ما نقوله مقابل ما نعنيه: ما هو التضمين الخطابي؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
تخيل أنك كُلِّفتَ بمراجعة الرسائل المرجعية التي قدمها المرشحون لمنصب محاضر في الفلسفة. ثم أثناء قراءتك وجدت الرسالة التالية:
أعتقد أنك ستستنتج أن جونز تلمح إلى أن سميث فيلسوف سيئ وغير مناسب لهذا المنصب، ولكن كيف تمكّنت جونز من إبلاغ تلك الرسالة؟ لقد فعلت ذلك من خلال ما لم تقُله. لا تقول جونز حرفيًا إن سميث فيلسوف سيئ. كما لا يمكن الاستدلال على ذلك منطقيًا من خلال قولها. فمن الممكن أن يكون سميث مؤدبًا وودودًا ودقيقًا في مواعيده فعلًا بالإضافة إلى كونه فيلسوفًا ممتازًا. لكن بطريقة ما تبلغنا جونز رسالة معاكسة لقولها.
يقول اللغويون بأننا حين نبلغ رسالة ما على نحو غير مباشر فإننا نضمّن المعنى، ويعودون على المعنى المُضَمَّن اصطلاحًا بالمعنى الضمنيّ. وكان أول من صاغ تلك المصطلحات الفيلسوف البريطاني «بول غرايس» (1988 :1913) الذي قدّم في ورقته الكلاسيكية «المنطق والمحادثة» عام 1975 مقترحًا تفصيليًا مؤثرًا حول المعنى الضمني أُعيد طباعته عام 1989 في كتابه «دراسات في الكلمات».
فرّق غرايس بين عدة أشكال مختلفة للمعنى الضمني، كان أهمها التضمين الخطابي أو الاستلزام الخطابي. ووفقًا لغريس، لا يعتمد التضمين الخطابي على المقصود الدلالي الموظف في الكلمات، وإنما على كيفية استخدامها وتفسيرها، أي على معناها البراغماتي. ويجادل غرايس بأن سبب نشوء التضمين الخطابي يعود إلى الافتراض بأن المتحدثين متعاونين في جعل إسهاماتهم ملائمة لمغزى الخطاب الذي يشاركون فيه. وبمزيد من التحديد، من المتوقع أن يتّبع المتحدثون أربع ثوابت خطابية يمكن تلخيصها كالتالي:
1. ثابت الكمية المعني بتقديم قدرٍ ملائمٍ من المعلومات.
2. ثابت النوعية الذي يقتضي تقديم معلومات صحيحة.
3. ثابت العلاقة أو الصلة إذ ينبغي للمعلومات المقدمة أن تكون ذات صلة.
4. ثابت الكيفية المعني بتقديم المعلومة بوضوح.
ووفقًا لغرايس، يتولد التضمين الخطابي حين لا يراعي الكلام أحد أو بعض هذه الثوابت، أو قد تُغفَل أحد أو بعض هذه الثوابت ما لم يكن المعنى الضمني موجودًا. وفي هذه الحالات يمكننا صون الفرضية القائلة أن تعاون المتحدثين لا يتحقق إلا حينما يفسرون الكلام باعتباره مخالفًا لدلالته أو على أنّه ثمة معنى آخر يزيد عن معناه الحرفي، وهذا هو المعنى الضمني للكلام.
وتعد رسالة جونز مثالًا على ذلك. فبما أنها تكبدت عناء كتابة الرسالة فسنفترض أنها تحاول التعاون بما تسهم به. ولكن من الواضح أن المعلومات التي تقدمها غير كافية ولا تراعي ثابت الكمية. ولهذا السبب، نستنتج أنها تحاول نقل رسالة أخرى لا تود قولها مباشرة، والنتيجة الواضحة هي أن ما تحاول جونز قوله هو أن سميث غير مناسب لهذا المنصب. هذا المثال مقتبس عن غريس نفسه.
ولأمثلة أخرى، فكر في قولك: «هذا تصرف لطيف» لتعرب عن أن أحدهم تصرف تصرفًا سيئًا (خلافًا لثابت النوعية)، أو أن تغير مسار موضوع معين لتبين أن حديثًا ما كان بلا طعم (خلافًا لثابت الصلة) أو أن تمنح شيئًا ما وصفًا استثنائيًا لتقول بأنه عجيب بطريقة ما، كأن تدعو حصانًا منهك القوى بالجواد (خلافًا لثابت الكيفية).
في الأمثلة السالف ذكرها كان المتحدث يستخفُّ بالفعل بأحد الثوابت الخطابية، غير أنه في بعض الأوقات ينشئ معنى ضمنيًا بغية منع الاستخفاف بالثوابت. افترض مثلًا أنك تحتاج إلى الوقود ثم يقول لك أحدهم: «ثمة كراج عند المنعطف»، وهذا مثال آخر مقتبس عن غرايس. إذا لم يصدق المتحدثان أن الكراج كان مفتوحًا، فعندها يخالف ردهما ثابت الصلة، لذلك ومن أجل المحافظة على الفرضية القائلة بأن المتحدثين متعاونين ينبغي أن نفترض بأن كليهما يصدقان بأن الكراج مفتوحًا.
وبالتالي فإن كلامهما يحمل هذا المعنى الضمني، إضافة إلى معناه الحرفي، على الرغم من أنه لم يُذكر ولا يمكن تتبعه منطقيًّا مما قيل. وفي رأي غريس، فإن الرابط بين الكلام وأي من المعاني الضمنية التي يحملها رابط منطقي، كما أن التضمين الخطابي يمكن استنتاجه ودراسته انطلاقًا من فرضية أن المتحدث يتبع في كلامه الثوابت الخطابية الأربعة فضلًا عن المعنى الحرفي للكلمات وحيثيات السياق والخلفية المعرفية.
ولا يدّعي غرايس أن المستمعين يمرون حتمًا بهذه العملية متى ما حددوا أي معنى ضمني، إذ إنهم قد يدركون الرسالة المضمنة بديهيًا.. غير أنه يصر على أنه يمكننا دومًا من حيث المبدأ دراسة التضمين الخطابي والاستدلال عليه من خلال الثوابت الخطابية.
ويسلط غرايس الضوء على عدد من الملامح المميزة للتضمين الخطابي بما في ذلك إمكانية إلغائه وعدم قابليته للفصل إلى جانب عدم محدوديته. إذ يمكن إلغاء التضمين الخطابي من خلال إضافة جملة أخرى تبين أن المتحدث اختار مؤقتًا عدم اتباع الثوابت الخطابية، وبالتالي لا يُستَنتَج المعنى الضمني. فمثلًا، كان يمكن لجونز أن تضيف قائلةً: «ولكن ذلك لا يعني أن سميث فيلسوف سيئ، بل العكس تمامًا».
ويوصَفُ التضمين الخطابي بأنه غير قابل للفصل. إذ إن التضمين الخطابي – مع بعض الاستثناءات- مشتق من محتوى ما يقوله المتحدث لا من الكيفية التي يقول بها، وثمة فرصة لنشوئه حتى لو اختار المتحدث كلمات أخرى للتعبير عنه.
وأخيرًا، فإن التضمين الخطابي غير محدود لما يحمله من عدد مفتوح من التفسيرات المختلفة التي يسهم كل منها بتأكيد فرضية أن المتحدث متعاون في إسهامه. فمثلًا، في قول: «جولييت هي الشمس»، يمكن تفسير قول «روميو» على أنه يعني ضمنيًا أن «جولييت» جميلة ومشرقة وواهبة للحياة وغير ذلك من الأوصاف التي تسهم كلها في إثراء المعنى الضمني. إذ إن الاستعارة وغيرها من الاستخدامات الإبداعية للغة عادة ما تهدف إلى توليد قدر ثري وغير محدود من المعاني الضمنية.
ولا يعد الفرق بين ما يُقال وما يُضمّن خطابيًا فرقًا تقنيًا فلسفيًا فحسب. إذ إن هذه الفجوة تُبرِزُ إلى أي مدى يعد التواصل الإنساني براغماتيًا وغير حرفي. فنحن نعتمد بانتظام على التضمين الخطابي بغية إكمال وإثراء كلامنا، وبالتالي حفظ الوقت وتوفير طريقة متحفظة لنقل المعلومات الحساسة. إلا أن هذا التسهيل يؤدي إلى مشاكل أخلاقية وقانونية. فهل نحن مسئولون عما نُضَمِّنه بنفس درجة مسئوليتنا عما نقوله فعليًّا؟
فكر في هذا المثال الحقيقي. في عام 1966 وأثناء محاكمة إفلاس، سُئِلَ منتج الأفلام الأمريكي «صامويل برونستون» إن كان قد امتلك فيما مضى حسابًا مصرفيًا في سويسرا. أجاب برونستون: «امتلكت الشركة حسابًا في زيوريخ لما يقارب الستة الأشهر». مما يعني ضمنيًا أنه نفسه لم يمتلك حسابًا شخصيًا هناك. لو أنه قد امتلك حسابًا لكان ينبغي له قول ذلك لنستدل بذلك على أنه لم يمتلك حسابًا. ولكن تبين لاحقًا أن هذا المعنى الضمني لم يكن صحيحًا. فهل قدم برونستون شهادة زور؟
في الواقع هو لم يقل شيئًا خاطئًا. في حالته، أُدين برونستون بتقديم شهادة زور، إلا أن إدانته أبطلت لاحقًا بأمر من المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية. وكثيرًا ما تنشأ قضايا مماثلة مع الموافقة. فعبارة «هلّا صعدنا إلى الأعلى؟» غالبًا ما تحمل ضمنيًا دعوة جنسية. فهل يعني ذلك أن المتحدث موافق على تلك الدعوة؟ ماذا لو لم يلاحظ المتحدثون ما تحمله كلماتهم من معانٍ ضمنية؟ ماذا لو أنكر برونستون إدراكه للمعنى الضمني الذي حمله رده من أجل منع النزاعات والإرباك؟
ربما يجدر بنا التقليل من استخدام التضمين الخطابي والتواصل على نحو أكثر صراحة ووضوح. ولكن إلى أي مدى يعد هذا الاقتراح مجديًا بالنظر إلى مدى اعتماد التواصل البشري على جانبه البراغماتي؟ لا يتفق كل الفلاسفة واللغويين مع غرايس في تفسيره لآلية عمل التضمين الخطابي، لكن الجميع متفق على أنه سلط الضوء على ظاهرة حقيقية ومنتشرة في التواصل البشري. لقد زودنا غرايس بأداة تفكير مهمة تُضاف إلى صندوق أدواتنا الذهنية ويمكن من خلالها ملاحظة ظاهرة التضمين الخطابي وما يترتب عليها من مسائل في كل مكان.