ما الأفضل لنا: إصلاح الأرض أم استصلاح المريخ؟
بداية المشكلة كانت منذ عرف الإنسان طريق استخدام المحروقات، أو الوقود الأحفوري، لتوليد طاقة مهولة قليلة التكلفة مقارنة بكل وسائل توليد الطاقة السابقة، وما تبع هذا من انجازات صناعية وحربية حققها الإنسان دون النظر لأي عواقب بيئية.
وكانت النتيجة أن بدأت الأرض تكشف عن وجهها القبيح، بدأ الطقس في التغير، وبدأت الحيوانات في الانقراض، وبدأت الغابات تتآكل، وبدأت المحاصيل تموت. والنتيجة أن أصبح وجود الإنسان ذاته مهددا. لكن كعادته دائما، وبسبب خياله الذي لا يهدأ، بدأ الإنسان يفكر في حلول غير تقليدية، لا يدرك هو نفسه إن كان قادرا على تنفيذها ابتداءا، أم أنها مجرد محض خيالات. إذا، سنسافر ونعيش في كوكب آخر، المريخ قريب من هنا، فلنبحث عن فرصنا هناك (اقرأ:حلم الوصول إلى الكوكب الأحمر؛ هل نراه متحققا؟).
وظهرت فكرة تأهيل كوكب آخر للحياة في منتصف القرن الفائت عام 1942 في رواية خيال علمي بعنوان مدار التصادم Collision Orbit لـ جاك ويليامسون. وكان هو أول من استخدم كلمة terraforming لوصف عملية إعادة تأهيل أحوال جسم فضائي ليناسب حياة البشر.
وداعب الحلم خيال العلماء لفترة طويلة، حتى وجهت ناسا في تسعينات القرن نظرها تجاه المريخ وأرسلت الرحلة Pathfinder بمسبار يدرس سطح المريخ. وفي نفس العقد كان علماء ناسا يجرون دراساتهم لإيجاد طريقة مناسبة لتحويل سطح المريخ لمكان مناسب للحياة.
ففي عام 1993 نشر عالما ناسا كريس ماكاي Chris McKay و روبرت زبرين Robert M. Zubrin ورقة علمية بعنوان «التقنيات اللازمة لتهيئة المريخ». وتعرض الورقة بعض التقنيات الغير عملية بالمرة، كإرسال مرايا عملاقة تدور حول المريخ لتركز ضوء الشمس عليه فتذيب الجبال الجليدية وتطلق ثاني أكسيد الكربون في غلافه مما يؤدي لضبط درجة حرارته شديدة البرودة، أو إعادة توجيه مذنبات وكويكبات غنية بالأمونيا والميثان لتصطدم بسطح المريخ وتقوم بنفس التأثير.
وكان العالمان واقعيين في ورقتهما البحثية وقالوا أن البشر لن يتكمنوا قريبا من تهيئة المريخ للحياة، وأن التقنيات اللازمة لذلك غير متاحة بعد.
لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك بالتأكيد، فناسا لم تفقد الأمل، ومهماتها، كما مهمات باقي الدول ذات البرامج الفضائية المتقدمة، لم تتوقف عن اسكتشاف المريخ وإرسال الأقمار الصناعية والمركبات الأرضية لاسكتشاف الكوكب الأحمر. ومع توالي الاكتشافات وانكشاف الغموض أكثر وأكثر تطورت أفكار تهيئة المريخ.
ففي 2015 قال كريس ماكاي، المشارك في البحث السابق والذي يشغل الآن منصبا علميا مرموقا في ناسا، أن هناك أنواعا من البكتيريا لم نتصور من قبل أنها موجودة على الأرض، أنواعا تتحمل أشد الظروف، تتحمل الجفاف، وتتحمل الإشعاع، بل وتقتات على المواد المشعة، وهذا يعلمنا أن الحياة تتحمل أقسى الظروف، وبالتالي فهي ربما تكون موجودة على سطح الكواكب الأخرى كالمريخ أو أقمار زحل مثلا، وإذا وجدناها فربما يمكننا استغلالها لتهيئة أماكن غير كوكب الأرض للحياة.
كما أن ماكاي كان من ضمن الفريق الذي أكد وجود النترات والفلور على سطح المريخ وذلك بفضل اسكتشافات المسبار curiosity. والنترات من المركبات اللازمة للحياة كما أن الفلور من الغازات التي يمكن استخدامها لتهيئة طقس المريخ.
لكن، وقبل الإغراق في الخيال، هل يمكن بالفعل أن نعتبر المريخ هو طوق النجاة بالنسبة لسكان الأرض؟ يؤكد ماكاي أن هذا غير ممكن. وسنسرد سويا لماذا هذا الأمر خيالي.
منذ نشأة الأرض، احتاجت الطبيعة حوالي ملياري عام لكي تصبح نسبة الأكسجين في الغلاف الجوي مناسبة لاستيعاب حياة متطورة، ولكن لن يحتاج الأمر على المريخ كل هذا الوقت، فبفضل مجهودات الإنسان المتوقعة، سيستغرق الأمر بضعة آلاف من الأعوام فقط، ربما 100 ألف عام إن كانت كل الظروف مواتية ولم تحدث أخطاء أو كوارث كما يقول كريس ماكاي.
وهذه المدة ممكنة فقط بافتراض تضافر جهود كل سكان كوكب الأرض، وهو الحلم الذي يبدو من المستحيل حتى افتراضه. فأفعالنا الآن لا تضمن لنا الحياة بعد عدة أجيال، فما بالنا أن نفترض أن نجتمع على فعل واحد لفترة طويلة جدا تتجاوز أجيال، والفائدة الوحيدة لن تعود علينا مباشرة بل على أحفادنا بعد ألف ألفية؟!
كما أننا سنخطئ خطأ كبيرا لو بدأنا تهيئة المريخ من الآن، فمع معدل تطور التقنية السريع، سيصبح الأمر أسهل لو بدأناه مثلا بعد مئتي عام من الآن. وربما سيكون البشر وقتها أكثر تعقلا أيضا.
لهذا يعود ماكاي ويقول أن الحل لم ولن يكون في تهيئة المريخ. ففي ورقة بحثية شارك فيها ماكاي عام 2010 بعنوان: «التهيئة البيئية للكواكب على المريخ، والهندسة الجيولوجية للأرض، هل نستطيع؟ هل يجب علينا ذلك؟ وهل سنقوم بذلك؟ Planetary Ecosynthesis on Mars and Geo-Engineering on Earth: Can We? Should We? Will We?» ويقول ماكاي:
«ما نحاول فعله مع المريخ هو ما يجب أن نقوم به مع كوكبنا، الأرض، والفكرة هنا أننا يجب أن نعيد تهيئة الكوكب بيئيا بشكل جذري. وما يستحيل عمليا تحقيقه على المريخ يمكن تحقيقه بشكل أسهل على الأرض. فمجرد التفكير في تهيئة كوكب مهجور كالمريخ ليصبح صالحا للحياة، فتح لنا طريقا للتفكير بشكل مختلف في حل مشاكل الأرض».
وبذلك يتأكد لنا أن فكرة خيالية جميلة كالسفر لكوكب آخر، حتى وإن كانت مطروقة على المستوى النخبوي في أروقة ناسا وبين العلماء، إلا أنها لا تمثل الحل الجذري، ولا تحمل الخلاص. فمسؤوليتنا الحقيقية هي تجاه كوكبنا الذي نسكنه بالفعل، وواجبنا تجاه الأجيال القادمة هي أن نعيد التفكير في كل نفعله، ويجب أن نعلم أن أثر الفراشة لا ينمحي، وأن كل فعل ولو صغير له وقع أو أثر في قدرة الأرض على استضافتنا لفترة أطول، وفعل إيجابي هو واجبنا تجاه أنفسنا وأبنائنا، فكوكب الأرض هو قدرنا وقدرهم الذي لا نملك الفرار منه.