تعرف على علم «الوراثة فوق الجينية»
في كل ما هو متعلق بالعلوم الحيوية، يمكنك أن تقرأ كلمة «الوراثة فوق الجينية Epigenetics» في كل مكان، من المجلات الأكاديمية والمقالات العلمية وصولا إلى الإعلانات الترويجية (المضللة في كثير من الأوقات) لعلاجات تدعي قدرات فائقة لشفاء الأمراض. لكن ما هو علم الوراثة فوق الجينية؟، ولماذا يعد مجالًا مهمًا من مجالات العلوم؟
ما هو علم الوراثة فوق الجينية؟
يعتبر مجال الوراثة فوق الجينية واحدًا من أهم مجالات العلوم الحيوية، حيث يمثل ظاهرة ذات تأثيرات متعددة وواسعة النطاق، كما يحمل عددًا كبيرًا من احتمالات التطوير والتأثير خصوصًا في الطب والعلاج، كما أنها تمنحنا القدرة على الإجابة على بعض الأسئلة التي تستعصي على الإجابة بالاعتماد على آليات الوراثة الجينية فقط، كالتساؤل عن السبب وراء كون التوائم المتماثلة غير متماثلين تمامًا.
عوامل الوراثة فوق الجينية «Epigenetics» هي عبارة عن معلومات إضافية على هامش التركيب الجيني للحمض النووي، فهي لا تؤثر حقيقة في تركيب الجينات أو ترتيبها لكنها تؤثر في النمط الظاهري. فإذا اعتبرنا أن الحمض النووي هو دليل إرشادي يشرح كيفية عمل جسم الإنسان، فيمكننا اعتبار أن تسلسل القواعد النيتروجينة في الحمض النووي هو النص المكتوب لذلك الدليل، بينما تمثل عوامل الوراثة فوق الجينية ما يمكن اعتباره علامات إرشادية لكيفية التعامل مع كل جزء من ذلك النص المكتوب، حيث تشير تلك العلامات إلى الأجزاء التي يجب قراءتها بعناية فائقة، والأجزاء الأخرى التي يمكن تجاوزها أو التي لا تتمتع بنفس القدر من الأهمية.
هناك أنواع مختلفة من العلامات الجينية، تقوم كل منها بإخبار البروتينات في الخلية بمعالجة الجزء المحدد بها من الحمض النووي بطريقة معينة. على سبيل المثال، من الممكن أن يكون الحمض النووي موسومًا ببعض الجزيئات الصغيرة التي يطلق عليها «مجموعات الميثيل methyl groups» والتي ترتبط بالقاعدة النيتروجينية «سيتوزين cytosine»، كما أنه من الممكن إضافة وسوم/علامات أخرى على البروتينات التي تسمى بالـ«هيستونات histones» التي تعتبر وثيقة الارتباط بالحمض النووي. تقوم بعض البروتينات بالارتباط بتلك المناطق الموسومة بمجموعات الميثيل، ومن ثم عدم تفعيل تلك الجينات في تلك الخلايا، وهو ما يستخدم في تفسير كيفية تمايز الخلايا المختلفة بطريقة مختلفة في أنسجة الجسم المختلفة على الرغم من أن جميع الخلايا تحمل نفس تركيب الحمض النووي.
تستطيع مجموعات الميثيل والوسوم الجزيئية الصغيرة الأخرى الارتباط بمواضع مختلفة على الهيستونات، ولكل من تلك الوسوم تأثير مختلف. تقوم بعض الوسوم في بعض المواقع بإضعاف الارتباط بين الهيستونات والحمض النووي؛ ومن ثم يصبح الوصول للحمض النووي أسهل؛ مما يساعد البروتينات المسئولة عن تفعيل الجينات في تلك المنطقة من الحمض النووي، فتعتبر تلك الجزيئات كعلامة إرشادية تخبر الخلية بأن هذا الجزء من الحمض النووي هام ويجب تفعيله. تعمل بعض الوسوم الأخرى بعكس تلك الطريقة تمامًا، وهناك وسوم جينية تتجمع عند نقطة بداية جينات محددة، وأخرى تقوم بوسم مساحات أكبر من الحمض النووي وغيرها، ومما لا شك فيه أن هناك العديد من الوسوم الأخرى التي لا تعرف عنها شيئًا بعد.
كيف تتأثر عوامل الوراثة فوق الجينية بتجاربنا الحياتية؟
يستطيع أي عامل خارجي يمكن إدراكه من قبل الجسد أن يتسبب بتغييرات في عوامل الوراثة فوق الجينية للشخص، لكنه من غير الواضح بعد أي من العوامل الخارجية تقوم بالتأثير في أي من تلك العوامل، كما أن الآلية التي يتم بها ذلك التأثير لا تزال غير معروفة. على الرغم من ذلك فإن هناك عددًا من الأمثلة واضحة المعالم، ما بين التعرض لمواد كيميائية وأساليب الحياة المختلفة والتجارب الحياتية المعاشة:
- بيسفينول أ Bisphenol A هي مادة كيميائية يتم إضافتها لبعض لدائن البلاستيك، قد تم تأكيد ارتباطها بالإصابة بمرض السرطان وأمراض أخرى، كما تم بالفعل استخلاص تلك المادة من بعض المواد الاستهلاكية في بعض البلدان، ويبدو أن BPA تقوم بتأثيرها المؤدي لتلك الأمراض عن طريق عدد من الآليات منها التأثير في عوامل الوراثة فوق الجينية.
- التأثيرات المفيد للرياضة معروف منذ أجيال، لكن الآليات التي تتم بها تلك التأثيرات لا تزال غير واضحة بشكل كافٍ، كما توجد أدلة متراكمة تشير إلى أن التغييرات في عوامل الوراثة فوق الجينية في العضلات والأنسجة الدهنية لها دور في تلك التأثيرات المفيدة للرياضة.
- يبدو أن إساءة المعاملة في فترات الطفولة، والأشكال الأخرى من الصدمات النفسية المبكرة أيضًا تؤثر على أنماط ارتباط مجموعات الميثيل بالحمض النووي؛ مما قد يساعد في تفسير الضعف الصحي الذي يعاني منه العديد من ضحايا تلك الاعتداءات خلال فترات حياتهم.
توريث عوامل الوراثة فوق الجينية
هو أحد المجالات التي تنامت الضجة حولها بسرعة وبدرجة أكبر من تنامي العلم الفعلي عنها. هناك بالفعل بعض الدراسات الرائعة حول توريث عوامل الوراثة فوق الجينية، لكن أقوى وأهم الأدلة في هذا المجال حتى الآن مصدره الدراسات والأبحاث التي تمت على الفئران. وعلى الرغم من وجود العديد من الإشارات إلى أن بعض تلك النتائج ينطبق أيضًا على الإنسان، فالواقع أننا لا نزال في بدايات سبر أغوار تلك الظاهرة، ولا يمكن القول بأن الأدلة المتاحة قاطعة بما فيه الكفاية.
باختصار
عوامل الوراثة فوق الجينية تتحكم بالجينات، يتحكم ظرف وعوامل معينة في الحياة في الجينات مسببة ظهور أثر تلك الجينات أو اختفائه. بعبارة أخرى، فإن عوامل الوراثة فوق الجينية يمكنها إيقاف الجينات أو تشغيلها.
عوامل الوراثة فوق الجينية في كل مكان. ما تأكله، محل معيشتك، الأشخاص الذين تتعامل معهم، مواعيد نومك، مدى ممارستك للرياضة وحتى التقدم في العمر كلها عوامل قد تؤدي في النهاية إلى بعض التغيرات الكيميائية التي تؤثر على الجينات متسببة إما في تفعيل بعض الجينات النائمة أو إيقاف بعض الجينات النشطة. كذلك فإنه في بعض الأمراض، كالسرطان ومرض الزهايمر، تتغير بعض الجينات من حالتها الطبيعية إلى حالة معاكسة (مما قد يكون أحد أسباب المرض).
عوامل الوراثة فوق الجينية تجعلنا مميزين. على الرغم من التطابق الجيني بين التوائم المتماثلة، فإن عوامل الوراثة فوق الجينية تؤدي إلى كونهم غير متطابقين في المظهر النهائي.
عوامل الوراثة فوق الجينية تتيح لنا العديد من الفرص. ما هي الاحتمالات المتاحة عند تشغيل أو إيقاف عدد معين من الجينات؟. بوجود ما يزيد عن 20 ألف جين في الحمض النووي البشري تبدو تلك الاحتمالات لا نهائية، لكننا إذا استطعنا تحديد أسباب ونتائج كل تغيير، وإن استطعنا التحكم في تلك التغييرات للإبقاء على ما هو جيد وتجنب ما هو مضر، سيكون بإمكاننا نظريًا إيجاد حلول جذرية للعديد من المشاكل، كعلاج السرطان، ومنع إصابة البشر بالسمنة، وإبطاء التقدم في العمر، وربما ما هو أكثر.