ماذا خسرنا بهزيمة كلينتون
حينما نتقابل في الطريق فنسير سويًا ثم نفترق، وحين نجلس على طاولة بمطعم الجامعة نتناول طعامنا ونتحدث قليلًا، وحين نتقابل في مدرسة أبنائنا فنقف سويًا نتابعهم يركلون الكرة ويركضون حولها، وحين أراك واقفًا بقطار المترو متثبتًا بذراعك فأتزحزح قليلًا وأدعوك للجلوس، في كل تلك الأحيان حينما نتحدث قد تراني متوافقًا معك في آرائك وأفكارنا متشابهة إلى حد بعيد، أما حينما أستلقي مساءً في غرفتى المظلمة على الفراش وحدي، أنظر في سقف الغرفة المعتم أعيد ترتيب أفكاري، حينها قد لا تتشابه أفكاري إلا مع آرائي.
هذا لأن في الصباح احتكمنا أنا وأنت في نقاشنا على مبادئ العالم وقيمه، فالعالم يتفق أن التطرف والعنصرية أفعال شنيعة وصفات بغيضة، قد أوافقك على ذلك حين يندرج الطرح في نقاشنا، أما حينما أنطوي على نفسي وحيدًا قد أجد التطرف أفضل فعل لحفظ حقوقي وأجد العنصرية أبلغ رد فعل، قد يحدث هذا أيضًا وأنا منفرد بذاتي خلف الستارة الداكنة أترجم أفكاري على ورقة قبل أن أضعها في صندوق الانتخاب، ما تراه أنت عقلانيًا قد أراه حمقًا، ولكني أحتفظ برأيي لنفسي حتى لا تصفني أنت والعالم أجمع بالحمق، وآمل ألا يكون كل منا أحمقًا حين يراقب عتمة الغرفة في المساء، ويصبح العالم أجمع عقلانيًا في الصباح وأحمقًا حين ينفرد.
صبيحة الأربعاء أول ما فعلت حينما تنبهت حواسي مستلقيًا على الفراش، مددت يدي متحسسًا باحثًا عن الهاتف أو باحثًا عن آخر أخبار الانتخابات الأمريكية، وجدت شاشتي تعج بـ «عاجل: فوز المرشح الأمريكى ترامب»، مررت الشاشة قليلًا لأجد العديد من مشاعر الغضب والحزن – الإلكترونية – وتعليقات الاستهجان والتنبؤ بسوء الطالع لنا وللمنطقة بأسرها، بالنسبة لي لم ينتابني الحزن أو الغضب أو الاستهجان، إنما انتابني شعور كمن ينتظر وجبته في إحدى مطاعم الوجبات السريعة، وما أن تحصل عليها وضع شريحة البطاطس في فمه فلسعته سخونتها، فتنبه ونفخ فيها حتى بردت ومضغها، ثم تبعها بالحساء وشطيرة البرجر الأمريكي ومشروب الكولا البارد، لسعته فتنبه ثم تابع.
كان الإطار الخارجي على وشك الاكتمال والصورة قد اتضحت، ترامب هو رئيس الولايات المتحدة الجديد، موظف تحصيل الغاز سألني بالباب وأنا أحضر له رسم الإيصال بعد أن أتاه صوت مذيع القناة الإخبارية من الداخل: من فاز بالإنتخابات؟ أجبته: ترامب، فأعادها مستعجبًا: ترامب؟! فأكدت له بنعم، لم يكن مستسيغًا للنتيجة، الجميع مهتم والجميع يتابع، حتى أمي حينما سألتني في الظهيرة وأجبتها بترامب، انقلب وجهها غير قابلة لما أجبت، وشدني تصريحها بعد أن شجبت وأنكرت «أن هذا الرجل قادم للوقيعة بالعرب والإسلام والمسلمين»، فتركتها هامسًا لنفسي «وهل كانت كلينتون سترفع لواء الإسلام على قبة البيت الأبيض!»، بدا لي أن حالة الذعر هذه أو تلك لن تكون أقل حدة إن أجبتها بكلينتون، بل ستختفي تلك الحالة تمامًا وتحل السكينة وتتبعها زفرة استحسان ودعم.
كما يبدو للجميع فأوباما هو ذلك الرجل المثقف الهادئ، أحد أفضل رؤساء أميركا رصانة سياسية وأفضلهم دبلوماسية وأكثرهم اعتدالًا وكما أحببت أن تقول في الرجل فلتسرسل، هو القادم من تحت ذات العباءة التي تظلل هيلارى كلينتون، محمل بذات المرجعية الفكرية والتوجهات السياسية والمواقف الخارجية – وإن كانت هيلارى أكثر تشددًا أحيانًا –، ووزيرة خارجيته في فترته الرئاسية الأولى.
إن كنت واحدًا من أولئك الذين يجيبون بإجابة حاسمة بين نعم أو لا، سأطرح عليك سؤالًا واحدًا برؤوس عدة بعد ذاك التمهيد، هل قدّم أوباما شيئًا للعرب والمسلمين طوال ثمان سنوات من حكمه؟ دعنا نُفصل.
– هل قدم شيئًا للقضية الفلسطينية وكان السبب في وقف عدوان إسرائيلي واحد على غزة طوال حكمه؟ هل دعم حتى حلفائه في حكومة السلطة؟
– هل قدم للقضية السورية شيئًا أو أوقف بشار الأسد من تعدى – الخطوط الحُمر – كما أسماها؟
– هل أوقف الحرب المذهبية في العراق أم أججها؟ هل وقف سدًا منيعًا أو حتى بقايا سد مهدّم ضد التطهير العرقي وتهجير أهل السنة وقتلهم وسلبهم على يد ميليشيات خامنئي على الأقل في المناطق التي دحر فيها تنظيم الدولة؟
– هل وقف مع الديمقراطية في اليمن أو قلّم أظافر الحوثي – عدا تلك المرة التي استهدفوا فيها بارجته ماسون في البحر الأحمر فبادلهم الرد -؟
– في ظل الصراع السعودي الإيراني، بين أكبر حلفائه ومن يرفعون رايات الموت لدولته أمريكا، هل كان في صف نظام آل سعود حلفاء أمريكا على الدوام ضد إيران؟ أم تحلى بالدبلوماسية حتى لا تتذمر إيران؟ من تمدد ومن إنحسرت قواه في ظل حكمه؟ ألم يغض الطرف حين مدت أزرعها وبسطت سيطرتها في العراق على يد قاسم سليماني، وفي سوريا تحت غطاء النظام وبمساعدة حزب الله، وفي اليمن الحوثي لا يكل من ضرب جنوب السعودية وأحيانًا بصواريخ باليستية يتم إسقاطها بزريعة من إيران؟
– حتى أردوغان وتركيا التي كانت من أقوى حلفائه قبل انقلاب يوليو الماضي، ويتمتع فيها بنفوذ عسكري ودبلوماسي، هل كان موقفه حازمًا في انقلاب تركيا كما كان الحال في أزمة أوكرانيا منذ بدايتها؟ أم انتظر مآل الأمر حتى يحدد تصريحه إن كان دعمًا للديمقراطية أم دعمًا لتحرر الشعوب أم دعوة للتهدئة في أنقرة؟
ألم تصرح أنقرة أن قاعدة إنجرليك الأمريكية في الجنوب كانت مسرحًا خفيًا لتدبير الانقلاب؟ في ظل الصراع التركي الكردي، ما موقف الولايات المتحده من ذلك الصراع؟ وما وراء دعمهم اللا محدود للأكراد شمال سوريا على حساب تركيا؟ بالطبع لا يخفى على متابع ذلك الجفاء المتبادل بين أردوغان وأوباما، وأعيد عليك هل قدم أوباما شيئًا للعرب والمسلمين طوال ثمان سنوات من حكمه؟
أما إن كنت لا ترى الصورة واضحة، أو كنت ممن يحبون الوقوف في المنطقة الرمادية بين الأبيض والأسود وتبهره عبارات الغزل وإن حملت سمًا يرديك قتيلًا حين تتجرعها، سأطرح عليك سؤالين، أولهم ذات السؤال الذي طرحته بالأعلى، فإن كانت إجابتك مثلًا أنه على الأقل كان يصرح بعبارات المجاملة أحيانًا، فسأتبعه بآخر، وهل أوقفت عبارات المجاملة عدوانًا واحدًا؟ أو ترجمت لفعل على الأرض؟ أو بدلًا من ذلك قد أذكرك بتصريح الخطوط الحمر الموجه لبشار الأسد، الآن رحل أوباما وبقي الأسد.
كل ما هنالك أن الصراحة والوضوح كانا من أكبر مميزات تلك الجولة في الانتخابات، ترامب ذلك الرئيس الجديد كان واضحًا، لا يعرف عبارات المجاملة وتصريحات الغزل، الفارق بين التصريح والتلميح، ضد الأقليات والإثنيات والمهاجرين والعرب والمسلمين واللاتين، وأعرب عن ذلك أمام الجميع، فكانت الجماهير صريحة أيضًا وأعربوا عن رغبتهم في رجل مثله يحمل أفكارهم الصريحة، وترجموا ذلك في الإنتخابات وأتوا به رئيسًا لهم، يبدو أن هنالك جمع غفير من الناخبين الأمريكيين راغبين في رجل منفلت متعجرف كما هو لا يتجمل ولا يتوارى، على نتائج الإستطلاعات.
اتخذت هيلارى شعارًا لحملتها (Stronger together)، كلمة تعتمد على دغدغة مشاعر الداخل الأمريكي بشتى طوائفه، وأعتقد أن شعارات الوحدة والالتحام والصف الواحد صارت لا تجدي في زمن القوة والهيمنة والإعلام المُسير الشعوب، وإن كان الكثير لا زال ينخدع.
أما ترامب فاتخذ (Make America great again) فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، عظيمة بشتى الطرق وبشتى الوسائل، في إحدى حملاته فسر العظمة بثلاث كلمات (مدعاة للفخر، آمنة، قوية)، دغدغ ترامب مشاعر رقعة واسعة من الأمريكيين بصورة فجة وتصريحات عدوانية بعيدًا عن انتقاء الألفاظ وتجميل الأفكار، فوعدهم مثلًا بترحيل المهاجرين ومنع اللاجئين وبناء سور عازل مع المكسيك حتى أنه توعد شركة Apple بمنعها من بيع هواتفها إن لم تنقل مصانعها من الصين إلى الولايات المتحدة.
واستخدم كثيرًا مصطلح «التطرف الإسلامي» على عكس هيلاري التي كانت ترى التطرف الإسلامي لن يُهزم إلا بمسلمين معتدلين، تصريحات تثير النعرة الشعبوية وتضمن له قاعدة جماهيرية من المحافظين والأصوليين وكبار السن، الناخب الأميركي صوت لترامب حين ذكرهم بأميركا التي يخشاها الجميع، أميركا القوية التي تبطش وتقتل هنا وتحتل وتقصف هناك، رغبة داخليه تكمن في نفوس جمعٍ أمريكي، المرأة الخمسينية، والأب الأربعيني، والكهل السبعيني الذي حارب في فيتنام، والأم العاملة في دوائر الحكومة، والشاب المترف والفتاة الشقراء، رغبة من كل هؤلاء في السيطرة والهيمنة.
السياسة الأمريكية لا يحددها ترامب أو كلينتون، لكن دوائر الحكم تدع الناس ينتخبون واجهة لهم أو متحدثًا رسميًا، يكون دبلوماسيًا أحيانًا كأوباما وكلينتون، ويكون فجًا أحيانًا كريجان وبوش وترامب، فبوش احتل العراق بجنوده واستنزف البلاد، أما أوباما احتل العراق بجنود آخرين ورفع يديه أمام الجميع قائلًا تلك يدي نظيفتين، وفي الحالتين احتل الاثنين العراق.
في النهاية كل تلك السطور تقودنا لسؤال سأجيب عليه، ماذا خسرنا نحن العرب والمسلمون بهزيمة كلينتون؟ خسرنا تصريحات المجاملة وابتسامات الشفقه ونظرات المواساة، إنما نحن لسنا بفعل أو رد فعل، إنما نحن المفعول في الحالتين، فتلك أيقونات الحزن والاستهجان والمواساة الإلكترونية إنما صنعت لنا.