عندما أنقذت الإسكندرية «الإلياذة» وأهدتها للعالم
في أي وقتٍ تسنح لك الفرصة فيها لمطالعة كتاب الإلياذة، إذا أُغرمت بسحر الكلمات ووقع العبارات الهومرية، وعشت صليل سيوف المعارك الإغريقية، عليك ألا تحصر إطراءك في كاتبها العبقري هوميروس، وإنما أقترح عليك أن تمدَّ ثناءك إلى الجهود المتتالية التي بذلها أمناء مكتبة الإسكندرية، خلال عصور مجدها الغابر، في الحفاظ على مخطوطات هذا النص وتنقيحها قبل أن تغيب عن الأذهان بمرور الزمن، وتتحول «ملحمة الأساطير» إلى أسطورة أخرى نسمع عنها ولا نقرأ منها.
لم يخترع الإغريق الأبجدية الألفبائية إلا قبل منتصف القرن الثامن ق.م، لذا فلم يجدوا وسيلة مسطورة لحفظ «الإلياذة» من الضياع، فتناقلوها عبر ألسنتهم على شكل أناشيد وأغانٍ شعبية تتناقلها الأجيال حفظتها الصدور لأربعة قرون متتالية، أرّخت لأمجاد الأمة الإغريقية المؤيَّدة من السماء، وحكت عن الحرب الأسطورية التي اندلعت بين اليونانيين وأهل طروادة وجرت ما بين عامي 1184 ق.م وحتى 1194 ق.م.
هوميروس الذي لا نعرفه
وبعكس ما هو شائع، فالأشعار لم تقصُّ بالكامل وقائع الحرب، وإنما ركزت على أحداث الـ 10 أعوام الأخيرة منها، وتحديدًا سنوات الحصار العجاف التي تجلّت فيها بطولات بشرية اتصلت بآلهة السماء ونالت منهم أمداد القوة والبأس، وفي حدود عام 700 ق.م تم تجميع شتات الروايات الشعبية الملحمية، هذّبت وأعيدت صياغتها في 16 ألف بيت، وقُدمت هدية للعالم بأسره بواسطة شاعر جوّال ضرير مجهول يُدعى هوميروس.
يقول الدكتور أحمد عتمان أستاذ الدراسات اليونانية والرومانية بكلية الآداب جامعة القاهرة، أهم مترجمي الأدب اليوناني القديم، في مقدمة الترجمة التي وضعها المركز القومي للترجمة للإلياذة، إننا نكاد لا نعرف شيئًا عن هوميروس، وعدا ملحمتيه لم تصلنا أي معلومة عن حياته وملابساتها، إلى درجة دفعت البعض للتشكيك في وجوده بالأساس والقول بأنه شخصية أسطورية، ويضيف: «وصلتنا سير كثيرة لهوميروس من العصر الإغريقي الروماني، ولكنها جميعًا من صنع الخيال، هناك حقيقتان فقط مؤكدتان: الأولى، أنه كان أعمى، والثانية، أنه من ساحل آسيا الصغرى أو الجزر المحاذية له.»
ويؤكد:
على الرغم من الغموض الذي اكتنف شخصيته، استقبل أهل اليونان أشعاره وحفظوها في وجدانهم وصدورهم، ومهما طالتها من عوامل تحريف بحُكم مرور الزمن غيّرت من الصياغات والقوالب الأدبية بقي الهيكل الرئيسي بلا مساس، وهو الصراع الأزلي بين مدن اليونان وأهل طروادة، وظلَّت أسماء الأبطال ثابتة تزهو بها الألسنة وتخفق لها الأفئدة: زيوس، أخيل، أبوللو، هيلين، هكتور وغيرهم.
«مليك بأحوال السياسة عارف»
هام الإسكندر الأكبر بأشعار هوميروس، ولا يمكن إرجاع أسباب هذا الحب الجارف لجودة صياغتها وحدها بمعزل عن إعجاب معلمه أرسطوطاليس الذي وصف أديب الإغريق بأنه «أول الشعراء وأكثرهم نضجًا»، بعد ما اعتبر أنه جمع بين الوحدة والتنوع، وأنه ممتاز في كل من القول والعاطفة ويتمتع بخيال إبداعي رائع، لذا لم يكن عجيبًا أن نعرف أن أرسطو دوّن نسخة منها بنفسه وأهداها لتلميذه الأثير الإسكندر.
عنها يقول المترجم نعمان البستاني في مقدمة النسخة العربية الأولى من الإلياذة:
ومن مأثور أقواله، أنه عندما بلغ قبر أخيل وقف عنده وقال: «طوباك فقد أوتيت منتهى السعادة بقيام شاعر كهوميروس يخلد ذكرك». بل إن كريس مايك أستاذ الدراسات اليونانية في جامعة «لا تروب» الكندية رأى أن فتوحات الإسكندر العظيمة ما هي إلا سعي منه ليكون «أخيل جديد».
وفيما بعد، ضربت عاصمة العلم في الدنيا، حينها، مدينة الإسكندرية أروع قصص الوفاء لمؤسِّسها وواضع منبتها، فعبر مكتبتها العظيمة التي لم يكن لها مثيل بالدنيا لا من حيث الضخامة ولا النفائس التي ضمتها وكنوز المعرفة التي استقرت بها، حتى قيل إنها حوت 700 ألف لفافة، عَصَر أمناؤها عقولهم وعصروها تحريرًا وتنقيحًا كي تبقى أشعار مليكهم المفضلة خالدة مدى الحياة، من خلال مجهودات علمية دقيقة حوّلتها من مجرد أشعار تلوكها الألسنة وتتناقلها مخطوطات مهترئة مبعثرة إلى مرجع أدبي تحفظه الأوراق والخطوط والأحبار.
في مقدمة الترجمة التي نفذها باري بويل لصالح جامعة أوكسفورد، يكشف عن محاولات يونانية مبكرة جرت لجمع الإلياذة في كتاب واحد بدأت خلال الفترة من (570 – 507 ق.م) بأمرٍ من الحاكم الأثيني بيسيستراتوس إلا أنها لم تُكلل بالنجاح. كما يُروى عن القائد العسكري ألكيبياديس تلميذ سقراط، بأنه دخل مدرسة لم يجد فيها نسخة من أشعار هوميروس فضرب الناظر!
لم تصلنا هذه النسخ بالطبع ولا نعرف حتى إذا كانت قد اعتمدت على اجتهادات تجميعية سابقة أم استقت الأبيات من التراث اللساني مباشرة، فلم يأتنا منها إلا بيانها.
الإسكندرية مدينة بارّة بأبيها
ورث البطالمة حُكم مصر عن الإسكندر (323 – 30 ق.م)، ففي إطار مساعيهم لإثبات تفوقهم على الشعب المصري المُحتل ذي التاريخ العريق الضارب في جذور التاريخ، أنشؤوا مكتبة الإسكندرية العملاقة، ورصدوا لها ميزانية كبيرة وجلبوا لها الكتب من شتى بقاع الأرض، بما فيها بالطبع مخطوطات «هومير»، التي احتلت ركنًا بارزًا في ثقافتهم الإغريقية، كما حثّوا أمناءها على إعادة الثقافة الإغريقية للواجهة، فأصدروا نسخة من قصيدة هيسيودوس «أنساب الآلهة»، والتراجيديا الأتيكية، كما ترجموا العهد القديم إلى الإغريقية فيما عُرف لاحقًا بـ«الترجمة السبعينية»، علاوة على عملهم الأبرز وهو توحيد النُسخ المتفرقة من الأشعار الهومرية في كتاب واحد لأول مرة.
يقول عتمان في كتابه «الأدب الإغريقي تراثًا إنسانيًا وعالميًا»:
ويضيف:
فيما يزيد العالم اللغوي الألماني فريدريش أوجست فولف في كتابه «مقدمة إلى هوميروس» الذي أصدره عام 1795م، أنه من المحال الوصول إلى النص الأصلي الذي نظمه المؤلف بنفسه، وإنما الأسهل هو الوصول إلى النص السكندري الذي تداوله فقهاء الإسكندرية.
ومن هذا المنطلق، فإن الشكل الذي نعرفه الآن من الإلياذة، ليست هي التي قرضها هوميروس بنفسه، وإنما هو تجلٍ سكندري لها اخترعه أمناء مكتبة عروس البحر المتوسط الذين يرجع إليهم الفضل الأول في الحفاظ على هذا المصنف النفيس وبقائه خالدًا على أرفف المكتبات وقاعات البحث، بفضل الجهود التي قادوها ليعيدوا بناء النص الأصلي، عبر تبني منهجية سليمة تقوم على أساس مقارنة مختلف المخطوطات ودراسة أسلوب المؤلف دراسة دقيقة، مع التركيز على استخداماته اللغوية والاحتكام لمعايير موضوعية، إلى أن توصلوا لنسخة واحدة بوّبوها بشكل جديد، وأهدوا للعالم النسخة التي نعرفها الآن من أعظم ملاحم البشرية.
شرح «بويل» الجهود المضنية التي بُذلت في جمْع النسخ من شتى بقاع الدنيا؛ بداية من مخطوطات أطلقوا عليها اسم «نُسخ المدن»، لأن كل واحدة حازت على اسم المدينة التي ظهرت فيها من أول مدينة مرسيليا الفرنسية وحتى مدينة سيوبي الواقعة على البحر الأسود (ضمن حدود تركيا الآن)، فظهرت طبعات ماساليا (مدينة فرنسية) وخيوس (جزيرة يونانية) وأرجوس (مدينة يونانية) وسينوبي (مدينة تركية) وقبرص، بالإضافة للمخطوطات التي امتلكها الأشخاص بشكل فردي والطبعات الشعبية غير الدقيقة، ليبدأ العلماء الإسكندرانيون مساعيهم للمقارنة بين كافة هذه المخطوطات، وتقليل حجم التناقضات والتضاربات الموجودة بينها وبين بعضها، لتظهر نسخة هومرية سليمة موحدة لأول مرة بالتاريخ.
يحكي البستاني، أنهم جمعوا نسخًا مختلفة من شتى الأصقاع، ومن ضمنها النسخة التي كتبها أرسطوطاليس، وقابلوها ببعضها بعضًا، وكانوا رهطاً من فحول العلماء بل كانوا من أعلم أبناء زمانهم، مثل زينودوتُس الأفسسي (بزغ اسمه في العام 280 ق.م) ، وأرسطوقارنس البيزنطي (حوالي 257–180 قبل الميلاد)، وأعلمهم طرَّا أريستاخروس السامثراقي (حوالي 217–145 قبل الميلاد).
يضيف عتمان، أن الدراسات الهومرية بلغت شأنًا عظيمًا بفضل جهود الثلاثة الفطاحل: زينودتوس وأريستوفانيس وأريستارخوس، الأول وُلد في مدينة إفسوس ونبغ في العلوم حتى عُين أمينًا لمكتبة الإسكندرية وأصدر أول طبعة لأشعار هوميروس، ثم جاء من بعده تلميذه الثاني ونشر طبعة جديدة مبنية على جهود أستاذه مع شيء من التحسينات.
أما الثالث، فهو تلميذ أريستوفانيس وخليفته في رئاسة المكتبة إبان النصف الأول من القرن الثاني ق.م (حوالي عام 160 ق.م)، وهو أعظم دارسي هوميروس بالعالم القديم، ووضع بشأنه ثلاثة مؤلفات، الأول بعنوان، «دراسات في المسائل الهومرية»، والثاني، «تعليقات على نص هوميروس»، والثالث بعنوان، «طبعات»، وبعدها أنتج نصَّ هوميروس، مع ابتكار نظام من العلامات التي وضعها على الأبيات المشكوك في صحتها، وبلغ من الدقة في تحقيق الإلياذة إلى حد أنه وضع خريطة طبوغرافية لمنطقة طروادة والمعسكر الإغريقي هنا، وإليه أيضًا تُنسب فكرة تقسيم الإلياذة إلى 24 كتابًا يحمل كل منها حرفًا من حروف اللغة الإفريقية، وهو النظام المتبع إلى يومنا هذا حتى في أحدث الطبعات.
وبصفة عامة فإن النص الهومري المتداول الآن للإلياذة هو الذي حققه أريستاخروس، وهو الذي وصل بعد قدرٍ من التعديلات والتصويبات إلى ناشري الطبعات الحديثة.