ماذا لو لم تغزُ (الولايات المتحدة) العراق!
المعروف لدى عشّاق الألعاب الإلكترونية -نخصّ منها ألعاب الحروب-، أن تضغط زر التسجيل (Save Button) قبل أن تقدم بجيشك ودولتك على غزو غير مضمون العواقب لدولة أخرى تعاديك. فإذا لم تنجح في مسيرتك لم تبدأ من الصفر، هذا ليس ممكنًا على أرض الواقع لكن دعنا نتناول ما خلّفته الحرب الأمريكية على العراق من هذا المنظور.في الحالة التي نحن بصدد التعرض لها في ذكراها الثالثة عشر، الغزو الأمريكي للعراق، كيف تغيرت خريطة العالم على خلفية حرب عالمية مدمرة راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين من الجانبين؟، ألم تبدُ الأمور وكأنها تسير في الطريق الخطأ -فقط- بعد أشهر قليلة من الغزو؟، لا سيما وأن الغطاء الجليدي الذي فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها – من عزمهم تخليص العالم الحر والمنطقة من ترسانة أسلحة دمار شامل عبّأها صدام حسين- أخذ في الذوبان سريعًا؟.بالعودة للألعاب الإلكترونية، ماذا لو سجلت الولايات المتحدة حالة ما قبل الحرب في قرصها الصلب، تخيّل معي كيف كان شكل العالم ليبدو بعد ثلاثة عشر عامًا من الغزو؟، وماذا عساها تكون الخيارات الأمريكية الحالية تجاه أزمات العالم المتلاحقة؟.
سقوط الجدار العازل
نتناول أزمات الشرق الأوسط ابتداءً، حتى قبل أن نتطرق لطرفي الحرب، نظرًا لأنه الأكثر تضررًا وفشلًا بعد سقوط العراق. حتى أن بعض المؤرخين يتناولون الحقبة العربية على جزأين؛ ما قبل غزو العراق وما بعد الغزو!، إشارةً إلى التمايز الكبير وكأنهما حقبتين منفصلتين من الزمن.تناول بعض المنظّرين السياسيين -قبل الحرب- سياسة الاحتواء المزدوج (Dual containment) كمشكلة تحتاج لحل، فكيف للولايات المتحدة أن تدير صراعًا ثنائيًا بين غريمين كلاهما عدوٌ للولايات المتحدة؟، (العراق وإيران) والتي استمرت الحرب بينهما لثمان سنوات متواصلة في إطار رغبة الإدارة العراقية تقويض الثورة الإيرانية بعد عام واحد فقط من اندلاعها خوفًا من شعارات تصدير الثورة التي لطالما نادى بها الإيرانيون.الآن وبعد ثلاثة عشر عامًا من الغزو تبين لكل ذي عقل أن سياسة الاحتواء المزدوج كانت الحل وليست المشكلة في إطار إبقاء الأطراف المتصارعة تحت السيطرة الأمريكية بعيدةً عن التوحش.محا الغزو الأمريكي بلا شك الدور الإقليمي الفاعل الذي كانت تلعبه الدولة العراقية في حفظ التوازن بالمنطقة، وباتت الكفّة الأرجح من حيث القوة من نصيب إيران المعادية للولايات المتحدة في ظل تراجع الدور العربي إزاء بغداد وإزاء قضايا المنطقة المحورية.لا يقتصر النفوذ الإيراني على العراق وحسب، فالعراق كانت الجدار العازل أمام التغول الإيراني جنوبًا في الدائرة الخليجية الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية والحلقة الأضعف على رقعة الشطرنج التي نحاول ترسيمها في هذه الفقرة.القلق الإيراني تجاه الغزو العراقي كان حقيقيًا، فإيران وحلفاؤها في سوريا ولبنان يخشون مواجهة الولايات المتحدة عن قرب، من النقطة صفر؛ من العراق!.
لكنهم في ذات الوقت كانوا بين مطرقة صدام وسندان أمريكا، وكانوا دائمًا ومنذ الثورة متهيئين للحرب والمواجهة، فحرب الثمان أعوام لم تكن عرضًا مسرحيًا.
راجع كلمة الرئيس السوري في الجامعة العربية، تعقيبًا على الغزو الأمريكي.
وبينما أمنت الولايات المتحدة أخطار نظام صدام وتجاوزتها، وأسقط المقاتلون الأمريكان تمثال الرئيس الراحل في مثل هذا اليوم من العام 2003م (التاسع من إبريل/نيسان)، حتى تورطوا في محاولة ترميم النظام السياسي العراقي الداخلي ومساندة حكومته المهترئة من جهة، وبين محاولات التصدي المستمر للنفوذ الإيراني المتزايد من الجهة الأخرى. وتمكنت الأخيرة من اغتنام أغلب الفرص التي أُتيحت لها في السنوات التي أعقبت الغزو بفضل عوامل داخلية وخارجية، أبرزها الخطاب القومي الذي تبناه أحمدي نجاد، وفوز حماس بالانتخابات في غزة، إضافة للأداء العسكري الذي قدمه حزب الله عام 2006م في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.في هذه السنوات توسعت إيران بحسب مهد دراسات الحرب ISW، في تكوين شبكة علاقات تستطيع من خلالها تمرير مستشاريها الأمنيين لتدريب فرق وميليشيات شيعية تكون قادرة بنهاية المطاف على عرقلة النفوذ الأمريكي في العراق وردع دول التحالف، كإجراء وقائي يعكس الخوف الإيراني من الاحتلال، وكذلك النية المبيتة لشغل الفراغ السياسي والعسكري في العراق. وكان في مقدمة الصفوف وحدات الحرس الثوري الإيراني، وبالتحديد فيلق القدس، وكذلك حزب الله اللبناني، وكأن الساحة العراقية باتت أرضًا خصبة لحسم المعارك الجيوسياسية في المنطقة.عودًا على بدء، لو أن الحرب لم تقع، هل كانت إيران بهذا التوحش الذي هي عليه الآن؟، وهل كانت فرق الحرس الثوري الإيراني والحوثيين وحزب الله والمجموعات الشيعية في الخليج على هذه الدرجة من الكفاءة في إثارة القلاقل وتحريك المياه المستقرة في جداولها؟.
هل كانت حرب العراق الفتيل الأول الذي اشتعلت منه ثورات الربيع العربي؟
بحسب الدعاية الأمريكية، جاء الجيش الأمريكي لإرساء قواعد الديموقراطية في العراق، وتخليص العراقيين من حكم الفرد الواحد، هذا بالإضافة إلى العثور على أسلحة الدمار الشامل العراقية. حتى أن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن تعهد للكونجرس في كلمةٍ مباشرة في الثالث من فبراير/شباط لعام 2005م بأن القوات العسكرية الأمريكية باقية حتى يكون هناك عراق ديمقراطي مسالم في إطار مساعي الرجل لإرساء دعائم الديمقراطية بقوة السلاح.والحقيقة التي لا خلاف عليها، أن الحرب العراقية خففت من وطأة التوصيات الأمريكية للحلفاء العرب بتوفير مناخ ديمقراطي للشعوب العربية والمجتمعات المدنية لنيل المساعدات الأمريكية، فالولايات المتحدة تورطت في حرب العراق وانشغلت بها عما سواها، حتى عن استخدام عصا الإصلاحات السياسية في مواجهة الرؤساء العرب.بحسب تقرير لمؤسسة راند RAND الأمريكية فإنه من الآثار الملموسة لحرب العراق إيقاف الضغوط الأمريكية الهادفة للإصلاح السياسي العربي. وأشار ذات التقرير إلى أن المناقشات التي أثارتها المؤسسة مع النشطاء والإصلاحيين في منطقة الخليج والشرق خلصت إلى أن عام 2003 كان نقطة تحول في الإصلاح السياسي العربي، مع شعور الحكام السلطويين بأن الاهتمام الأمريكي بشئونهم الداخلية قد انخفض، كما أصبح هناك عذر مقبول فيما يتعلق بالإجراءات الوقائية ضد حركات المقاومة الإسلامية وحتى جبهات المعارضة غير الإسلامية، وباتت الحرب على الإرهاب عذرًا مقبولًا لإلقاء القبض على أعداد كبيرة من المعارضة الوطنية. غير أن الحرب أسبغت على الحكام العرب حبًا شعبيًا بدرجة ما حصيلة الخوف، وربما صارت الديمقراطية في أعين الكثيرين مشروعًا أمريكيًا تفرضه قوة السلاح!.ويمكن إجمال ما سبق في اكتساب الحكام العرب لنقطتين إجابيتين من الحرب؛ أولهما: الانغماس الأمريكي في الأزمة العراقية وتخفيف الضغوط على الحكام العرب. وثانيهما: اكتساب هؤلاء الخكام لشرعية الحفاظ على وحدة البلاد وتماسكها في مواجهة مشروع أمريكا الاستعماري.
-تُرى لو لم تكن الحرب، واستمرت الإصلاحات السياسية الجزئية الضئيلة، هل كانت ثورات الربيع العربي لتشتعل بهذه القوة؟،-ربما لا.
العراق وأفغانستان اثنان، والجلاد واحد!
لا أحد ينكر أن الحرب على العراق كانت وثيقة التأثير على أفغانستان؛ فالجلاد واحد. ويمكن باختصار أن نجمل هذا التأثير في نقطتين: أولهما أن غزو العراق بلا شك شغل الجانب الأعظم من الاهتمام الأمريكي في المنطقة، إضافة لتفتت الموارد الأمريكية التي كانت قبل الغزو موجهة بالكامل لمحاربة الحكومة الأفغانية (طالبان)، النقطة الثانية أن الحرب على العراق أفقدت الحرب على طالبان جزءًا كبيرًا من شرعيتها كحالة منعزلة تحارب فيها الولايات المتحدة إحدى بؤر الإرهاب الأخطر في العالم كما ادّعت؛ إلا أن الحرب العراقية حددت ملامح جديدة للصورة الكلية في المنطقة في إطار محاولة أمريكا بسط هيمنتها على الدول العربية والإسلامية من خلال سلسلة من الحروب انفرط عقدها بأفغانستان والعراق تتبعها دول أخرى على عداء مع المصالح الأمريكية بالمنطقة كإيران.الحقيقة أيضًا أن ما سبق وذكرناه، لاسيما النقطة الأولى التي ظهرت فيها طالبان وكأنها المستفيد الإستراتيجي الأول من الحرب، ليست بهذه الدقة، فلو فرضت الولايات المتحدة حربها في أفغانستان كأولوية على سائر المخططات الأمريكية في السنوات الماضية لما كانت النتيجة انتهاء عصر طالبان واستئصال جذورها، فالجذور البنيوية لطالبان أكثر تعقيدًا من ذلك. لكن بالطبع ستكون النتائج الأمريكية في أفغانستان على نحوٍ أفضل في حال لم تحدث الحرب على العراق.
كيف مهّد بوش الطريق لمجيء أوباما؟
لا يمكن تناول الأثر الذي خلفّه الغزو العراقي على الساحة الدولية والإقليمية دون الإمعان فيما أحدثه من تغير في البنية العسكرية والاجتماعية الأمريكية؛ طرف الصراع الأقوى. إذ يجادل خبراء عسكريون أمريكيون في أن الحرب أبطأت الأبحاث العسكرية التي كانت القيادة المركزية الأمريكية توليها اهتمامًا كبيرًا قبل الحرب، إذ كان بإمكان الجيش الأمريكي بحسب مستشارين عسكريين أن يمتلك أسطولًا أكبر بكثير من طائرات F-22S أمريكية الصنع والتي دخلت الخدمة العسكرية لأول مرة في ديسمبر/كانون الأول 2005. أضف لذلك أن الأسطول البحري الأمريكي كان من المتوقع له مع بداية القرن الحالي أن يطور مزيدًا من المقاتلات البحرية ذات الصواريخ الموجهة والمتعددة المهام من نوع زوموالت «Zumwalts»، ومن المتوقع ألا تحتفظ القوة الأمريكية البحرية بسيادتها المطلقة في ظل سعي دول أخرى لتطوير إمكاناتها في هذا المجال كجمهورية الصين الشعبية. لاشك أن وزارة الدفاع الأمريكية خرجت من الألفية الماضية بعدة مشاريع عسكرية تضمن لها التفوق العسكري أمام روسيا الاتحادية وحلفائها، وهو ما اعتمدته وزارة رامسفيلد -وزير الدفاع الأمريكي في الفترة ما بين 2001 و 2006- قبل أن تعرقلها الحرب العراقية وتخرجها عن مسارها.لنعد إذن بالأمور إلى نصابها الصحيح -فيما يخص المجال العسكري- في هذه المقاربة الصعبة، فطبيعة الحروب أنها تكشف للمرء سوءاته من الناحية التكتيكية والتسليحية؛ وعليه فإن الحرب الأمريكية على العراق كشفت للقيادة الأمريكية نقاط الضعف والقوة، والتي قادت الإدارة الأمريكية لتدشين مشاريع عسكرية نوعية في أعقاب الحرب.
أما على صعيد الأثر الاجتماعي، فقد أُصيب المجتمع الأمريكي بلا شك بصدمة كبيرة من جرّاء الحرب، تغير على إثرها الموقف الجمعي الأمريكي تجاه خيارات الحرب واستخدام القوة خارج الحدود الأمريكية، وهو الذي بدا أكثر تحمسًا للخيار العسكري في فترة ما بعد الحرب الباردة، لكن على نحو كبير غيّرت الحرب العراقية هذا التوجه.اليوم ونحن نشهد سباق الرئاسة الأمريكي، لننظر كم من المرشحين يدعم الحرب البرية على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام؟ّ.الرئيس أوباما فاز في الانتخابات عام 2008م عن الحزب الديموقراطي، لمعارضته الحرب على العراق في حينها، وهو الذي بدا جليًا في طريقة إدارة الرجل للأمور المشتعلة في العالم وتحديدًا في الشرق الأوسط. نحن في هذه السطور لسنا بصدد تقييم أداء الإدارة الأمريكية تحت مظلة أوباما بالطبع، لكننا على أية حال ننوّه لحالة النفور الشعبية والنخبوية تجاه الحرب والتي كان السبب فيها غزو العراق.
أمّا فيما يخص الحالة العراقية الداخلية فسنفرد لها مقالًا ضمن الملف الذي تنشره «إضاءات» تباعًا في ذكرى الغزو.