ما الفن؟
قد يكون من الصعب علينا الوقوف على تعريف معين للفن. فقد اختلف العديد من الكُتَّاب والفلاسفة حول مفهوم «الفن»، بل إن العديد اختلفوا حتى حول ما يمكن على أساسه اعتبار عمل ما «فنيًا». في الإنجليزية، اشتقت كلمة Art «فن» من اللاتينية «ARS» والتي تعني حرفية أو مهنية. هذا المعنى الفضفاض يعني أن أي تقدم يحققه الإنسان في أي مجال يُعد فنًا. إلا أن المفهوم، منذ أواسط القرن الثامن عشر، انحصر قليلًا وأصبح يطلق على استخدام الإنسان لمهاراته لتقديم منتج «جميل». لكن هذا التعريف بدوره أثار النزاع بين الفلاسفة والنقاد؛ لأن لا أحد استطاع الوقوف على «ما الجمال» أساسا.
في النصف الأول من القرن العشرين ووسط الجدل الدائر حول ما المقصود بالفن، أطلق الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو [1] عبارته الشهيرة: «أصبح بديهيًا أن لا شيء فيما يتعلق بالفن يعتبر بديهي». في إشارة منه إلى صعوبة الوقوف على تعريف للفن أو ما هو فني.
أدورنو ليس الوحيد بين الكُتَّاب والفلاسفة الذين شاركوا في الجدل حول تعريف الفن. ففي كتابه «ما الفن What Is Art» الذي نُشر عام 1897، أورد الأديب الروسي ليو تولستوي: «الفن هو نشاط بشري يقوم فيه الإنسان عن عمد باستخدام عناصر خارجة عنه لينقل للآخرين ما يجول في خاطره من مشاعر ما يجعلهم من شدة التأثر يختبرون نفس مشاعره». يُعتبر تعريف تولستوي للفن في كتابه ما الفن أحد أهم المراجع التي يستشهد بها النقاد في الجدل حول المصطلح.
قدم أيضًا الفيلسوف الأمريكي جون ديوي في كتابه «الوقت والفردية Time and Individuality» مفهومه للفن حيث اعتبر أن الفن ليس حكرًا على أولئك المعروفين بالرسامين، الكُتَّاب أو الموسيقيين، بل هو تعبير متجذر في كل شكل وفي أي شكل من أشكال التفرد. يتجلى هذا التفرد في أولئك الذين لديهم موهبة التعبير الإبداعي. فعندما يساهم الفرد في صناعة الفن، يصبح بهذا الإسهام فنان. في نفس السياق أورد الأديب الإنجليزي أوسكار وايلد في كتابه «روح الإنسان في ظل الاشتراكية The Soul Of Man Under Socialism»، مفهومه للفن قائلًا: «الفن هو أكثر أشكال الفردانية [2] قوة في العالم، بل إن الفن هو الشكل الوحيد الحقيقي للفردانية في العالم» قاصدًا أن كل ما يتفرد به الشخص عن غيره مِن الناس يُعد فنًا.
في منتصف القرن العشرين وعلى العكس من التوجه السائد لتعريف الفن، جادل عالم الجماليات والفيلسوف الأمريكي موريس ويتز عن أن محاولة الوقوف على تعريف معين للفن خطأ في حد ذاتها، لأن الفن والجمال ليس لهم ماهية معينة، بل تحكمهم النسبية وتعدد الآراء والأذواق والمفاهيم. يتفق مع ويتز في هذا المنهج بريس جوت.
في القرن الحادي والعشرون يميل العديد مِن النقاد والفلاسفة إلى استخدام تعريف مارسيل دوشامب [3] للفن كتعريف جامع حيث أن طول الجدل وتشعبه حول المفهوم لا يبشر بالوصول لتعريف محدد. يرى دوشامب أن الفن هو: «كل ما يقول عليه الفنان أنه فن».
وهكذا تطور، ولا زال يتطور، مفهوم الفن عبر التاريخ وقدمه العديد من الفلاسفة والفنانين في سياقات عدة. وعلى الرغم من كثرتها إلا أنها جميعًا لا تختلف على أنه شكل من أشكال التواصل. فالفن بمفهومه الشامل هو كل ما يعبر به الإنسان عن أفكاره ومشاعره بشكل يناشد أفكار وحواس الآخرين. بذلك، يندرج تحت عباءة الفن تقريبًا كل فروع العلم التي يحقق فيها الإنسان إبداعا وتقدما. لذلك فإن لدى الفنان شيئا ما ليقوله عبر عمله الفني؛ قد يحكي قصة؛ قد يجعلنا نختبر ما يمر به؛ قد يثير شعورًا أو يخلق من وحي خياله. ويندرج تحت عباءة الفن بهذا الشكل: النحت؛ الرسم، الأفلام، المسرحيات، الموسيقى، الرقص، الكتابة، الأزياء، العمارة.. إلخ.
ختامًا، قد يُعد الفن اكتشافا اكتشفه الإنسان ليعبر به عن نفسه أو فطرة لا يستطيع مقاومتها، صحيح أن أغراضه المتعددة ووظائفه التي لا حصر لها جعلت من الصعب تحديد ماهيته، إلا أن اللوحات والمنحوتات والنقوش على الحجر التي تعود إلى ما قبل التاريخ توضح أن رجل الكهف والذي لم يعرف أن فعله هذا يُعد فنًا، لم يكن دافعه لهذا الفعل مجرد رفاهية. بل حاجة مُلحة كحاجته للطعام والشراب.
[1] اشتهر الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو (11 سبتمبر/أيلول 1903- 6 أغسطس/آب 1969) بدراسته للفن والموسيقى وهو أشهر علماء الجمال في القرن العشرين.[2] توجه أخلاقي؛ سياسي؛ فلسفي يُعلي من قيمة الفرد.. كما يرى أن رغبات الفرد وإرادته يجب تلبيتها بغض النظر عن أي اعتبارات.[3] فنان سريالي فرنسي (1887- 1968) توجت أعماله الحركة الفنية في أوربا بعد الحرب العالمية الأولى.