ماذا وراء أزمة جنوح الحيتان على شواطئ نيوزيلندا؟

فيما وصف بأنه إحدى أكبر حالات الجنوح الجماعي للحيتان في نيوزلندا،فوجئ سكان الساحل الشمالي لساوث أيلاند صباح الجمعة العاشر من فبراير بأكثر من 400 حوت طيار قصير الزعنفة وقد ألقت بأنفسها على شاطئ فايرويل سبيت. وبينما سارع المسؤولون في إدارة الحفاظ على البيئة النيوزلندية لتدارك الموقف برفقة متطوعين، كان قرابة 300 حوت قد لقوا مصرعهم، بينما نجحت عمليات الإنقاذ في إعادة 50 آخرين إلى الخليج الذهبي.

إلا أن الأزمة تفاقمت مجددًا مساء السبت 11 من فبراير مع جنوح 240 حوتًا آخر في المنطقة الواقعة بين بوبونجا وباكاواو. وفيما يكمل المسعفون والمتطوعون مهامهم على شواطئ نيوزلندا، يغيب عن الساحة أي حل حقيقي لإيقاف الأزمة البيئية التي تتكرر كثيرًا في شتى أنحاء العالم، خصوصًا مع عدم التوصل للأسباب التي تدفع ثدييات البحر الضخمة لذلك السلوك الانتحاري.

فما هو الجنوح الجماعي؟ وما أشهر النظريات التي تفسره؟ وهل من وسيلة لإيقافه؟

ومن التعاون ما قتل

جنوح الحيتانيات Cetacea stranding هو السلوك الذي تقوم فيه الحيتانيات بشقيها – الحيتانيات المسننة والحيتانيات البالينية – بإلقاء أنفسها على الشواطئ أو السواحل، مما يؤدي إلى مصرعها تحت تأثير وزنها الضخم أو بسبب الجفاف. وفيما سجلت حالات الجنوح الفردي لأغلب الحيتانيات، تنفرد الحيتانيات المسننة كالدلافين والحيتان الطيارة صاحبة الحادثة الأخيرة، بمعظم حالات الجنوح الجماعي.

وتتميز الحيتانيات المسننة عن البالينية بصفات جسدية أشهرها هو امتلاكها أسنان حادة لالتهام الأسماك والحبار، بدلا من «البالين» لدى الحيتان البالينية، وهو نظام لتصفية الغذاء من ماء البحر يمكنها من التهام كميات ضخمة من الحيوانات الصغيرة كالكريليات. وعلى كل حال ما يهمنا الآن هو الاختلاف في السلوك والنظام الاجتماعي.

على عكس الحيتان البالينية،تعيش الحيتان المسننة في مجموعات ضخمة يجمع بين أفرادها علاقات قرابة، وتمتلك مهارات تواصل مميزة، تستخدمها في رحلات الصيد الجماعية، كما تظهر قدرات اجتماعية متفوقة كالمشاعر التي تتجسد في مساعدة الضعيف ورعاية الصغار.

الحيتان الطيارة بالتحديد هي من أكثر الأنواع اجتماعية بين نظرائها، فهي تعيش في مجموعات قد تتعدى 90 فردًا من مختلف الأعمار، تجمع بينها روابط قرابة من جهة الأم، وتترابط المجموعة ككل مع الأنثى الأكبر عمرًا في المجموعة. وتشير بعض الأبحاث أن لكل مجموعة لهجة خاصة للتواصل فيما بينها.

ذلك التعاون الفعال الذي يسهل عمليات الصيد ليوفر الطعام لكل الأفراد في المجموعة ويساعدها في نفس الوقت على مواجهة أخطار المفترسات، قد يكون كذلك طريقها الأقرب إلى الهلاك. فإذا ضلت قائدة المجموعة وعلقت في الشاطئ سيلحقها باقي الأفراد، أو عند تلبية نداءات استغاثة لفرد مصاب عند إحدى السواحل، فمن التعاون من قتل.

إلا أن القول بأن الحيتان التي تمتلك حواس معقدة تمكنها من تتبع الفرائس لأعماق تزيد على 5 آلاف متر قد تجنح إلى الشاطئ ببساطة لأنها ضلت الطريق يبدو غير واقعي، فهل من أسباب أخرى كشفت عنها تحقيقات العلماء في حوادث الجنوح الجماعي السابقة؟

تعددت الأسباب والجنوح واحد

تطورت الحيتان -التي كانت تعد أحد ألغاز التطور المبهمة بالأصل – من ثدييات برية تمشي على 4 أقدام، إلا أن الحنين إلى الماضي ليس أحد تلك الأسباب بالتأكيد التي تدفعها إلى أن تحط على الشواطئ، ونستعرض أشهرها في السطور القادمة.

وقبل المضي قدما في تفنيد ما توصلت له الدراسات السابقة، يجدر بنا الإشارة إلى أن سلوك الجنوح هو سلوك معقد ولا يزال أحد الألغاز المستعصية على علماء الأحياء البحرية، وقد يحدث لسبب واضح أو لترابط عدة عوامل مختلفة،أو بدون سبب واضح على الإطلاق.

– الإصابة: الحيتان المصابة أو المطاردة من قبل المفترسات الشرسة قد ينتهي بها المطاف عالقة قرب الساحل. فيمكن لإصابة حادة أن تضر بحواس الحوت الهامة كالسمع، فيضل في العودة إلى رفاقه أو باختلال لقدراته المعقدة على الملاحة معتمدًا على المجال المغناطيسي الأرضي. ولوحظ على حيتان نيوزلندا الأخيرة آثار أسنان لقروش، مما يجعل عامل الإصابة أحد العوامل المرجحة للحادثة.

– الطقس: في عام 2004، بعد أن جنحت مئات الدلافين والحيتان على شواطئ نيوزلندا وتسمانيا، رجح فريق من الباحثين بجامعة تسمانيا أن الطقس هو العامل الأكثر ترجيحًا للتسبب في الحادثة. وعللت عالمة الأحياء البحرية «روزماري جيلز»، بأن جنوح نوعين مختلفين يجعلنا نستثني عوامل أخرى كإصابة أحد الأفراد. وبعد دراسة مستفيضة خلص الباحثون إلى أن مياه القطب الجنوبي الباردة تصعد بشكل دوري شمالاً في مواعيد تترافق مع حالات جنوح جماعي، فحيث تكون تلك التيارات الباردة محملة بأسراب الأسماك والحبار. يجذب ذلك بدوره الحيتان والدلافين في مجموعات كبيرة، مما ينتهي ببعضها في موقع حرج على الساحل، وهو ما كشفت عنه الجثث التي تم تشريحها.

– السونار: تعود أولى الأبحاث التي تربط حالات الجنوح الجماعي للحيتان بموجات السونار التي تطلقها السفن العسكرية إلى عام 1991، حيث رصد الفريق البحثي توافق حالات الجنوح خلال عقد كامل مع نشاطات للبحرية الأسبانية في منطقة جزر الكناري التابعة لإسبانيا. وأفادت دراسة حديثة نشرت في دورية نيتشر إلى توقف حالات الجنوح في المنطقة بعد قرار صدر من الحكومة الإسبانية بمنع النشاطات العسكرية هناك عام 2004. وتوافقت حالة جنوح جماعي أخرى مع نشاطات للبحرية الأمريكية قرب جزر الباهاماس عام 2000. وبحسب تقرير إدارة المحيطات والمناخ الأمريكية فإن موجات السونار متوسطة المدى التي تطلقها السفن الحربية للكشف عن الغواصات كانت العامل الأكثر ترجيحا، بعد أن عثر على عدة حيتان تعاني من نزيف قرب الأذن.

– عواصف شمسية:تحقق وكالة الفضاء الأمريكية ناسا في نظرية تفيد بأن المتسبب في الأزمة الأخيرة هو عامل غير أرضي، في إشارة إلى الرياح الشمسية المحملة بالجسميات المشحونة القادرة على إحداث اضطراب في المجال المغناطيسي الأرضي، مؤدية إلى اضطراب في سلوك الحيتان التي تعتمد عليه في الملاحة.

التخلص من الجثث

في حالة وفاة الحوت في مياه المحيط، فإن جثته قد تطفو لتتغذى عليها مختلف المفترسات والحيوانات القمّامة. أما في حال سقوطها للإعماق، فإنها قد تكفي لإنشاء نظام بيئي مستقل وغذاء وافر للعديد من مخلوقات الأعماق لمدة طويلة، وتعرف تلك الظاهرة بـ«سقوط الحوت».

أما في حالات الجنوح خاصة قرب المناطق السكنية، تكون عملية التخلص من الجثث هي حالة طارئة تلزم التدخل السريع قبل التعفن. ويتم إبعاد الجثث سريعًا إما عن طريق جرها إلى المياه مرة أخرى حيث يمكنها التحلل بشكل طبيعي، أو دفنها قرب الشاطئ، وكانت بعض الدول قديما تفجرها بالديناميت.

بالعودة إلى نيوزلندا، فقد أغلقت السلطات شاطئ فيورويل سبيت كخطوة أولية استعدادًا للتخلص من الجثث، ومن الانفجار الطبيعي الذي يحدث لأجسادها نتيجة تراكم الغازات في أمعائها، ويشير «إندرو لاماسون» المتحدث باسم إدارة الحفاظ على البيئة إلى أنهم يخططون لدفع المتطوعين لإحداث ثقوب في بطون الجثث لتجنب حدوث انفجارات.

كانت مشاركة المتطوعين قد ساعدت في إنقاذ عشرات الحيتان من المجموعة الأولى بعد مجهود شاق، بينما ساعد المد على إعادة المجموعة التي حطت يوم السبت إلى المحيط مرة أخرى. وعلى ذلك يعلق «هيرب كريستوفر» في تصريح لوكالة أسوشيتيد برس: «يبدو أن هناك رابطًا عاطفيًا يجمع بين الناس والثدييات البحرية، لقد كانوا يغنون من أجلهم، ويطلقون عليهم أسماء خاصة، ويعاملونهم بروح طيبة للغاية.»