هوس التكتيك: ماذا لو استعدنا حقبة مودرن سبورت الذهبية؟
إذا كنت متابعًا قديمًا للدوري المصري الممتاز، فبكل تأكيد تتذكَّر العبارة أعلاه، كما تتذكَّر الوصلة الكوميدية التي تلتها من عناصر الاستوديو التحليلي، المكوَّن من «مجدي عبد الغني»، «أيمن يونس»، «إبراهيم يوسف»، الذين جلسوا في ضيافة جنرال الإعلام المصري «مدحت شلبي».
في ذلك الوقت كانت البرامج الرياضية تقوم بدورها على أكمل وجه، تناقش القضايا وتحلل المباريات من منطلق الترفيه؛ الذي لا يمانع الاستماع لآراء -وأحيانًا نكات- «رجب جمبر» و«حيدر الدبَش» أصدقاء البرنامج بكل تواضع، دون أن يستشعر أحد أي حرج.
والسؤال: متى نبت في وادينا هذا القدر من الرغبة في التحلي بالجدية عند الحديث عن كرة القدم المصرية؟
المُتهَم الأول: وسائل التواصل
كانت ولا زالت وسائل التواصل الاجتماعي المتهم الأول، وأحيانًا الوحيد، في كُل القضايا التي تبرُز على الساحة في العقد الأخير، ومنها القضايا الرياضية بكل تأكيد.
بعد حقبة طويلة من الجلوس أمام شاشات التلفزيون اضطرارًا، وجَد البعض نفسه أمام فرصة مثالية لاكتشاف آفاق جديدة، بل الإدلاء برأيه، والأدهى إمكانية اكتسابه لمؤيدين مع الوقت، إذا ما شاركوه الرأي.
عند هذه اللحظة أدركت فئة من الشباب المولع بتفاصيل كرة القدم أن تحليلات «عواجيز» الشاشات الصغيرة ما هي إلا محض هراء، وأن تحليل مباريات كرة القدم علم يستدعي الدراسة. ومن هنا بدأ كل شيء.
ظاهرة انتقاد المحللين في العموم ليست حكرًا على مجتمعنا العربي، لكنها فكرة تكوَّنت كرد فعل طبيعي على سحب المساحة الخاصة بأصحاب المدرسة الكلاسيكية في تحليل كرة القدم؛ هذه المدرسة القائمة على القوالب المحفوظة، والعبارات البسيطة التي تجد طريقًا لعقل المشاهد العادي.
في مارس/آذار 2021 خصص الاسكتلندي «جيم وايت»، أحد شيوخ الإعلام البريطاني، عمودًا كاملًا في صحيفة «تليغراف» لانتقاد من وصفهم بالشباب المهووس بالإحصائيات، تحديدًا إحصائية «الأهداف المتوقعة»؛ لأنها، حسب وجهة نظره، لا تُضيف أي جديد لكرة القدم، سوى أنها تدفع شبابًا لاختلاق سيناريوهات خيالية لم تحدث بالفعل على أرض الملعب.
وبغض النظر عن نوايا «وايت» وغيره، وسطحية استعراضهم لاستخدام الإحصائيات بشكل عام في كرة القدم، فالحقيقة هي أن أعتى مدربي كرة القدم يولون اهتمامًا لمثل هذه الإحصائيات، بل يستخدمونها أحيانًا لشرح الأسباب التي أدت لنتائج أي مباراة.
مايكل كوكس وآخرون
يعد «مايكل كوكس» أحَد رواد التحليل التكتيكي الرقمي، ليس لأنه من ابتدعه، لكن لأنه نجح ببساطة في نقل عمله من مدونة شخصية لمجموعة من أكبر صحف ومجلات الرياضة في العالم.
وكغيره من المدونين الشباب، يمتعض «كوكس» من محللي الشاشات الصغيرة؛ لأنهم يصرون على استخدام نفس المصطلحات البائدة دون مراعاة السياق.
في 30 أبريل/نيسان 2019 كان «كوكس» على موعد مع مناقشة حامية مع «جرايم سونيس»، لاعب ليفربول الأسبق، الذي قرر من تلقاء نفسه أن يبدي استنكاره من الحديث المستمر عن التكتيك. حسب «سونيس»، لعبة كرة القدم بسيطة للغاية؛ على اللاعب أن يصِل للكرة أولًا، ومن ثَمَ يمكن الحديث بعد ذلك عن التكتيك.
يعتقد «كوكس» أن الأزمة الحقيقية تكمن في افتراض أصحاب المدرسة الكلاسيكية في التحليل أن التكتيك يتناقض مع سمات لعب كرة القدم مثل الرغبة أو اللعب بحماس.
فمثلًا، يرى كوكس أن أسلوب كلوب في الضغط العكسي، عن طريق بذل جهد مضاعف للفوز بالكرة في منتصف ملعب الخصم، هو مجرد توجيه تكتيكي لسمات مثل الدافع والشغف والرغبة، وليس نقيضًا لها.
بناءً عليه
نجح الكاتب الرياضي«جون نيكلسون»، مؤلف كتاب «هل يمكننا استعادة كرتنا؟» في الحصول على تفسير منطقي لتصدُّر أمثال «سونيس» و«وايت» وغيرهما للمشهد الرياضي على حساب من هم أكثر تخصصًا، مثل «جوناثان ويلسون» و«مايكل كوكس» و«جابرييل ماركوتي».
نقل «نيكلسون» على لسان أحد العاملين بقطاع إنتاج البرامج الرياضية في إنجلترا أن أغلب المشاهدين لن يجدوا أي متعة في مشاهدة ضيف لم يسمعوا به من قبل، حتى إن كان متخصصًا، على عكس الإثارة التي قد يقدمها «روي كين»، نجم مانشستر يونايتد الأسبق، حين يصف لاعبًا بالكسول الذي يستحق ركلة أسفل ظهره.
باختصار، يريد المشجع العادي وجبة سهلة الهضم؛ لأن ثقافة أغلب مشجعي كرة القدم قد لا تهتم بالتفاصيل، لذا لا يُمكن المخاطرة بعزوف قطاع عريض من البشر عن مشاهدة هذه البرامج، حتى إن كان المبرر تقديم الحقيقة بشكل موضوعي.
ردًّا على ذلك
بشكل ما تحول المشهد الإعلامي الخاص بكرة القدم في العالم بأسره لصراع بين طرفي النقيض؛ فئة تشاهد كرة القدم من برج عاجي، وأخرى لا تتوقف عن البحث عن التفاصيل، حتى إن كان لا وجود لها. وبشكل ساخر، قد تسقط الفئة الأخيرة في فخ اللاموضوعية، أو ما يمكن وصفه بليِّ عنق الحقيقة. فكيف يحدث ذلك؟
في الغالب يميل قطاع عريض من المحللين الجدد إلى البحث عن أسباب لكل ما يحدث داخل الملعب، ومدى تأثيره على نتيجة المباراة، لأن الرضوخ للعوامل العشوائية مثل الرغبة والحماس وأحيانًا الحظ يعني بداهةً انتصار المعسكر الآخر، الذي يجب ألا ينتصر.
شهد نصف نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2019 قلب كل من «ليفربول» «وتوتنهام» الإنجليزيين تأخرهما في الذهاب لانتصار ملحمي على «برشلونة» الإسباني و«أياكس الهولندي» بالترتيب. وتحت ضغط النتيجة سقط البعض في فخ المبررات التكتيكية الوهمية. وكان «توني هودسون»، رئيس قسم المحتوى بموقع «Coaches Voice» الذي يقدم سلسلة «Masterpiece» التكتيكية الشهيرة، أحد هؤلاء الذين سقطوا في فخ التحليلات الوهمية.
في تحليله لمباراة «توتنهام وأياكس»، أشار «هودسون» إلى أن التصميم الانسيابي لخط هجوم «السبيرز» بشوط المباراة الثاني بعد إجراء «ماوريسيو بوتشيتينو» لبعض التعديلات ساعد الفريق على الظهور بشكل أفضل، ومن ثم تحقيق الفوز. في حين أرجع أحد أسباب تفوُّق «ليفربول» على «برشلونة» إلى التوظيف الجيد للهولندي «جورجينيو فينالدوم» بالقرب من مرمى الفريق الإسباني. وفي الواقع تبدو هذه التحليلات للوهلة الأولى منطقية، لكنها فقط “وهمية”.
في الواقع، لم تكن انسيابية خط هجوم «توتنهام» متعمدة، فطبقًا لتصريحات الدنماركي «كريستيان إيركسن»، لاعب الفريق آنذاك، تخلى الفريق بأسره عن التكتيك، واستبدل به الروح القتالية من أجل تحقيق الفوز. أما بالنسبة إلى «فينالدوم»، فقد أوضح اللاعب في تصريحات موثقة أنه كان غاضبًا من بقائه على مقاعد البدلاء في هذه المباراة، وقرر فور نزوله أرض الملعب أن يتجاهل تعليمات المدرب تمامًا ويركض تجاه مرمى «برشلونة».
نهايةً، فالمشاهد نفسه ليس طرفًا في هذا الصراع، والحقيقة المُجرَّدة هي أن كرة القدم -بالنسبة إلى الجمهور العادي- منتج استهلاكي غرضه الترفيه، وإذا ما غضضنا الطرف تمامًا عن كل ما تم سرده أعلاه، ربما يجد الكثير من المتابعين متعة حقيقية في الاستماع لكوميديا «مدحت شلبي» ورفاقه، مقارنة بتلك الناتجة عن الاستماع لـ «مايكل كوكس» أثناء تحليله لفشل «مانشستر سيتي» في تطبيق الضغط العالي.