القط والفأر: ما وراء التصعيد الجزائري مع فرنسا
في نهاية سبتمبر/ أيلول 2021 أعلن الناطق باسم الحكومة الفرنسية جابريال آتال عن قرار حكومته تشديد إجراءات منح التأشيرة الفرنسية لمواطني المغرب وتونس، والجزائر على وجه الخصوص. القرار الفرنسي جاء ردًا على رفض تلك الدول الثلاث إصدار التصاريح اللازمة لإعادة المهاجرين الشرعيين المقيمين في فرنسا، لكن فرنسا ارتأت لأسباب متعلقة بها أنهم لم يعودوا مؤهلين للإقامة فيها، ويجب عليهم العودة إلى بلادهم التي أتوا منها.
الجزائر كانت الأشد رفضًا لهذا القرار المتعجرف، على حد وصف الجزائريين، فجاءهم رد خاص من جيرالد دارمانان، وزير الداخلية الفرنسي، الذين أعلن عن تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين للنصف. ذلك القرار كان أشد وضوحًا من كل القرارات السابقة، وليؤكد للحكومة الجزائرية أنهم المعنيّون بقرار تشديد إجراءات منح التاشيرات السابق.
الوزير الفرنسي برر تلك القرارات برفض الجزائر استقبال المهاجرين، لكنه هذه المرة وصفهم بغير الشرعيين. كلمة غير الشرعيين لم يكن من الواضح من كلام جيرالد هل المقصود بها هم المهاجرون الذين دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية فعلًا، أم المهاجرون الشرعيون الذين لم تعد فرنسا تراهم شرعيين لأسباب قد تكون متعلقة بأنهم مسلمون، أو مسلمون متشددون، أو متهمون في جرائم إرهاب.
لكن في كافة الاحتمالات فقد صرّح جيرالد أن بلاده ربطت استعادة 7000 مهاجر غير شرعي موجودين في فرنسا حاليًا بمسألة حصول الجزائر على التأشيرات التي تريدها. جيرالد استمر في سكب الوقود على النار فقال إن تلك السياسة ليست جديدة، لكن فقط هذه أول مرة يتم الإعلان عنها. فقال إن بلاده منحت عشرات الآلاف من التأشيرات عام 2019، لكن باريس قلّصت العدد كثيرًا عام 2020، والآن قررت باريس تخفيض العدد إلى النصف. وأوضح جيرالد أن بلاده تربط التأشيرات بالعلاقات مع الدول الثلاث، وأنه طالما رفضت تلك الدول استعادة مواطنيهم، ففرنسا لا ترحب بمزيد من مواطنيهم.
ماكرون يتدخل ليشعل الأزمة
تونس والمغرب تقبلتا قرار تقليص التأشيرات بالإعراب عن الأسف لذلك القرار، لكن الجزائر استمرت في كونها أكثر الثلاثة حدة في الرفض، استدعت فرانسوا جوييت، سفير فرنسا لديها، وسلّمته احتجاجًا رسميًا على القرار. وبعد ذلك صرّح عمار بلاني، المبعوث الجزائري المكلّف بملف الصحراء الغربية، أن تلك الخطوة مؤسفة وأن ملف الهجرة يعتمد على التعاون المشترك لا مجرد اتخاذ قرارات أحادية من الجانب الفرنسي.
كل ذلك التراشق اللفظي بين الجزائر وفرنسا لم يكن ماكرون، الرئيس الفرنسي، موجودًا فيه. لهذا كان الأمر متداولاً إعلاميًا باعتباره خلافًا دبلوماسيًا بين وزراء على ملف ساخن، لكن قرر ماكرون أن يضع نهاية للأزمة فاجتمع بمجموعة من الشباب الفرنسي، 18 شابًا جميعهم ينتمون لأسر عاشت حرب التحرير الجزائرية، وفق التعبير الجزائري، في مأدبة غداء لينقل لهم ولصحيفة لوموند الفرنسية رأيه في الأزمة.
ماكرون قال إن حرب الجزائر، وفق التعبير الفرنسي، هي السبب في العديد من الصدمات المتراكمة في نفوس الفرنسيين، وأنه يشعر بالهول من التاريخ والذكريات المرتبطة بحرب الجزائر. ويرى ماكرون أن معاناة شعبه من تلك الحرب قد كُبتت، وأن التاريخ الرسمي قد أًعيدت كتابته بالكامل لإظهار فرنسا بمظهر سيئ، وأن هدف إعادة كتابة التاريخ تلك هو ترسيخ كراهية فرنسا. وأضاف ماكرون أن هذه الكراهية لا تأتي من المجتمع الجزائري الشعبي فحسب، بل من النظام العسكري الذي يحكم الجزائر والذي يقتات على ريع الذاكرة، كما وصفها ماكرون، وأن العسكر يستغلون التاريخ لمآرب سياسية.
استمر ماكرون في الحديث قائلًا إن النظام الجزائري بات مُتعبًا، وأن الحراك الشعبي الذي أطاح بعبد العزيز بوتفليقة زاد من تعب النظام. وأكد أن الرئيس الحالي، عبد المجيد تبون، شخص جيد يمكنه المحاورة معه، لكنه رهينة في نظام متصلب. رمى ماكرون سهمًا جديدًا فقال إن تقليص التأشيرات لن يؤثر على رجال الأعمال بالتأكيد، وأيضًا لن يمس الطلبة، لكن الهدف منه هو إزعاج الأشخاص الموجودين في دوائر صنع القرار والذين اعتادوا على طلب التأشيرات والحصول عليها بكل سهولة.
شجار بلا انفصال
كانت التصريحات السابقة كما يقول ماكرون موجهةً إلى أصحاب المناصب، رغم أنها تبدو مهينة للجزائر ككل، لكن التصريحات التي أكمل بها ماكرون غداءه مع الشباب بالتأكيد موجهة للجزائر كافة. فقد تساءل ماكرون هل كانت هناك أمة جزائرية أصلًا قبل الاستعمار الفرنسي؟ ماكرون أجاب أنه لم تكن توجد مثل تلك الأمة المعروفة بالأمة الجزائرية، بل فقط مستعمرون آخرون. ولمّح ماكرون بتركيا متعجبًا عن كيف تنجح أنقرة في جعل الناس ينسون الدور الذي لعبته في الجزائر وهيمنتها هناك، يقصد بذلك الدولة العثمانية ووجودها في الجزائر قرابة 3 قرون.
بعد تلك الكلمات الأخيرة لم يعد خافيًا أن ماكرون يخوض معركة جديدة من معاركه الكلامية التي تهدف لتحقير الجزائر ككل، فاستدعت الجزائر محمد عنتر داوود سفيرها لدى فرنسا. وأصدرت الرئاسة الجزائرية بيانًا رسميًا ترفض فيه تلك التصريحات، وخصّت بالذكر التصريحات المتحدثة عن نظام عسكري يحكم البلاد، وشددت الجزائر على رفض أي تدخل في شؤونها الداخلية.
الغضب الشعبي الجزائري لم يهدأ ببيان الحكومة، ولا بسحب السفير وطالب برد أكثر قوة. ومع ضغط الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي اضطرت الحكومة الجزائرية لإعلان إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية المتوجهة إلى شمال مالي فيما يُعرف بعملية بركان. الرد الرسمي الفرنسي جاء هادئًا موضحًا أن تأثير القرار الجزائري شديد المحدودية وأنه لن يؤثر على المهام الاستخباراتية، وأن الطائرات الحربية ستقوم فقط بتعديل مخططات تحليقها.
تلك القرارات غير المسبوقة بين البلدين تُنذر بأن الأزمة بين البلدين قد تطول. فلم تصل التوترات بين البلدين إلى هذا الحد من قبل، رغم البعد الثقافي والتاريخي الدموي بين البلدين، لكن في الغالب ما تكون الاضطرابات مؤقتةً وما تلبث أن تهدأ. ورغم أن الوضع يُنذر بطول الأزمة لكن احتمالية تفاقم الأمور لأبعد من ذلك تظل احتمالية بعيدة، فالجزائر وفرنسا كثيرا الخلاف والشجار، كزوجين عجوزين لم يعودا يطيقا العيش سويًا، لكنّهما بالتأكيد يعلمان أن الطلاق ليس اختيارًا مطروحًا.
لعبة القط والفأر
لم يرتكب أي رئيس فرنسي سابق خطأ مثل الذي ارتكبه ماكرون، فإذا لم يعتذر الرئيس الفرنسي عن الجروح الدامية وملايين الشهداء التي سقطت في حرب التحرير، فإنه بالتأكيد لا ينكأ ذلك الجرح. لذا فخطأ ماكرون يمكن أن يكون مقصودًا، فالانتخابات الرئاسية الفرنسية اقتربت في أبريل/ نيسان 2022. وفي الأجواء الحالية تبدو أوروبا كلها مشحونةً بالخطاب اليميني المتطرف، والنداءات المعادية للهجرة أو التصالح مع الشرق، لهذا فيمكن التكهن أن ماكرون افتعل الأزمة ليجتذب اليمين لصفه.
لهذا دعا ماكرون منذ أيام إلى العفو عن الحركيين، المتعاونين الجزائريين مع الفرنسيين أثناء حرب التحرير، وأعلن ماكرون عن قانون فرنسي لتعويضهم. الحركي في العُرف الجزائري تعني الخائن أو العميل، وهم الذين ساعدوا أو حاربوا بجانب القوات الفرنسية ضد أبناء شعبهم أو وشوا بتحركات ومخططات الجيش الجزائري للفرنسيين. ما يغفله ماكرون أن فرنسا هي التي رفضت إجلاء الحركيين بعد توقيع اتفاقية الاستقلال، واستطاع 42 ألفًا منهم الوصول لفرنسا فوضعتهم مع أسرهم في مخيمات بائسة، ثم لحق بهم 40 ألفًا آخرين، أما بقيّتهم فتُركوا في الجزائر ليلقوا مصيرهم.
ليكون ماكرون بذلك قد استغل الجزائر على النقيضين، جعل منها شريكًا أمنيًا في سنوات ولايته الأولى، ثم يريد تحويلها لفزّاعة في عامه الأخير. فقد أطلق برنامجه لمصالحة ذاكرة البلدين للتسامي على الماضي الفرنسي في الجزائر، لكن ربما خاب أمله بسبب الفتور الذي استقبل به الجزائريون تلك المنحة الماكرونية، فعدل عن المصالحة إلى الشجار، وإعادة إحياء الماضي.
خصوصًا أن الداخل الفرنسي يرى أن وعود ماكرون المتعلقة بالبطالة والاقتصاد لم تتحقق، لهذا فهو يهدف لدغدغة مشاعر الجمهور الفرنسي بقضايا تتعلق بالاستعمار. وربما يمكن القول بالمثل على النظام الجزائري، فقد تبدو ردود أفعاله مبالغة قليلًا ليحاول التغطية على أزماته الداخلية وأبرز التناقص المستمر في التأييد للنظام، فحجم المشاركة في الانتخابات الجزائرية في يونيو/ حزيران الماضي بلغ 30% فقط، أقل نسبة منذ 20 عامًا.
لأن جانبًا كبيرًا من الشعب الجزائري يرى أن الحراك المطالب بالتغيير لم ينتهِ بعد. لذا فكما تستغل فرنسا الملفات الخارجية لتحقيق مكاسب داخلية، فيبدو أن الجزائر، ربما، تفعل المثل حتى وإن لم تتعمد افتعال الحدث، لكن استغلاله سياسيًا أمر ممكن.