كشفت صحفية الصنداي تايمز في تحقيق أعده الصحفيان ريتشارد كيرباج وجون أنغويد توماس، بعنوان «مؤسسات بلير الخيرية تقدم معلومات عن الإسلاميين للأنظمة القمعية»، عن قيام مؤسسات خيرية تابعة لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بجمع معلومات عن النشطاء الإسلاميين والحركات الإسلامية في أفريقيا لصالح أنظمة قمعية متهمة بانتهاكات لحقوق الإنسان.

من جهة أخرى كانت صحيفة «تليغراف» البريطانية قد كشفت في السابق عن تعاقد مركز «توني بلير» للاستشارات بمبلغ يقدر بـ 35 مليون دولار مع دولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك في مقابل تقديم نصائح واستشارات، وفقًا لمسودة العقد المزمع بين مركز بلير ووزارة الخارجية الإماراتية.

وتتقاطع أجندة مؤسسات توني بلير الاستشارية والخيرية وسياسات دولة الإمارات العربية المتحدة في العديد من التوجهات في أفريقيا والشرق الأوسط، ومن أبرز ملامح تلك التوجهات والمواقف المشتركة بين الطرفين الموقف من الحركات والأحزاب الإسلامية الناشطة في تلك المنطقة، وفي الموقف كذلك من التجارب السياسية المبكرة للدول التي عاشت أجواء التغيير بعد الربيع العربي.

وفي السطور القادمة سنستعرض بعض أبرز تجارب مؤسسات بلير في سياق ما أشرنا إليه للتو، وفي ضوء العلاقات والشراكات الاستراتجية لتلك المؤسسات مع أنظمة رسمية في العالم العربي.


طبيعة الأدوار التي تقوم بها مؤسسات بلير في المنطقة

مصر والسودان وليبيا، وسوريا واليمن وتونس والمغرب ومالي، وغيرها من بلدان المنطقة، كما تشير مصادر عديدة هي ساحة لعمل تلك المؤسسات، التي يفترض أنها تقوم بدعم المبادرات التعليمية وتدريب وإعداد قادة المجتمع المدني، المؤسسات ذاتها التي يذكر تحقيق الصنداي تايمز من جهة أخرى أنها تقوم بجمع «بيانات قيمة» عن المساجد والمدارس في التجمعات الإسلامية تحت شعار «محاربة الإرهاب». والتي تقول الصحيفة إنها تنتفع بالصلات التي بناها بلير مع الزعماء والقادة إقليميا، من أجل توثيق تعاون مؤسساته مع الأنظمة الرسمية للتصدي للأيديولوجيا الإسلامية.

وتذكر الصحيفة أن مشاريع المؤسسات المذكورة أحدثت انقسامات بين الموظفين في جمعيات ومنظمات بلير، حيث ذكر أحد العاملين في مؤسسة «مبادرة بلير للحكم الرشيد في أفريقيا» للصحيفة في هذا الإطار إن «مباردة بلير التي تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، تشجع الدول في الأخير على التجسس على المؤسسات الدينية».

مشاريع المؤسسات المذكورة أحدثت انقسامات بين الموظفين في جمعيات ومنظمات بلير، حيث اعتبرها البعض «تشجع الدول في الأخير على التجسس على المؤسسات الدينية».

كما حذر مصدر آخر في المؤسسة في حديثه إلى الصحيفة البريطانية بأن مآلات مبادرة بلير ستحد بالنهاية من الحريات الدينية في أنظمة لا تحسن التمييز بين الإسلاميين الذين يشتبه فيهم حقا فيما يتعلق بالإرهاب، وبين المسلمين العاديين الذين يلقى القبض عليهم لأنهم يعبرون فقط عن رأيهم.

تتقاطع جهود مؤسسات بلير من جهة أخرى في السنوات الأخيرة الماضية، مع سياسات بعض الأنظمة العربية التي ارتأت في الربيع العربي، و لاسيما بعد الصعود السياسي للحركات والأحزاب الإسلامية إبان مطلعه، تهديدا مباشرا لمستقبلها ومصالحها في المنطقة، وكان من أبرز ملامح ذلك تعاقد مركز «توني بلير أسوشيتس» الذي أنشأه توني بلير عقب تركه لرئاسة مجلس الوزراء البريطاني مع دولة الإمارات العربية المتحدة.

ويتضمن ذلك التعاقد المذكور وفق جريدة التليجراف البريطانية حصول المركز بعد العرض المالي الذي تقدم به «بلير»، والذي كُتب في أربع ورقات تحت عنوان «شراكة إستراتيجية بين وزارة الخارجية بدولة الإمارات العربية المتحدة» و«توني بلير أسوشيتس». على خمسة ملايين دولار سنويا، من المقرر أن تستمر لخمسة أعوام. فضلا على طلب بلير أيضا 6.210.000 دولار كأتعاب، و688.000 كمصاريف إضافية من أجل تغطية النفقات السنوية للشركة. حيث تغطي النفقات مصاريف انتقال «بلير» وفريقه، و في مقابل ذلك وعد «بلير» بالسفر إلى «أبوظبي» على الأقل 12 مرة سنويا.

وقد ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية في هذا السياق أيضا منذ عامين أن رئيس الوزراء البريطاني السابق «توني بلير» قد وافق على أن يصبح مستشارا للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كجزء من برنامج دعم اقتصادي تموله الإمارات.

وفي تأكيد للاتهامات العديدة المتداولة في العالم العربي مؤخرا حول كون بلير هو من قد أقنع السيسي بالنهاية بالموافقة الرسمية المصرية على بناء سد النهضة الذي شاركت دولة الإمارت في تمويله، أشارت صحيفة « الصنداي تليغراف» البريطانية في عام 2014 إلى أن مؤسسة «مبادرة بلير للحكم الرشيد في أفريقيا» قد أبرمت عقدا مع الإدارة الأمريكية للحصول على 3.3 مليون جنيه إسترلينى من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، لتتولى تنفيذ برنامج يهدف إلى تأسيس محطات توليد الكهرباء فى 6 دول أفريقية.

ومنذ عام 2014 تحديدا أصبح بلير المشرف على تنفيذ برنامج رئيس الولايات المتحدة المعروف باسم «مبادرة طاقة أفريقيا» الذى يستهدف تمويل كل من: إثيوبيا وكينيا وتنزانيا ونيجيريا وغانا وليبريا على مدى 5 سنوات بـ7 مليارات دولار لتوليد 10 آلاف ميجاوات من الكهرباء .


حرب دولة الإمارات الإقليمية ضد الإسلام السياسي

خلال زيارة رسمية إلى دولة الإمارت العربية المتحدة في عام 2013 وقف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في مؤتمر صحفي قائلا: «لقد حصلنا على دعم الإمارات المادي للعملية العسكرية في مالي، ولدينا ذات التوجهات فيما يخص الوضع هناك».

لم تكتف الإمارات في أفريقيا في هذا السياق بالهجوم على إسلاميي مالي وحسب، بل تبنت كذلك، كما يؤكد العديد من المصادر دعم المليشيات المسيحية في أفريقيا الوسطى بالتعاون مع فرنسا للقضاء على من تصفهم بـ«الإسلاميين المتشددين» من هذا البلد، بعد انتخاب رئيس ذي خلفية إسلامية أيديولوجيا هناك، وهو ما أدى لاحقا إلى مذابح جماعية وحرب إبادة ضد مسلمي ذلك البلد.

من جهة أخرى ذكر الكاتب البريطاني ديفيد هيرست في مقال له على موقع ميدل إيست آي في سبتمبر / أيلول من العام الماضي أن الإمارات تحاول حتى اليوم جاهدةً للحيلولة دون وصول الإسلاميين إلى السلطة في ليبيا من خلال دعم قوات خليفة حفتر، الذي حل شخصياً كضيف في أبوظبي عاصمة الإمارات العربية المتحدة في الشهر التالي خلال زيارة رسمية في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه.

وينقل في الإطار نفسه موقع ميدل إيست آي البريطاني عن مصدر مقرب من الاستخبارات التركية أن حكومة الإمارات العربية المتحدة تعاونت مع المشاركين في محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا قبل أسابيع من البدء الفعلي في تنفيذه، من خلال استخدام القيادي السابق في حركة فتح محمد دحلان، الذي يحمل صفة المستشار الأمني لولي عهد الإمارات الشيخ «محمد بن زايد آل نهيان»، كحلقة وصل مع فتح الله غولن زعيم الكيان الموازي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد نقل الموقع البريطاني عن المصدر نفسه أن دحلان حوّل أموالا إلى مدبّري الانقلاب في تركيا قبل أسابيع من محاولة الانقلاب وتواصل مع فتح الله غولن من خلال رجل أعمال فلسطيني مقيم في أمريكا ومعروف لدى جهاز الاستخبارات التركية.

ويشير في السياق ذاته الباحث المغربي محمد أجغوغ في دراسة له بعنوان «الدور الإماراتي في إجهاض الربيع العربي.. المغرب أنموذجا» إن دولة الإمارات لعبت دورا خفيا وكبيرا في المغرب، على الصعيد الإعلامي والسياسي ولا سيما بعد الربيع العربي في مواجهة الصعود السياسي الواضح للإسلاميين هناك.

وفي تونس يُشار كذلك من خلال العديد من المصادر التي تبلغ حد التواتر، إلى أن الإمارات قد دعمت الاحتجاجات ضد حكم الترويكا الذي كانت تمثله حركة النهضة، والذي انتهى بتنازل الترويكا عن الحكم.

ومن أكثر الأشياء التي تثير العديد من علامات الاستفهام في هذا السياق ما تداوله العديد من المواقع الإخبارية العربية الشهيرة في مارس / آذار 2015، من أن ولي عهد إمارة أبوظبي محمد بن زايد قد طلب من نائب المستشارة الألمانية ووزير الاقتصاد زيغمار غابرييل الذي كان في زيارة رسمية إلى الإمارات منذ عامين، عدم التغافل عن الشباب المسلم في المساجد الألمانية، ونصحه بتشديد الرقابة عليهم.

وتلقي وثيقة أمريكية مؤرخة بتاريخ 29-04-2006 سربتها «ويكيليكس»، جانبا من الضوء على المواقف الشخصية العدائية للنخبة الحاكمة في الإمارت وحركات الإسلام السياسي، وذلك من خلال ما ورد في حوار بين الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي وأخيه عبد الله بن زايد، مع مساعدة الرئيس الأمريكي جورج بوش للشئون الأمنية ومكافحة الإرهاب، فرانسيس تاونسيند، كان يدور عن طريقة التعامل مع تيارات الإسلام السياسي والإخوان المسلمين، قال خلاله محمد بن زايد أن «فوز حماس في الانتخابات يجب أن يكون درسا للغرب الذي يطالبنا بالديمقراطية والانتخابات الحرة».


هل أثمرت جهود «بلير» ورفاقه ضد الإسلاميين؟

يروي ديفيد هيرست كيف أن الإمارات تحاول حتى اليوم جاهدةً للحيلولة دون وصول الإسلاميين إلى السلطة في ليبيا من خلال دعم قوات خليفة حفتر

في الـ 24 من أبريل/ نيسان من عام 2014، نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية مقالا انتقد فيه «سيوماس ميلن» بشدة خطاب بلير الذي ألقاه أمام مؤسسة بلومبيرغ، والذي طالب فيه الغرب بتنحية خلافاته مع كل من روسيا والصين للتفرغ لمواجهة ما سماه ازدياد «التطرف الإسلامي» في العالم. حيث رأى «ميلن» أن هذا الخطاب يؤسس إلى عودة المحافظين الجدد إلى الساحة مرة أخرى عن طريق مزيج قاتل بين دعوات التدخل العسكري في الخارج والتي تنطلق من عقيدة صهيونية مسيحية وبين ممارسة المكارثية السياسية في الداخل، وهو هنا في هذه الحالة يقصد ممارستها بطبيعة الحال ضد الأقليات المسلمة.

وقد أشار الأخير كذلك إلى أن هذه السياسات لم تقدم للعالم سوى أفغانستان والعراق وغوانتانامو وتفجيرات لندن، وهو المسار ذاته الذي تندفع فيه الأمور مجددا حاليا.

من جهة أخرى لا تخفى مآلات التدخلات الإقليمية التي قادتها أنظمة عربية كدولة الإمارات ضد الإسلاميين في العالم العربي، وتأثيراتها في إجهاض تجربة الربيع العربي، وإدخال البلدان التي عاشت أجواء ذلك الربيع في حالة من الفوضى الأمنية والتفكك الاجتماعي والسياسي.

ولا يبقى بالنهاية أمامنا هنا سوى التساؤل، ما هو سر ذلك العداء الذي يراه الكثيرون غير مبرر بشكل كاف حتى الآن بين سياسي غربي كبلير الذي قال إن مصير الإسلاميين الذي وصفهم بالمتطرفين سيتحدد في هذه المنطقة من العالم – أي الشرق الأوسط – و دعا إلى التحالف مع روسيا والصين ضدهم، من جهة. وبين دولة نفطية مستقرة وهادئة كدولة الإمارات أيضا، وبين الإسلاميين في العالم العربي من جهة أخرى، ولاسيما أن ما يعرف بحركات الإسلام السياسي التي شهدت صعودا سياسيا مؤقتا خلال مطلع الربيع العربي لم تبادر أي من تلك الأطراف بالعداء بشكل واضح، لا الغرب و لا أنظمة الخليج، ولم تكن وحدها تستطيع احتكار السلطة السياسية وإجهاض التجربة الديموقراطية في بلدان الربيع كما كان يتهمها أعداؤها، ويحاسبونها على مجرد النية إن صحت فرضيتها منذ البداية.

فهل هذا مجرد خلاف وصراع عقائدي وأيديولوجي يسود المنطقة، أم خلاف في المصالح، أم جزء فقط بالنهاية ليس إلا من إستراتجيات دولية وإقليمية أكبر من كل أولئك اللاعبين، تهدف إلى إعادة صياغة المنطقة ليس فقط في جغرافيتها السياسية بل ديموجرافيا وثقافيا ودينيا، من خلال توظيف كل تلك الأطراف واللاعبين وإدخالهم في تناقضات تنتهي بتدمير المنطقة ذاتيا وإعادة صياغتها جيوسياسيا من جديد بتمويل من دولها الغنية نفسها، أم شيء آخر بخلاف كل ذلك، سؤال يطرح نفسه في انتظار إجابة ربما لن تأتي قريبا.