ما السر المشترك: لماذا تغرق القاهرة وجدة كل عام؟
ككل شتاء، تعرضت مصر لموجة من الأمطار، فتوقفت الحركة على الطرق الرئيسية في القاهرة، تكررت حوادث الماس الكهربائي التي تهدد الحياة، ولم تعقد مباراة الديربي القاهري لأن حافلة نادي الزمالك لم تستطع الوصول إلى الملعب وفقاً لرئيس النادي.
في كل مرة نرى التعامل «غير المحترف» من الحكومة مع ظاهرة أصبحت من الثوابت السنوية في مصر في السنوات الأخيرة. ففي ذات الوقت من عام 2019 غرق التجمع الخامس، أحد أرقى أحياء القاهرة، في السيول مما أنتج غضباً كبيراً على البنية التحتية في منطقة من المفترض أنها بنيت حديثاً في الصحراء وخططت على أفضل القواعد الإنشائية ليسكنها الصفوة.
لا يعود الأمر إلى محدودية الموارد، فحتى الدول الغنية والتي تنفق بكثافة على البنية التحتية، مثل المملكة العربية السعودية، تجد نفسها غير قادرة على التعامل مع الأمطار الموسمية. في جدة كبرى مدن المملكة تتكرر الحادثة كل شتاء تقريباً، مما نجم عنه أكثر من 100 حالة من الوفيات وخسائر تقدر بالمليارات.
فما السر الذي يجعل نموذجين مختلفين من الدول العربية إحداهما دولة تنفق بكثافة على البنية التحتية، والأخرى تعاني من مشاكل الإنفاق يتساويان في النتيجة النهائية وهي الفشل المزمن والغرق في قطرات محدودة من المياه؟ وما تأثير تلك المشكلة على الاقتصادين؟
على القاهرة الاستسلام لمصيرها
القاهرة هي أكبر المدن العربية من حيث عدد السكان. يقطن في القاهرة الكبرى بشكل دائم ما يقارب 25 مليون نسمة أي نحو ربع سكان مصر، ويتسبب التوزيع غير المتكافئ للتنمية بين المحافظات المختلفة في زيادة الضغط على البنية التحتية في القاهرة.
وضع البنية التحتية في مصر، يتخطى بكثير موضوع صرف مياه الأمطار، والذي يبدو أنه في النهاية تقنياً خاضع لأسئلة من قبيل مدى تكرارية حدوث أمطار غزيرة في القاهرة وتكلفة إنشاء شبكة لتصريف مياه الأمطار خاصة أن شبكة الصرف الصحي التقليدية تعاني من أزمات كبيرة وغير قادرة على استقبال تلك المياه.
هذه المشكلة بحسب تعبير المتحدث باسم مجلس الوزراء المصري نادر سعد هي مشكلة تاريخية تحتاج لموارد كبيرة لحلها، قدر المتحدث أن تكلفة إنشاء شبكة كاملة لتصريف مياه الأمطار للقاهرة الكبرى فقط تعد بمليارات الجنيهات. بالطبع أردف المتحدث أن الإنفاق على تلك الشبكة هو إهدار للموارد، حيث إن ظاهرة سقوط الأمطار الكثيفة غير متكررة تحدث يومين أو ثلاثة في السنة.
من كلمات رئاسة الوزراء يمكننا أن نفهم أنه لا وجود لإرداة سياسية لحل المشكلة، وهو ما يبدو مبرراً في نظر السلطة في مصر، وبغض النظر عن النقاش حول هذا الرقم المطروح للتكلفة، والدراسة التي صدر عنها، السؤال المنطقي في هذه الحالة الذي علينا طرحه: ما تكلفة توقف القاهرة الكبرى 3 أيام كل شتاء بفعل الأمطار؟
القاهرة تغرق في شبر مياه
ينتقل في القاهرة يومياً ملايين من البشر من شأن تعطل هؤلاء على الطرق بفعل عدم تصريف مياه الامطار أن يرفع تكلفة الطاقة التي تستخدمها المركبات التي تنقلهم، وهي بالمليارات، إذا قدرنا أن كل سيارة في القاهرة تستهلك لتراً واحداً من البنزين أكثر في أوقات تراكم مياه الأمطار، فإن ذلك يعني أن 6 ملايين لتر من البنزين قد تزيد في حالات الأمطار . فنحن نخسر في اليوم الواحد ما يقارب من 42 مليون جنيه على أقل تقدير من الطاقة باحتساب متوسط سعر البنزين 7 جنيهات. أي ما يقارب 125 مليون جنيه في كل موسم أمطار يستمر 3 أيام فقط في القاهرة.
إذا قررنا أن نحسب تكلفة تأخر الموظفين والعمال عن الذهاب لأعمالهم، فنحن أمام ما يقرب من 5 ملايين شخص يومياً سوف تقل إنتاجيتهم بسبب التأخر عن الذهاب للعمل. دع عنك ما يعادل هذا الرقم من القوى العاملة الوافدة للقاهرة كل يوم من المحافظات الأخرى، بالتالي نحن أمام مليارات الجنيهات من الخسائر جراء تعطل الطرق فقط.
هذا الرقم غير مبالغ فيه. فقد قدر البنك الدولي أن مصر تفقد 8 مليارات دولار سنوياً بفعل الازدحام المروري، أي أن تكلفة الازدحام المروري في القاهرة تقدر بـ20 مليون دولار، ما يساوي أكثر من 300 مليون جنيه، يومياً دون أي ظروف استثائية مثل الأمطار. كل تلك التكاليف تصعب من بيئة الأعمال في القاهرة وتجعلها مدينة غير جاذبة للاستثمارات.
أما إذا قررنا حساب تأثير تراكم مياه الأمطار على البنية التحتية للطرق في القاهرة، مثلًا الانهيارات الأرضية في الطرق الجديدة كما حدث من قبل في الطريق الدائري الإقليمي، أو غيرها من الطرق داخل وخارج القاهرة، فنحن أمام خسائر كبيرة أخرى. قبل كل هذا تأتي خسارة الإنسان المباشرة المتجسدة في الوفيات والحوادث والإصابات الناجمة عن الغرق في شبر ماء، إذ تعد مصر دولة ذات معدل أمطار منخفض حتى في فصل الشتاء.
هل حقاً (جدة غير)؟
تتعرض جدة كل عام تقريباً للفيضانات التي تجعل عاصمة الحجاز والتي يسكنها أكثر من 3.5 مليون نسمة ضحية سنوية. للسيول في جدة عدة أسباب أولها، الطبيعة الجغرافية للمدينة التي تقع بين البحر في جهة والجبال في الجهة الأخرى، مما يجعل عملية تدفق المطر سريعة وعصية على التحكم.
تسهم أيضاً البنية التحتية المتهالكة للصرف الصحي في المدينة وزيادة الضغط على الشبكة القديمة وغياب الصيانة المستمرة في زيادة المشكلة. ترجح أسباب أخرى أن جزءاً رئيسياً من عدم القدرة على تصريف مياه السيول في جدة هي ارتفاع مستوى البحر الأحمر بفعل التغيرات المناخية وهو ما يجعل عملية تصريف المياه الزائدة في البحر عملية صعبة تقنياً.
لكن تكرار حدوث السيول في جدة يطرح أسئلة كثيرة حول كفاءة إدارة الموارد في المدينة وغياب التخطيط المنظم، فبينما تستثمر الحكومة السعودية مئات الملايين كل عام لتطوير شبكة الصرف في جدة، إلا أن هذا لم يحل المشكلة، بسبب الفساد وغياب التخطيط الحضري السليم في المشاريع التي تقوم بها الحكومة أو تسندها للقطاع الخاص.
في مثال بسيط، أشار تقرير هيئة النزاهة الحكومية والمختصة في محاربة الفساد إلى غياب التخطيط العمراني الجيد في المدينة، حيث قال إن أرصفة المدينة المرتفعة والتي تصل إلى أكثر من نصف متر كانت سبباً في زيادة تجمعات المياه وعدم تصريفها.
أسهم هذا في تضرر وتشريد سنوي لعشرات الألوف، ووقوع وفيات وإصابات بالمئات، لا سيما في أعوام 2009 و2011 و2015.
في القاهرة وجدة ثمة عوامل مشتركة في تفاقم مشكلة مياه الصرف هي على رأسها عدم كفاءة إدارة الموراد والتخطيط المتكامل للتعامل مع المشكلة على الرغم من تكرارها أكثر من مرة. تتشابه المدينتان في اهتمام الدولة بهما والإنفاق عليهما بسخاء، بالضبط كما تتشابهان في ضياع هذا الإنفاق بين الفساد وضعف الكفاءة وغياب التخطيط الحضري السليم.
الخلاصة ألا أحد يحاسب المسئولين بالتالي تستمر المشكلة، في مصر سوف يلقي اللوم على الطبيعة أو رعونة المواطنين، وفي السعودية سوف يتم الدفع بكبش فداء كالمهندس الفقيه، لكن في النهاية لن يتغير شيء.