أي دور تلعبه الطرق الصوفية في السياسة التركية؟
علي الرغم من الحظر القانوني الذي عانت منه الطرق الصوفية في تركيا بعد سقوط «الخلافة العثمانية» وإعلان الجمهورية في عشرينيات القرن الماضي، فإنها مع ذلك تعد منذ منتصف القرن الماضي وحتى يومنا هذا أحد أكبر الفاعلين اجتماعياً ودينياً في المجتمع التركي، بل ربما يعد نمط التدين السائد في تركيا حتى الآن – رغم تراجع وانحسار التصوف في معظم أنحاء العالم الإسلامي في القرن الماضي، في مقابل الصعود البارز للسلفية وحركات الإسلام السياسي،لاسيما في العقود الثلاثة الأخيرة من ذلك القرن- هو النمط التصوفي.
و رغم الحل القانوني ومصادرة الأموال الذي تعرضت له الطرق الصوفية أثناء حكم مصطفى كمال أتاتورك، لم يحل ذلك الحظر الرسمي في العهود اللاحقة بعد فترة حكم هذا الأخير، من حضور التصوف كفاعل ومؤثر رئيسي في الحياة الاجتماعية والسياسية في تركيا بصورة تنافت عملياً في الحقيقة مع واقع المنع القانوني الذي جرى، والذي تم الالتفاف حوله وتجاوزه فعلياً منذ عقود.
وسنسعى في هذا المقال إلى تسليط الضوء على أبرز الطرق الصوفية في تركيا ومدى فاعليتها الاجتماعية والدينية في المجال العام في تركيا الحديثة، وسنبحث في أبرز أدوارها وتأثيراتها السياسية، كما سنسعى كذلك إلى رصد علاقتها بالسلطة هناك منذ إعلان الجمهورية وحتى اليوم.
مراحل العلاقة بين الصوفية والسلطة في تركيا
حظي مصطفى كمال أتاتورك في البداية خلال حرب التحرير في مطلع القرن الماضي بدعم كبير من الطرق الصوفية المختلفة في تركيا، التي قامت بدورها بمجهودات كبيرة في حرب الاستقلال في السنوات الأولى لتأسيس الجمهورية، وقد مر بعد ذلك تعامل مصطفى كمال أتاتورك مع الطرق الصوفية بمرحلتين أساسيتين المرحلة الأولى تميز خلالها موقف السلطات التركية تجاه الجماعات والطرق الصوفية بالود والاحترام، وقد انعكس ذلك في دستور 1924م الذي ترك الجماعات الصوفية حرة من دون أي قيود قانونية.
ولكن خلال المرحلة الثانية وبعد صدور ما عرف باسم «إصلاحات أتاتورك» التي قضت بحظر الملابس التقليدية وأغطية الرأس لنساء واستبدال الأبجدية العربية بالأبجدية اللاتينية، تم سن تشريع جديد يقضي بحل الطرق الصوفية وحظر نشاطها، واستتبع عملية الحظر تلك إغلاق مقرات هذه الطرق، ومنع أصحابها من القيام بأي نشاط في أي مكان.
ولكن رغم الحظر استأنفت الطرق الصوفية ممارسة نشاطاتها سرًا على الرغم من حملات النفي والتهجير التي تعرض لها كثير من شيوخها وأتباعها، وأنشئت جمعيات للإنفاق على طلاب مدارس الأئمة والخطباء لتعويض النقص الذي حصل نتيجة اختفاء الدعاة بسبب المحن القاسية التي تعرضوا لها.
إلا أنه و مع بداية الخمسينيات بدأ التضييق والحصار يتراجع الطرق الصوفية والأنشطة الدينية بوجه عام، وخلال الفترة بدأت الطرق الصوفية تتخلى عن السرية، لتمارس نشاطاتها بشكل علني تدريجياً، وساعدها على ذلك تنافس الزعماء السياسيين في تركيا على كسب أصوات أتباعها عند اقتراب الاستحقاقات الانتخابية.
أبرز الطرق الصوفية في تركيا والحركات المنبثقة منها
تعد «الطريقة النقشبندية» هي أكبر الطرق الصوفية في تركيا من حيث عدد المنتسبين إليها، و ينتمي للأخيرة الكثير من قطاعات النخب التركية، حيث اتجه شيوخ ومريدو تلك الطريقة إلى تعزيز حضور طريقتهم ونشرها في أوساط أساتذة الجامعات، وموظفي الدولة، وأبناء الطبقة الوسطى من التكنوقراط، وأصحاب المهن الحرة، هذا إلى جانب قطاعات من المثقفين، ورجال الأعمال، ورؤساء الأحزاب السياسية،وينتسب معظم منتسبي النقشبندية إلى الفرع المعروف بـ«النقشبندية الخالدية» التي أخذت اسمها من خالد البغدادي الذي توفي في القرن الـ19، ومن أبرز الجماعات والحركات المنبثقة من تلك الطريقة:
1. جماعة إسكندر باشا
ينسب «لمحمد زاهد كوتكو» شيخ تلك الجماعة المتوفى عام 1980 م، دور كبير في خلق صيغة اجتماعية وحركية وغير مسبوقة تقريباً في العالم الإسلامي تجمع بين الطابع الصوفي ومنهج ما يعرف بالإسلام السياسي.
و تعتبر جماعة إسكندر باشا هي الأكثر تأثيرًا في المشهد السياسي التركي بشكل مباشر، حيث اختلفت توجهات كوتكو مع سلفه المباشر، عبد العزيز بيكين (1895-1952) والذي كان قد منع الخلط بين الإسلام والسياسة الانتخابية، حيث سعي كوتكو في المقابل على تشجيع مريديه على العمل في مراكز التأثير في الدولة، بجانب سعيه كذلك إلى تأسيس تيار إسلامي سياسي، من خلال تشجيعه لأحد مريديه، وهو نجم الدين أربكان على تأسيس حزب سياسي، فقام الأخير عام 1970 بتشكيل حزب النظام الوطني. وقد كان معظم من شجع على تأسيس حزب النظام ثم السلامة الوطنية، ومعظم أعضائه فيما بعد هم من أولئك المنسوبين إلى الطريقة النقشبندية.
2. جماعة النور
تُنسب جماعة النور أو النورسية إلى الشيخ «بديع الزمان سعيد النورسي» (1877م-1960م)، وتعد من أكثر الجماعات ذات النزعة الصوفية حضورًا وتأثيرًا في شرائح المجتمع التركي، بالأرياف والمدن ولها امتدادات خارج حدود الدولة التركية. وقد تأسست هذه الجماعة بعد وفاة النورسي.
ومن أبرز الجماعات المتأثرة بالنورسية أو المنبثقة منها هي جماعة الخدمة التي يتزعهما «فتح الله كولن» التي كما هو معروف لها شبكة واسعة من المؤسسات التعليمية من مدارس ومعاهد وجامعات، والمؤسسات الإعلامية من صحف ومحطات تلفزيونية وإذاعية على مستوى العالم، وداخل تركيا قبل اصطدامها الأخير مع حزب العدالة والتنمية، ولاسيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة التي اتهمت قيادة تلك الحركة بالوقوف وراءها، والتي أعقبها حظر وملاحقات قضائية واسعة لأعضاء وأنشطة الجماعة.
3. جماعة أرانكوي
وهي جماعة صوفية تمارس نشاطها من خلال الوعظ الديني بوجه عام، بعيدًا عن الانخراط في المجال العام كثيراً، بسبب أحداث مانمان عام 1930 التي تعرض لها المتصوفة في تركيا إلى محن كبيرة، مما جعلها تمارس نشاطاتها باحتياط وحذر.
4. جماعة المنزل
نسبة إلى قرية المنزل التي كان يعيش فيها شيخ الجماعة النقشبندي «محمد راشد أرول»، وقد تشعب نشاط تلك الجماعة بسرعة كبيرة في أنقرة وإسطنبول، وانتشر بسرعة أكبر بعد الانقلاب العسكري عام 1980، وكان ذلك جزئياً بسبب سمعتها المتداولة بوصفها الجماعة الدينية الداعمة للدولة. ونتيجة لذلك، بدأت تنتشر في مناطق غربي تركيا كواحدة من أسرع المناطق لنمو الجماعات الدينية في البلاد.
و قد عرف عن مؤسس حزب الوحدة الوطنية الراحل «محسن يازيتش أوغلو»، قربه من الطريقة. وقد شاركت الطريقة المنزلية في حكومة العدالة والتنمية بوزيرين: هما وزير الطاقة تانير يلديز ووزير الصحة رجب أكداج. وفي عام 2005 أنشأت الحركة جمعية رجال الأعمال تومسياد. التي تملك 1500 عضو مسجل، وهو ما يشير بوضوح إلى مدى نفوذ تلك الجماعة.
5. السليمانيون
نسبة إلى شيخهم النقشبندي «سليمان طوناخان»، وقد سعت هذه في المقام الأول إلى توفير التعليم القرآني والحفاظ على المساجد مفتوحة. وفي المناطق التي كانت تشكو نقصاً في الأئمة؛ حافظت الطريقة على حضور أئمتها هناك والحفاظ على المساجد عاملة. وبعد السماح بالدورات القرآنية في عام 1947 انتشر طلاب الطريقة في جميع أنحاء تركيا، واليوم تقف الحركة باعتبارها واحدة من أكثر الحركات الدينية انتشاراً وتنظيماً على مستوى تركيا وأوروبا وبالأخص في ألمانيا، وقد شارك كمال كاكار خليفة مؤسس الطريقة في رئاستها وزوج ابنته في البرلمان التركي لثلاث دورات مختلفة ممثلاً عن حزب العدالة الذي كان يقوده سليمان ديميريل.
وتعد الطريقة القادرية التي تأسست على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني أيضاً من الطرق الصوفية الهامة أيضاً في تركيا، ولتلك الطريقة عدة جماعات متفرعة منها في تركيا، فهناك الجماعة التي كان يرأسها مصطفى خيري أوغوت أفندي وآلت إلى مريده حيدر باش بعد وفاته سنة 1979. أخذت الجماعة تصدر مجلتين شهريتين ولها قناة تلفزيونية باسم «مالتَم» كما أن لها حزبًا سياسيًا رأسه حيدر باشا أيضاً، ومن أبرز الطرق الصوفية الأخرى في تركيا الطريقة الخلوتية والعُشّاقية والجراحية والبكتاشية والمولوية.
التصوف والإسلام السياسي في تركيا الراهنة
أعزت دراسة أعدها معهد «هدسون» الأمريكي العام قبل الماضي، ظهور الإسلام السياسي في تركيا إلى الطريقة النقشبندية الخالدية، وذكرت الدراسة أن جذور الطريقة الخالدية السنية العميقة، والتزامها الكبير بالشريعة الإسلامية وتسييس الحركة القوي؛ جعلها على توافق كبير مع وجهات نظر حركات الإسلام السياسي ولاسيما جماعة الإخوان المسلمين.
و أشارت إلى أن هذا التواصل كان واضحاً في ألمانيا بوجه خاص، إذ اضطر كل من الإخوان وبعض الناشطين السياسيين من أتباع النقشبندية الخالدية إلى الذهاب إلى المنفى، كل تحت ضغط حكومته، وهو ما ساهم في تنمية علاقات بين الطرفين، وهو تجلى بصورة واضحة في حالة الزواج التي تمت بين أسرة أربكان وأحد زعماء الإخوان «إبراهيم الزيات».
وتذكر الدراسة أنه و من خلال التعاون العملي الوثيق، أخذت هذه المجموعات الدور المهيمن في المؤسسات الإسلامية في ألمانيا. ليصبح بعد ذلك بهذا المعنى أربكان ولو رمزياً ممثلاً بصورة أو بأخرى لجماعة الإخوان المسلمين في تركيا.
وبحسب الدراسة كان تأثير هذا يتمثل في تغيير الفكر الإسلامي التركي ليصبح أكثر عالمية على الرغم من الميول الموجهة إلى القومية المحلية الداخلة، وهكذا فهم أن الإسلام ليس شيئاً محدوداً بالحياة الشخصية لكنه يمتد إلى المطالبات العامة التي تجذرت في أشكال وأنماط التدين التركي المعاصر.
وتشير الدراسة إلى أن أربكان أسس اتصالاته مع منظمات الإخوان في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، حيث بدأت تظهر قيادات إخوانية في احتفالات حزب الرفاه في مطلع التسعينيات. كما اشارت إلى ما جرى أثناء جنازة أربكان عام 2011 التي شهدت حضوراً كبيراً من قيادات الإخوان المسلمين حول العالم بمن فيهم خالد مشعل زعيم حركة حماس، والمرشد السابق للإخوان في مصر، محمد مهدي عاكف.
ووفق ما تذهب إليه الدراسة فقد تجلى استمرار التواصل الأيديولوجي بين الإخوان وحزب العدالة والتنمية عبر وجود ممثلين بارزين من مختلف فروع جماعة الإخوان المسلمين بما في ذلك حركة حماس بمختلف فعاليات ومناسبات حزب العدالة والتنمية.
وتؤكد الدراسة أن حركة ميللي جوروش أو «رؤية الأمة» التي أسسها الراحل نجم الدين اربكان لم تكن بنهاية المطاف جزءاً من الإخوان المسلمين، لكن جماعة الإخوان اعتبرتها بشكل أكيد أقرب لتجربتهم. وبالقدر نفسه الذي كانت تنظر فيه إلى الجماعة الإسلامية في باكستان. وهكذا على الرغم من أصولها الصوفية اسمياً وطابعها النقشبندي الخالدي، فإن قيادة حزب العدالة والتنمية لم تنعزل بأي طريقة عن قيادات الإسلام السياسي المتطرفة في الشرق الأوسط، وعلى العكس تماماً، يمكن للجذور العربية والتركية والكردية للنظام الخالدي شرح سياسات حزب العدالة والتنمية الخارجية تجاه حماس وسوريا ومصر.