على أحمد باشا.
صُعق الأسطول الأمريكي الموجود حول درنة حين رأى أساطيل المغرب وتونس والجزائر آتية تجاهه تحت لواء الدولة العثمانية. لم يُفق الأمريكيون من مفاجأتهم حتى فقدوا 1800 جندي كقتلى و700 آخرين كأسرى. هزائم متتابعة وكلها ساحقة فتبدد بذلك الحلم الأمريكي ببسط السيطرة على تلك السواحل، واضطر الأمريكيون إلى توقيع اتفاقية مهينة مع الجانب العثماني. بموجب تلك الاتفاقية يدفع الأمريكيون الجزية مضاعفةً، وتدفع أيضًا تعويضًا للخزينة العثمانية عن كل جندي عثماني قُتل.
4 سنوات مفقودة
بلغ إجمالي التعويضات الأمريكية 3 ملايين دولار ذهبي، وإضافةً للجزية المفروضة دفعت الولايات المتحدة 20 ألف دولار سنويًا لوالي ليبيا. ظلت تلك الضريبة والضريبة العثمانية قيد العمل حتى عام 1812. في ذلك العام سدد القنصل الأمريكي 62 ألف دولار ذهبي وقدّمت الولايات المتحدة طلبًا للجانب التركي برفع تلك الإتاوة، فوافق الأتراك على ذلك.
ذلك الطلب جاء بعد حرب عام 1812، المعروفة باسم «حرب البربر الثانية»، حيث تُعرّف المصادر الأمريكية الحرب الطرابلسية بأنها «الحرب البربرية الأولى». في الحرب الثانية أظهر الأمريكيون تفوقًا ملحوظًا، بجانب تحالف عدد من الدول الأخرى معهم ضد العثمانيين، فاضطر العثمانيون للقبول بحرية حركة السفن الأمريكية وبعض سفن الدول الأخرى دون إجبارهم على دفع أموال.
أغلب المصادر الأجنبيّة، خاصة الأمريكية، تختزل حرب طرابلس تحت عنوان «الحرب البربرية الأولى» أو «حرب السنوات الأربع من 1801 إلى 1805» ولا تروي سوى أن الولايات المتحدة شعرت أنه يجب أن تفرض سيطرتها على البحار لتتخلص من «قرصنة العثمانيين» فخاضت معهم حرب السنوات الأربع لكنها انتهت باتفاقية «سلام»، ثم خاضت الحرب الثانية التي انتهت هي الأخرى باتفافية «أكثر مناسبة للولايات المتحدة».
لكن تحت ذلك الإجمال لا تجد كثيرًا عن تفاصيل المعركة، بل كثيراً من التفاصيل عن عناء الجنود الأمريكيين في الصحراء الحارة، وتفاصيل عملية حرق «فيلادلفيا». فلا يستيطع الجانب الأمريكي أن يمحو المعركة التي شكلّت النواة الأولى للبحرية الأقوى في العالم، ولا يريد أيضًا أن يسرد تفاصيل هزيمته المُذلة.