«سنفطر في القدس»: ماذا لو شاهدنا إعلان «زين» عام 2000؟
غالباً ما نشعر – نحن مواليد التسعينيات – بقدر هائل من الحنين والسعادة حينما نلتقي صدفة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بأحد إعلانات هذه الحقبة الزمنية التي كنا فيها صغارًا، لم نتعدَّ السادسة. ولكن حالة النوستالجيا هذه تتحول تدريجيًا إلى حالة اكتشاف ثم اغتراب حينما يقابلنا على نفس الصفحة إعلانات تعود إلى فترة الثمانينيات، فهذه المنتجات لم نعهدها طوال حياتنا، وهذه اللغة والملابس والأغاني لم نشهدها قط.
هذا هو حالنا مع الإعلانات التي رغم كونها عملًا فنيًا يؤرخ لحقبته الزمنية من حيث اللغة والملبس والديكور والموسيقى والخط العام الناظم، فإن كل إعلان غالبًا ما يؤرخ لفترة زمنية شديدة الضيق، فهو يحمل الكلمات الشائعة والعبارات الدارجة على الألسن في هذا الوقت، والتي ربما تختفي خلال أشهر أو سنوات معدودة، وربما تتغير معانيها من الأساس.
هذا هو الحال مع إعلان شركة «زين» الكويتية لشهر رمضان 2018 «سيدي الرئيس» الذي أثار العديد من ردود الفعل المتناقضة تمامًا.
إعلانات زين الإنسانية
تأسست شركة زين عام 1983 في الكويت، تحت اسم شركة الاتصالات المتنقلة (إم تي سي)، كأول مشغل لخدمات الاتصالات المتنقلة في المنطقة، ومنذ عام 2003 حققت توسعًا سريعًا عبر منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا من خلال الاستحواذ على عدة شركات اتصالات متنقلة.
في سبتمبر/أيلول 2007، تحولت شركة الاتصالات المتنقلة (إم تي سي) إلى العلامة التجارية «زين»، وتم اعتماد هذه العلامة لجميع شركات المجموعة. وفي العام 2008 أصبحت رابع أكبر مشغل لخدمات الاتصالات المتنقلة على مستوى العالم من حيث الانتشار الجغرافي، حيث وصلت خدماتها إلى 15 دولة أفريقية و7 دول في منطقة الشرق الأوسط.
شركة زين مثل سائر العلامات التجارية، التي دأبت على استغلال موسم «شهر رمضان» الدعائي، لتقوم بإنتاج إعلان تلفزيوني جديد في هذا الموعد من كل عام. ولكن مؤخرًا، بدأت إعلانات زين في اكتساب طابع إنساني، عن طريق رواية قصص اجتماعية إنسانية بسيطة. ومنذ عام 2015، بدأت في تبني قضايا مجتمعية عالمية، تحمل طابعًا سياسيًا.
ففي عام 2015، تبنى الإعلان قضية اللاجئين العرب، وذكرت الشركة في توصيفها للإعلان أنه «أكثر من مجرد إعلان»، وأنه «عمل إنساني هائل يُدخل الفرحة على من حُرموا منها بعد أن شُردوا من ديارهم».
وقد ترافق هذا الإعلان مع تبني الشركة لعدد من المشروعات المجتمعية في الوطن العربي؛ كان منها المشروع الذي انطلق بالتعاون مع منظمة «لاجئون متحدون» و«لجنة الإنقاذ الدولية» وشركة «إريكسون»، وذلك لإعادة الاتصال بين الأسر في جنوب السودان، وهو مشروع تجريبي الهدف منه تمكين الأسر المشتتة من البحث عن أقربائهم المفقودين عن طريق الهواتف المتنقلة.
في عام 2017، كان الإعلان الذي تبنى قضية «مواجهة الإرهاب»، حيث أظهر الإعلان شخصًا انتحاريًا يتحداه ضحايا الإرهاب بشكل واسع في الشرق الأوسط. فيظهر في المشاهد الأولى رجل يصنع حزامًا ناسفًا، ويترافق ذلك مع صوت طفل يتحداه، وفتاة صغيرة تقول: «سأخبر الله بكل شيء، بأنكم ملأتم المقابر بأطفالنا وكراسي المدارس فارغة».
قضايا وشخصيات
باستثناء نقاط مُحددة، كان الطرح الإنساني والسياسي في إعلان زين لعام 2018 «سيدي الرئيس» واضحًا ومباشرًا، فلم يتم يتناول القضايا بشكل مجرد، ولكنه استدعى شخصيات سياسية، لمنح هذه القضايا تخصيصًا أكبر، وبُعدًا سياسيًا، قبل أن تدرك أن هذه الشخصيات باتت المحور الرئيسي الذي يدور حوله الإعلان ومُسماه.
ربما يرى البعض أن استدعاء شخصيات سياسية بعينها للإعلان قد أفقد الإعلان قيمة «الرمزية»، والتي غالباً ما تكون أكثر جذبًا للمشاهدين، بل تمنحهم تأويلات ومنظورات عدة، ليروا من خلالها الإعلان.
وعلى كل حال، فقد تناول الإعلان ست قضايا رئيسية، وظهر به ست شخصيات سياسية:
القضية الأولى كانت الصراع السوري، وذلك الدمار الذي لحق بحياة المجتمع هناك، وهنا استدعى الإعلان كلًا من الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» والرئيس الروسي «فلاديمير بوتين».
ثم كانت قضيتا اللاجئين والهجرة غير الشرعية، وهنا ظهر كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو.
القضية الرابعة التي استدعت رئيس كوريا الشمالية كيم يونغ أون لم تكن واضحة بالشكل الكافي، ولكن يمكن استنتاج أنها تدور حول مآسي الحروب بشكل عام، وتأثيراتها على الأطفال والمجتمعات، وذلك انطلاقًا من الاتهامات التي ينالها كيم بشأن تهديده للسلم والأمن الدوليين.
القضية الخامسة كانت اضطهاد مُسلمي بورما، وظهر خلالها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس.
أمّا القضية الأخيرة، والأكثر إثارة للجدل، فكانت القضية الفلسطينية ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتي كان بطلها أيضاً ترامب.
وفي ختام الإعلان، كان هناك ظهور شرفي خاص (أمام مسجد قبة الصخرة في القدس) لستة ممثلين عن دول المجلس التعاون الخليجي.
يمكن القول إن توظيف الشخصيات لم يكن منضبطًا بالدرجة الكافية، في سياق الرسالة التي يحملها الإعلان. فمن المفترض أن الطفل (بطل الإعلان) يعاتب في هدوء وإنسانية رؤساء الدول الكبرى بسبب مسئولياتهم عن الدمار الذي لحق بمختلف المجتمعات التي تناولها الإعلان، وتحديدًا ترامب وبوتين ويونغ، والذين بدا عليهم التأثر والندم، وهي الرسالة التي لا تسري على ميركل وترودو وغوتيريس، الذين أظهرهم الإعلان وهم يمدون يد العون للضعفاء والمضطهدين.
6 ملاحظات أولية
لا نريد تحميل مضمون إعلان زين أكثر مما يحتمل، ولكن كعادة القضايا السياسية فإن تناولها يستدعي بالضرورة تحليلًا دقيقًا لمحتواها، وبالتالي إصدار أحكام، قد تكون نقدية، ولاذعة في بعض الأحيان.
وهنا، نشير إلى عدد من الملاحظات الأولية، التي قد تفتح باب النقاش حول قضايا سياسية واجتماعية مركزية في وطننا العربي:
1. ارتكاز الإعلان على فكرة مخاطبة الرؤساء «سيدي الرئيس»، لإشعارهم بالندم على اقترفوا في حق الشعوب العربية، أو حتى لدعوتهم لنجدة الشعوب الإسلامية، إنما هو ارتكاز على فكرة «مركزية الفعل السياسي لذي السلطة»، وهو الأمر الذي يتناقض كليًا مع مبادئ الثورة والتحرر، وفي نفس الوقت يتماهى مع القيم السياسية التي تتبناها النظم السياسية في سائر دول الخليج. بمعنى آخر، إذا أردنا تغيير حياتنا وإنقاذ مستقبلنا، علينا استجداء مراكز القوى السياسية.
2. يتحدث الطفل (بطل الإعلان) إلى كل من ترامب وبوتين ويونغ، بأسلوب هادئ حزين، لا يحمل الغضب، وإنما يحمل لغة العتاب الإنساني الرقيق، وهي لغة أقرب إلى الاستجداء. وبالنظر إلى أنه يتحدث إلى أقطاب الصراع السوري، الذين ساهموا –بلا شك- في تحقيق المزيد من الدمار والضحايا في سوريا، ودفعوا اللاجئين إلى مختلف بقاع الأرض، فإنها لغة ربما تكون غير مناسبة في نظر الكثيرين.
3. مضمون الإعلان، من حيث البعد الإنساني، والتناول الهادئ البعيد كل البعد عن الهجوم والاشتباك السياسي الحاد، يتماهى إلى حدٍ بعيد مع السياسة الخارجية الكويتية، التي غالبًا ما تنأى بنفسها عن الدخول في حلبة الاستقطابات السياسية الحادة، وتحاول دائمًا لعب دور الوسيط، دون أن تكون طرفًا في النزاع.
4. ارتكز الإعلان بشكل مباشر على القضايا التي تهم الوطن العربي وكذلك العالم الإسلامي، سواء في سوريا أو فلسطين أو بورما، ولكن كان من المُستغرب وجود رئيس كوريا الشمالية، وهو غير ذي صلة بقضايا الوطن العربي. حقيقي أن دول الخليج قد اتخذت موقفًا معاديًا ضده، تماهيًا مع الموقف الأمريكي، ونتيجة التحالف الطبيعي بينها وبين واشنطن، إلا أنه لم يتورط في أي من القضايا التي تناولها الإعلان.
5. في ظهور شرفي ختامي خاطف، ظهر ممثلون عن الدول الخليجية الست أمام مدينة القدس، وذلك بجوار بطل الإعلان ومعه طفلة فلسطينية قد حررها للتو، ويشير هذا المشهد –رمزيًا- إلى وحدة السياسة الخليجية ودورها الإيجابي في دعم القضية الفلسطينية، وهذا الأمر تحديدًا أصبح مثار خلاف واضح في الشارع العربي مؤخرًا، خاصةً في ظل المواقف الخليجية –وكذلك العربية بشكل عام- المهادنة تجاه «إسرائيل»، حتى في ظل اشتداد آلة القتل الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين.
6. «سنفطر في القدس… عاصمة فلسطين» هذه الجملة التي حركت مشاعر الآلاف ممنْ شاهدوا الإعلان، والذين لم يعتادوا مؤخرًا سماعها من وسائل الإعلام العربي الرسمي، كانت السبب في تأثرهم بهذا الإعلان، بل الإشادة به وبصُنّاعه، رغم تلك الملاحظات التي ذكرنها آنفًا بشأن أسلوب التحدث المُهادن تجاه ترامب، الذي اعترف لتوه بالقدس عاصمةً لـ «إسرائيل».
وهذا الأمر يعبر بوضوح عن طبيعة المرحلة التي تعيشها القضية الفلسطينية، حيث إن مجرد ذكر إحدى بديهيات العرب والقضية على تليفزيون عربي أشعر الرأي العام بالرضا، ولربما الانتصار.
وبالتأكيد فإن وجهة النظر هذه تحمل وجاهة مقبولة، خاصةً في ضوء السياسات الخليجية تجاه القضية. ولكن، تخيل أنك تعود بالزمن 18 عامًا، وبالتحديد سبتمبر/أيلول 2000، حيث انفجار الانتفاضة الفلسطينية، وانتفاض الرأي العام العربي انتصارًا لها. صحيح أن المواقف العربية الرسمية لم تؤثر بفاعلية على الوضع في فلسطين حينئذ، لكنها على أقل تقدير كانت أكثر حدة على مستوى الخطاب السياسي.
بالتأكيد لم تُحرك الأنظمة العربية جيوشها عام 2000 لنصرة فلسطين، ولكنها تركت العنان للإعلام الرسمي، فظهرت أغانٍ مثل «القدس هترجع لنا» و«الحلم العربي»، والتي انتقدت بلغة واضحة وقوية الصمت العربي وجيش الاحتلال والولايات المتحدة، بل استخدمت مفاهيم الثورة والمقاومة والاستشهاد.
تخيل وأنت تستمع لهذه الأغاني، التي تُلهب المشاعر، وقد تدفعك للسفر إلى فلسطين للانضمام إلى المقاومة، كما فعل بعض شباب هذا العصر… تخيل أنه حينما تُغيّر المحطة التليفزيونية، تقع عينيك على إعلان زين، الذي يكتفي بالقول إن «القدس عاصمة فلسطين» .. تخيلت!