ما نظرية التطور؟ وما سبب أهميتها؟ وهل سقطت في الغرب فعلاً؟
يسأل سائل: نظرية التطور لتشارلز دارون هزّت العقائد الدينية، ولذلك سارع أهل الدين لتضعيفها والرد عليها. ولكن البحث العلمي ظل في كل يوم يؤكد النظرية بمزيد من الدلائل حتى صارت في حكم المقطوع به علميًا. ومع ذلك، فما زال جهلاء الأديان يدّعون بطلانها. أنا أصدق العلم المبني على الدلائل، ولذلك أسألكم: متى تعترفون بنظرية دارون «واعترافكم بالمناسبة لا يفيد شيئًا لأنكم لستم علماء»؟ وكيف تبقون على اعتقادكم الديني بعد هذا الاعتراف: ألا تنسف نظرية داروين مبدأ الخلق؟ ألا تتعارض نظرية دارون مع حكايات الدين عن الكون ونشأة الحياة؟
نقول:
منذ نشأة الحياة المعرفية الإنسانية، تحصل طفرات علمية، ككشف علمي جديد يحل إشكالية كبيرة، أو نقض لفكرة كانت رائجة، أو تطبيق لأحد الأفكار يغير مسار التاريخ، ويسهم هذا التغير الفكري الخفي في إنتاج تغير ظاهر جلي يغير شكل الاجتماع الإنساني.
وحينما يحصل هذا التغير في النظرات الكلية (paradigms) والواقع الجديد الذي يفرضه على بني الإنسان، فإن الأفكار التي تملك مكامن القوة والأليق بهذا الواقع الجديد هي التي تبقى وتستمر، وما سواها من الأفكار التي لا تلائم شكل الحياة الجديد فإنها تنزوي وتذبل إلى أن تنقرض وينقرض أصحابها وحملتها، ولا يبقى لها مكان سوى في رفوف الكتب القديمة، التي لم يعد يتكلم عنها سوى المعنيين بالتاريخ الحفري للأفكار. أما وجودها في الواقع، فقد انقضى، وحلت محلها أفكار أكثر ملاءمة للواقع وأقدر على الاستمرار في هذا الصراع الفكري المحموم.
هذه هي الطبيعة الإنسانية، وتلك هي سنة الله، عز وجل، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.
نتكلم في هذه المقالة كطلاب علم مسلمين، ننظر في الدنيا وما يحصل فيها، وننظر باعتبار واحترام إلى كل منجز بشري، ونعلم أن الكون كتاب الله المنظور، كما أن القرآن هو كتاب الله المسطور. الإسلام نسق مفتوح، له أصول ثابتة هي كتاب الله والصحيح من سنة رسوله وما أرشد إليه الكتاب من مصادر التشريع. ولم يزل النشاط العلمي والأبحاث والمناقشات جارية بين العلماء حتى حصل الضعف والوهن الذي أوقف الإنتاج والبحث العلمي، فلم يصر على سابق عهده. وأصبح المسلمون في انزواء عن المساهمة العلمية والحضارية، وفي حالة تحفز ضد الوافد أيًّا كان.
لما كان منحنى الحضارة التي بناها المسلمون في نزول، كان منحنى الحضارة الحديثة في صعود؛ وامتلك الغربيون زمام المعرفة والبحث العلمي، وصارت مراكز العلم في لندن وباريس وبوسطن، بعد أن كانت في بغداد والقاهرة وقرطبة، ووصلوا إلى نتائج علمية وتقنية مبهرة، ونقلوا مسيرة الحضارة البشرية نقلات. وقد ألقت هذه الحضارة بظلالها على الأديان، فوجهت على الأديان أسئلة وتحديات، ونال المسلمين نصيبٌ من هذه الأسئلة.
ومع ضعف الإنتاج العلمي، واتكال العقل المسلم على التقليد والاشتغال بما أنتجه القدماء دون التجديد والبحث، خرجت ردودهم منعدمة في كثير من المسائل أو ضعيفة، حتى بدأ الناس يشكون في الدين، أو يتطرفون في الدفاع عنه بإنكار حقائق العلم التجريبي ونظرياته، فأنتجت انفصامًا بين المعرفة الدينية والدنيوية عند بعض الناس. وهذه من أكبر المشكلات التي نواجهها، وأحد أهم أسبابها هو تقصير علماء الدين في فهم الدين، وفهم ما يرد عليه من أسئلة معاصرة، والجواب عنها جوابًا مقنعًا مؤسسًا على العقل السليم والفهم الصحيح للنصوص.
ومن أمثلة ما أسيء فهمه، وأسيء التعامل معه، من المسلمين المعاصرين، هو نظرية التطور، وما ينشأ عنها من أسئلة وإشكالات تتصل بالقضايا الدينية. ونحن، انطلاقًا من حرصنا كمسلمين على العلم، ومعرفتنا بأقدار العلماء، نبدأ فنقول:
إن تشارلز داروين هو أحد أعظم علماء البيولوجيا في التاريخ، وإن نظرية التطور هي إحدى أهم النظريات العلمية الحديثة. وإننا نتبع العلماء المتخصصين بأريحية تامة، إدراكًا لقيمة العلم والعلماء، وثقة بقوة ديننا وما تأسس عليه من قواعد. ونحن نعلم أننا في كل علم تَبَعٌ للمتخصصين فيه، وهذه النظرية لها قبول واسع جدًا بين علماء الأحياء (مع اختلافهم في بعض تفاصيلها أو بعض لوازمها، ومع استمرار البحث في البيولوجيا التطورية كل يوم)، فينبغي أن نأخذ عنهم العلم، وأن نقبل كلامهم فيه، احترامًا للتخصص، واعترافًا بالتقصير.
لا يمنعنا من هذا القولِ ما نعلمه من أن العلم التجريبي مبني في كثير من الأحيان على مقدمات ومسلمات أو مصادرات فلسفية لو انهارت لانهار ما ترتب عليها من النظريات، وما نعلمه من أن العلوم التجريبية كثيرًا ما يكون الخلاف حولها كبيرًا، وكثير من نظرياتها تُنقَض بعد ظن ثبوتها، وما نعلمه من استغلال بعض الملاحدة للعلوم التجريبية ظانّين أنهم أحق بها من غيرهم، أو مستعملين لها في إثبات مذاهبهم الفاسدة الواهية.
كل ذلك لا يمنعنا من الاعتراف بالحق، وإسناد الأمر إلى أهله، واستمرار البحث المجرد في هذه المسائل اعتمادًا على أدوات البحث العلمي الموضوعية المجردة من كل تحيز وتطرف.[أ]
ونعتقد أن تأسيس الإلحاد على هذه النظرية أو غيرها هو من أبطل وأوهى ما تتعلق به أوهام الواهمين وأهواء ذوي الأهواء. بل إن كل معرفة بالكون يعقبها بزوغ لشمس الألوهية، ومعرفة بجلال الربوبية، وللإنسان حظ من معرفة الله تعالى بقدر معرفته بالكون الذي هو خالقه وموجده. وسنبين للقارئ كل ذلك.
وقبل أن يوافقنا القارئ الكريم أو يخالفنا، نريد أن نطوف معًا في رحاب هذه النظرية نفهمها، وننظر فيما يتوهم تعارضه معها من الدين.
واللهَ نسأل أن يضيء عقولنا وقلوبنا في هذه الرحلة، وأن يفتح علينا فتوح العارفين به، وأن يوردنا حياض الحق والخير والجمال.
ونبدأ بسؤال:
ما نظرية التطور باختصار؟ وما مشكلة أهل الأديان مع النظرية؟ وما جوابنا عن هذه المشكلات؟
ما هي النظرية العلمية وعلاقتها بفعل الله في الكون؟
سبق أن تكلمنا عن «ما هي النظرية العلمية» ودور العلم التجريبي وأنه: عملية منظمة تجمع المعلومات حول العالم وتُكـثِّفُها في صورة قوانين ومبادئ قابلة للاختبار.
فإذا حصل واستطاعت النظرية العلمية أن تتنبأ تنبؤات صحيحة، فإننا لا يمكننا القطع بأن النظرية صحيحة بشكل مطلق، كل ما هناك أنها نظرية ناجحة لم يثبت خطؤها، فإذا زادت المشاهدات فربما تنقض هذه النظرية إذا فشلت في تفسير المشاهدات الجديدة.
مفهوم «التدخل» الإلهي في الكون
وتكلمنا عن أن فعل الله في الكون ليس على طريق الاعتراض أو الــ Interruption، ولا يعني أن الكون يعمل بنفسه، ثم يحتاج أحيانًا إلى تدخل إلهي ليصلح الخلل الذي يحصل!، وإنما التدخل الإلهي هو نفس إقامة قانون الأسباب، وخلق الأشياء على وفق أسبابها، فالله هو القيّوم، وهو سبحانه لم يترك الكون حتى يتدخل فيه، وليست القوانين الطبيعية أو الــlaws of nature إلا الطريقة الكاشفة عن النظام الذي أقام عليها كونه، ورتّب عليها خلقه، وإن محاولة معرفتها على قدر الطاقة البشرية، والعمل بمقتضاها، إنما هو خضوع لإرادة الله.
ما الحاجة للبحث في المسألة أصلًا؟
فإذا تقرر كل هذا، فقد يسأل سائل، ما الحاجة أصلًا لمناقشة هذا الموضوع والبحث فيه؟!
فأولًا نقول: إننا كمسلمين ينبغي أن نكون أحرص الناس على معرفة النظريات العلمية، ذلك أن هذا عبارة عن معرفة عادة الله، تعالى، في خلقه ونظامه الذي أقام عليه الكون، وإن ذلك باب كبير لمعرفة الله تعالى، إذ نعرف الله تعالى من أفعاله، والكون كله هو فعل الله تعالى، وما العلم التجريبي إلا محاولة لفهم ذلك النظام السببي الذي يجري على وفقه هذا الكون.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في معرفة الله تعالى وتفاوت مراتب الخلق في ذلك:
ويقول:
ويقول في معرفة أسماء الله الحسنى المشتقة من أفعال الله:
وبهذا الفهم ازدهرت الحضارة، وتطور العلم، والفن، والجمال.
فالسؤال الذي هو محل بحث نظرية التطور هو:
هل هناك نظام يمكن الكشف عنه، يفسر تنوع الكائنات الحية وتعقدها أم لا؟ كما أن نظرية الجاذبية تفسر حركة الأجسام؟[ب]
إن نظرية التطور هي من أشهر نظريات التي خاضت في محاولة فهم النظام السببي الذي يتبعه عالَم البيولوجيا، بل هي الوحيدة الآن القائمة الثابتة المفسرة لجمْعٍ كبير من المشاهدات المختلفة، وهي تتضاعف مع الزمن، بل كلما زاد علم البشر بحقائق البيولوجيا وجدوا النظرية تفسر الاكتشافات الجديدة تفسيرًا متناسقًا مع ما سبق من الاكتشافات؛ وكلما تنبأت بأمور إذا بالعلماء يجدون الأمر كما تنبأت النظرية، وهذا الدور الكلي الذي تقوم به النظرية في التفسير والتنبؤ الناجح، لا يوجد تفسير علمي – في صورة قواعد كلية يمكن اختبارها – غيره في علم الأحياء إلى يومنا هذا.
فمن هذه الناحية أخذت النظرية منزلتها بين علماء البيولوجيا وغيرهم، حتى صارت من حيث مبادئها الأساسية محل اتفاق، وإن حصلت النقاشات في تفاصيل واختلافات فرعية تتعلق بها.
ثم إن هذه النظرية العلمية قد أثارت نقاشات عديدة في علوم الاجتماع والفلسفة والدين. فأثارت نقاشات كبيرة تتعلق بالحقائق الدينية ووجود الإله وخلقه للكون. فتعين الاهتمام بها وفهمها، ثم فصل ما جاءت به من حقائق علمية، عما تلبست به من فلسفات هي غير لازمة عن نفس النظرية.
وسنشرع الآن في حكاية السياق التاريخي للنظرية، ونحكي باختصار عنها وعن أدلتها قبل أن نشرع في مناقشة القضايا الدينية المثارة على إثرها.
ما قبل دارون
لقد كان الدين المسيحي هو محور الحياة والفكر في العالم الغربي. ومنذ عصر التنوير والنهضة، صارت القناعات المشهورة المتلقاة من الفكر المسيحي تهتز وتضعف. وكلما تقدم العقل الأوروبي خطوة إلى الأمام، تراجعت الكنيسة خطوة إلى الوراء. فقد كان هناك اعتقادات سائدة في أوساط القساوسة، منها: أن الأرض هي محور الكون، وأن الله خلق الكون منذ نحو 5000 سنة استنادًا إلى نصوص في سفر التكوين، وأن الله خلق كل حيوان على صورته الحالية خلقًا مباشرًا كما يُفهم من سفر التكوين كذلك، يعني خلق الحصان على هيئته هكذا من عدم، وخلق والأنعام والأسماك وكل الكائنات الحية خلقًا مباشرة على صورتها التي نعرفها الآن، وأن ما بقي من الكائنات فهي الكائنات التي ركبت على سفينة نبي الله نوح، عليه السلام، فنجت من الطوفان العظيم الذي غمر جميع الأرض.
وكذلك كان المعتقد أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته التي نعرفها الآن خلقًا مباشرًا، خلق آدم وحواء، عليهما السلام، ونحن ذريتهما، وأن الإنسان هو المقصود الأعظم من خلق الله، من أجله خلق الله كل شيء. وأن الله أراد أن يكون كل شيء جميلًا تامًا، وأن البيولوجيا هي معجزة وهي صنعة الرب الخاصة، فإنه يستحيل أن تنتج الطبيعة الصماء هذا التعقيد والجمال، فلا يمكن أن نفسر معجزة البيولوجيا تفسيرًا سببيًا لأنها ليست من صنع الطبيعة، بل هي صنع الله.
وقد كان من أهم الأدلة على وجود الله في الفكر المسيحي هو دليل الغائية أو الــteleology، وما تركب منه وعُرف بدليل صانع الساعات (watchmaker analogy)، للقسيس والفيلسوف المسيحي ويليام بيلي (William Paley) الذي خلاصته ملاحظة نظام وتصميم في الموجودات الحية، فكما أن الساعة فيها أجزاء مصممة فتحتاج إلى مصمم يصممها، فالموجودات الحية تصميم تحتاج إلى مصمم. وسيأتي الكلام بتفصيل أكثر على هذا الدليل ومناقشته في مقالة قادمة.
ثم جاء دارون
ثم جاءت نظرة أخرى للكون، وجاء تشارلز داروين، وهزت الكثير من المعتقدات السابقة.
وقبل الخوض فيها تفصيلًا، نحتاج إلى تحرير بعض المسائل:
ما ليس محل بحث النظرية
أولًا نقول: إن نظرية التطور لا علاقة لها بسؤال: ما سبب وجود الكون إن كان له سبب؟ ولا عن طبيعة الوجود، هل هو واجب في العقل أو ممكن مفتقر محتاج إلى موجد.
وكذلك لا تتكلم النظرية عن سؤال: نشأة الحياة، لماذا هناك كائن حي، فهذه تتصارع فيها نظريات أخرى ما بين: طريقة التكون غير البيولوجي[ج] abiogenesis، حيث تقول هذه النظرية، إن الحياة وجدت عن طريق تفاعل كيميائي للمادة في ظروف معينة نتج عنه تكون الجزيئات التي تولّد مثيلاتها (self-replicating molecules)، ومن ثم نشأت الحياة من أصل غير حيوي. وبين طريقة التبذّر الشامل (panspermia)، والتي تقول إن الحياة جاءت عن طريق موجودات حية كانت في بعض النيازك ونحوها التي ضربت الأرض، وهذه الثانية؛ تحوّل السؤال إلى: فكيف نشأت تلك الحياة أصلًا في الفضاء إلخ..
فنظرية التطور خارجة عن كل ذلك، ولا تبحث في أصل الحياة في الكون.
محل بحث النظرية
أما محل بحث النظرية هو تنوع وتعقد أجناس وأنواع الكائنات الحية، كيف حصلت وتكونت وتركبت هذه الموجودات الحية المعقدة. فهي تشرح هذه العملية في نسق التطور عبر آلية الانتخاب الطبيعي. فالتطور هو التغير في الصفات الوراثية عبر الأجيال المتلاحقة.
فالنظرية تبدأ من وجود الحياة على الأرض، وتفسر من الناحية الطبيعية (a naturalistic explanation)، أي من حيث النظر إلى الأسباب الدنيوية العادية وطبيعة الكون وقوانينه، كيف تنشأ الأجناس الحية المختلفة.[د]
وهذه النقطة من أول النقاط التي جاءت النظرية فيها بضربة كبيرة للفكر السائد في ذلك الوقت، إذ كان المعتقد أن البيولوجيا هذه «سر الله ومعجزته»، فلو استطاع العلم أن يفسر حركة الكواكب مثلًا، فإن هذه المعجزة مما يستحيل محاولة تفسيرها لأنها «خلق الله». ونحن كما ذكرنا وكما سنفصل لاحقًا، نعتقد أن الله خالق كل شيء، لكنه أراد أن يجري خلقه على وفق قواعد مطردة وقوانين كونية يمكن أن نفهمها ونستثمرها. ولا فرق في ذلك بين البيولوجيا وغيرها.
شرح النظرية
فإذا تبين هذا فنقول: النظرية تشرح حصول التعقيد في الموجودات (complexity)، وكيف وجدت الأجناس المختلفة (species)، فتقول النظرية:
إن الموجودات الحية كلها تطورت من موجودات سابقة، كلها في النهاية ترجع إلى موجود ذي خلية واحدة (one celled organism)، ثم النظرية تشرح كيف حصل هذا التطور من تلك الخلية إلى أن وجدت خلايا متعددة، ثم زاد تعقيد الخلايا إلى ما هو أعقد منها، إلى أن صارت موجودات ذات تعقيد شديد، وتفرع عن كل هذا كل الموجودات الحية. فلو جئت لقطّةٍ مثلًا ونظرت في أسلافها، وانتقلت من جدود إلى جدود عبر أجيال ماضية طويلة، فإنك ستجد كلما رجعت لأجيال من الوراء تغيرات واختلافات وأجناس تتغير إلى أن تصل إلى صورة ساذجة لكائن حي له خلية واحدة.
وقد حصل هذا التحول عن طريق الانتخاب الطبيعي، حيث تورث الكائنات الجديدة صفات معينة يكون حالها أكثر صلاحية وأوفر حظًا للبقاء والعيش.
فالذي تشرحه نظرية التطور الحديثة أن كل كائن حي يملك مكونات أساسية، هي التي تحدد صفاته وكيف يكون، وهي الحمض النووي، والمكونات الأساسية للحمض النووي هي واحدة لكل الكائنات الحية، وتختلف الكائنات باختلاف التركيبات وعدد المكونات التي تشكل سلسلة الحمض النووي. ثم إن المركبات الأساسية للحامض النووي هي: الجينات، وهذه الجينات أحيانًا يحصل فيها طفرات على سبيل الصدفة أو العشوائية، هذه طبيعتها، ثم بسبب ذلك (a change in genotype)؛ يحصل تغير في الكائن الحي في الظاهر (in the phenotype)، لأن الجينات لها أثر مباشر على الموجود في الظاهر الخارجي. [هـ]
ثم هذا التغير إما أن يجعل فرصة الكائن الحي في البقاء أفضل أو لا، فإن كان أفضل وأكثر ملاءمة للظروف البيئية التي يعيش فيها فيبقى وينتج ذرية تحمل نفس صفاته أو قريبًا منها، ثم يتم توريث هذا التغيير الأصلح الجديد إلى الذرية الجديدة، وفي المقابل الأفراد الأخرى التي لا يحصل لها تلك الطفرة تكون بالتالي أقل حظًا في البقاء منه لكونها فاقدة لذلك التغيير الذي يجعلها أحظ للبقاء وأصلح له وأقدر عليه.
فالتغير الجيني عشوائي، ولكن الانتخاب الطبيعي ليس عشوائيًا، إذ لا يُختار ويُنتخب إلا الأصلح للبقاء، ثم مع الوقت يبقى الأصلح للبقاء، ويفنى الأقل صلاحًا للبقاء. كما هي طبيعة الحياة.
ثم تأتي طفرة جديدة جينية، عشوائية كذلك، إما أن تزيد هي الأخرى من فرصة البقاء للكائن الحي أو لا، فإن زادت من فرصه وقدرته على البقاء استمر، وإلا فني وانقرض.
وإنما نتعجب من ملاءمة الكائنات الحية الحالية لبيئتها ووظائفها البيولوجية، لأن المتأقلم الناجي عبر التاريخ الطبيعي أقل بكثير جدًا من المنقرض، فإن العلماء يقدرون أن حوالي 99% من جملة الكائنات الحية منذ أول الحياة على الأرض منذ بلايين السنين قد انقرضت، ولا يبقى إلا نسبة قليلة، وهي تلك الأكثر ملاءمة للحياة والبيئة.
أسباب قبول النظرية في الأوساط العلمية
استطاعت النظرية أن تفسر أمورًا كثيرة وتتنبأ بها. ودليل قوة أي نظرية هي قدرتها التنبؤية والتفسيرية.
- فقد تنبأت النظرية بوجود الحفريات في طبقات معينة وعدم وجودها في طبقات أخرى، أي بوجود الحيوانات المعقدة في الطبقات الأعلى التي هي أحدث، ووجود غير المعقدة في الطبقات الأعمق الأقدم من الأرض، وحصل ما تنبأت به النظرية فعلًا. فإن مقتضى النظرية أن الموجودات الحية كانت قبل بلايين السنين كائنات حية أحادية الخلاية بسيطة، ثم تطورت هذه إلى ما هو أعقد منها وذلك إلى ما هو أعقد منها، فكلما كُشف عن طبقة من الأرض عمرها أكبر، كان ما فيها من الحفريات التي حفظت هياكل الموجودات الحية هي حفريات لحيوانات بسيطة غير معقدة[و].
- وتنبأت بصفات الكائنات التي يُتوقع أن توجد في أزمنة معينة دون أزمنة أخرى بصفات معينة، متوافقة مع الشجرة التطورية للحيوانات.
- وكذلك فسرت النظرية سبب وجود بعض الحيوانات في قارات معينة وعدم وجودها في قارات أخرى.
- وفسرت النظرية سبب وجود تشوهات في بعض المخلوقات الحية نتيجة الطفرات الجينية العشوائية.
- وفسرت سبب وجود أجزاء معينة في جسد الكائنات الحية على الصورة التي هي عليه، بحيث لا يوجد معنى لأن تكون على هذه الحالة إلا لو كانت مبنية على أصل سابق للحيوان الحالي، ذلك الأصل السابق كان على تلك الصورة، فتراكمت التغيرات على الصورة الأولية وبقيت آثارها إلى أن وصلت إلى الحالة التي هي موجودة عليها الآن.
هذا وغيره كثير من تفاصيل دقيقة متعلقة بالكائن الحي، لا تفسير له حتى الآن من حيث النظر في السؤال عن السبب العادي للكون – أي عادة الله في خلق الكون – إلا نظرية التطور، فهي تفسر ذلك كله، وتتنبأ بأمور وتأتي النتائج على وفق ذلك، فهي نظرية قوية لم تنقض، ناجحة في التفسير، صامدة أمام الكثير من التحديات، وما فيها من خروم وقصور في بعض الجوانب يتم ملؤها مع الوقت، أو هي أمور لا ترقى لأن تكون ناقضة للنظرية.
هذه المقالة الأولى من ست مقالات عن الإسلام والتطور. وفي المقالات الخمسة المقبلة سنتناول علاقة النظرية بالدين، وبعض أهم الإشكالات التي أثيرت حول هذا الموضوع، مجيبين بما نعتقد أنه يحل الإشكال، إن شاء الله تعالى.
خلاصة ما قلناه في هذه المقالة
إن النظرية العلمية هي عملية جمع المعلومات عن الكون في صورة قوانين لها قدرة تنبؤية، وإن العلم هو بحث في النظام السببي الذي نعتقد أن الله قد خلق الكون جاريًا عليه. وأنه لا إشكال في البحث عن النظام السببي في تطور الكائنات، كما أنه لا إشكال في البحث عن النظام السببي لظاهرة الجاذبية مثلًا. فإن من فهم القوى forces وكيف تعمل في الكون لا يقل انبهاره بالخالق الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا. وذكرنا شرحًا للنظرية وأهم عناصر قوتها مع تبيين السياق التاريخي والفكري الذي نشأت فيه. وبينّا أننا كمسلمين يجب علينا الاهتمام بفهم الكون واستنباط قوانينه عن طريق العلم والتجربة، وسوف نبسط الكلام في المقالات المقبلة عن القضايا الدينية التي اشتبكت معها النظرية.
هوامش
[أ] نحن في تناولنا للمسألة، لا نتناولها من الحيثية البيولوجية، وإنما جهة تناولنا هي من حيث علاقة النظرية بوجود الله تعالى والدين الإسلامي، فسيكون تناولنا لها تناولًا كلاميًا، يناقش قضايا كلامية لزمت على النظرية، أو ادعيت من قبل البعض أنها لازمة عنها وهي ليست كذلك.
هذا والنظرية نفسها والأدلة عليها تخصص علمي كامل، ومن أراد الاستزادة في معرفتها فما أكثر الكتب التي تشرحها، وما أكثر المحاضرات الجامعية المتوفرة على الشبكة التي تشرحها بتفصيل.
ومرادنا بـ«كلامية»: علم الكلام، وهو العلم الذي يؤسس العقائد الدينية على أدلة عقلية.
[ب] وقلنا في مقال سابق:
فهل تظن مثلًا – عزيزنا القارئ الكريم – أن نظرية نيوتن عن القوى (forces) ودورها في تجاذب الكواكب ودورانها واستمرارها على هذا النسق، أو أن ذلك بسبب انحناءات في الزمكان أو غير ذلك من النظريات العلمية.، يعارض انبهارك بكونه تعالى يمسك السماوات والأرض أن تزولا، لأنك اكتشفت الأسباب المؤدية إلى حصول هذه الظاهرة؟
نقول: لا والله، بل إن العجب يزداد مع الكشف العلمي ولا يقل، فمن المتصور عقلًا أن يوجد الكون على غير هذه الأسباب، أو تؤدي هذه الأسباب إلى غير هذه النتائج، لكن الله خلق الأسباب، وخلق المسببات، وأوجد الارتباط بينهما والذي تكشفه لنا العلوم.
إن انبهارك يزداد حينما تعلم تعقّد هذا الكون، ودقته، وجريانه على قانون مخصوص، وأن هذه القوى لو تغيرت بأقل القليل لانهار هذا النظام الكوزمولوجي، ولحصل الاصطدام والاضطراب.
كل هذا بالنسبة للظاهر المشاهَد، أما الحقيقة فلا عمل لهذه القوى أصلًا ولا للزمكان ولا لأي شيء، ولا تأثير لها استقلالًا بنفسها، وإنما الخالق، سبحانه وتعالى، هو القيّوم، بخلقه للنتيجة عقب الأثر، وبترتيب خلقه على قانون الأسباب والنتائج يؤثر في هذه الأشياء الوجود، فلا فاعل ولا مؤثر إلا الله سبحانه وتعالى، لا إله إلا هو الحي القيوم.
وبهذا الفهم، تستطيع أن تعلم أن الكون له قوانين يمكننا اكتشافها واستثمارها في مسيرتنا الإنسانية، مستعينين في ذلك بالعلماء وأهل الاختصاص، وكلما ازددنا علمًا ومعرفة بقوانين الطبيعة؛ ازداد إيماننا بالله وشهودنا لجماله، وجلاله، وكماله.
وبهذا يسير العقل والقلب في درب واحد، فلا انفصام بينهما ولا خصام.
[ج] وهذه ترجمتنا لهذا المصطلح.
[د] والمراد بـ naturalistic explanation، يعني في مقابل super naturalistic explanation، وقد سبق أن ناقشنا هذه المسألة في مقالتين سابقتين عن الأسباب وعن إله الفجوات، وبينّا أن التفسير الطبيعي هذا هو تفسير لعادة الله في خلقه، فالتفسير الطبيعي هو نظر في الأسباب العادية، وهو في الحقيقة خلق الله تعالى، وهذا بالنظر إليه من حيث كونه مخلوقًا لله تعالى، فجهات النظر منفكة، ومن الخطأ الخلط بين جهات النظر، فنقول عندما نُسأل عن كيف يعمل الهاتف مثلًا: الله تعالى يخلقه، فهذا ليس جوابنا على السؤال، كما سبق أن بينا.
[هـ] وهذا الشرح هو لما يعرف بالـmodern synthesis، وهو الدمج الذي حصل بين نظرية داروين واكتشافات علم الجينات.
[و] وقد مرت النظرية بتحديات كثيرة على مر العقود، وكان في مطلع القرن فقر في الحفريات الدالة على صحة النظرية، فاشتهر في وقت ما أن الحفريات قد أبطلت النظرية، وقد مضى على هذه الحقبة أضعافها من مجهودات علمية والتنقيب عن حفريات، وكانت النظرية صامدة أمام كل هذا.
- المقصد الأسنى 55
- المقصد الأسنى 57
- المقصد الأسنى 99-100