إذا أرسلت عينك في ثنايا الشرق الأوسط قد ترى هذا الخراب الذي حل بالمنطقة؛ انهيار أنظمتها واضطراب مجتمعاتها. فبُعيد الربيع الذي استحال خريفًا نكدًا اتجه النسق العربي والشرق أوسطي نحو الانهيار من داخله، والصراع بين مكوناته. وبدلًا من بشرى الغيث والارتواء بُعثت النذر، وكأن العرب يقولون هذا ليس خرابًا، بل الخراب ما سيجيء.

في هذه المقالة نناقش جانبًا واحدًا من سيناريوهات عديدة محتملة للتصعيد الواقع بين إيران ودول الخليج والولايات المتحدة. فبالرغم من وجود شواهد على انحسار الأزمة بتخفيض اللهجة من الولايات المتحدة وإيران ودول الخليج، إلا أن التصعيد على أرض الواقع لم يحدث بعد خصوصًا وأن العقوبات الأمريكية وهي الأسوأ على إيران في مرحلة داخلية حساسة ما زالت قائمة.

فتيل الأزمة لن يُنزع بالكلمات المنمقة والدبلوماسية المفتعلة، ومن الواقعية التاريخية يجب التعامل مع جميع السيناريوهات على أنها ممكنة مهما استُبعدت، ومن هنا ننطلق في هذه المقالة: «ماذا لو وقعت الحرب؟ ما النتائج الأولية؟ ما إستراتيجية دول المنطقة؟» ومن نافل القول أن رسم السيناريوهات لا يعني احتكاريتها للحقيقة فهي جزء من نماذج مختلفة ومتعددة، غرضنا الأوّلي هو أن نثير الأسئلة ومن ثمّ نوجد لها الإجابات.


هل تستطيع إيران غلق مضيق هرمز؟ وكيف؟

في مايو/ أيار 1984 قامت طائرات إف-4 فانتوم تمتلكها إيران بقصف ناقلات نفطية سعودية وكويتية خلال حرب الخليج الأولى. أشعلت هذه الحادثة -حرب الخليج وما تلاها (ما يعرف بحرب الناقلات)- أسعار النفط عالميًا. حدث ذلك عبر إتلاف 500 ناقلة نفط.

يمكن لإيران أن تضر بالملاحة في مضيق هرمز عبر نشر ألغام بحرية من خلال القطع البحرية الإيرانية، ما يهدد أمن الخليج مع وجود الأسطول الخامس الأمريكي، وعمليات الاستهداف تلك قد تؤثر على عمل المضيق لكنه لن يكون خارج الخدمة تمامًا، خصوصًا مع غياب السيطرة الجوية، فإيران تفتقد القدرات الجوية الأمريكية والخليجية، التي تتخذها الأخيرتان كوسيلة حمائية لحركة الملاحة.

تعتبر معضلة غلق مضيق هرمز، وهو الثاني أهميةً عالميًا ولدول شرق آسيا بعد مضيق مالقا، معضلة سياسية بامتياز، فتكلفته عالية جدًا وهي مخاطرة قد تشي بنذر حرب عالمية جديدة في أسوأ تقدير. ولجوء إيران لهذا الإجراء يكاد يكون مستبعدًا، نظرًا لأنه أخطر كروتها الإستراتيجية ولن تلقي به إلا في حالة بدء هجوم شامل ضدها. فطالما لم تبادر الولايات المتحدة بخيار الحرب فلن تستخدمه إيران.


ما النتائج المترتبة على غلق المضيق؟ هل من حرب عالمية؟

توضيح للقدرات العسكرية الإيرانية

يعتمد أكثر من نصف الاقتصاد الصناعي لكوريا الجنوبية على النفط القادم من مضيق هرمز، كذلك الصين تعتمد بشكل أساسي على النفط الإيراني، وأغلب النمور الآسيوية مركز الاقتصاد العالمي وثقله النوعي بعد الولايات المتحدة، وعلى أبسط مثال فإن تراجع نمو الاقتصاد الصيني لعام 2019 كان كفيلًا بإحداث هزات في أسواق المال العالمية.

من المهم لفت الانتباه إلى أن غلق المضيق يعني توقف حركة 18 مليون برميل يوميًا، أكثر من 60% منها ذاهبة لدول شرق آسيا، واشتعال أسعار النفط بما قد يتجاوز حاجز الـ 200 دولار للبرميل، بل قد تصل إلى أرقام غير مسبوقة. وفي السيناريو القريب فإن سعر النفط قد يبلغ خلال الأيام القادمة 100 دولار، بالرغم من وجود إجراءات حمائية خليجية، لن تكون كافية -على الأغلب- في احتواء الآثار المترتبة على الأزمة.

فمن الجدير بالذكر أن دول الخليج كانت تستعد لتلك الحرب المؤجلة من الثمانينيات، وقامت ببناء خزانات ضخمة في الغرب ومد خط نفطي 1200 كم لنقل 5 مليون برميل يوميًا للشرق وشحنها عبر قناة السويس، مع نشر منظومات صاروخية باتريوت وأنظمة دفاعية حول مناطق استخراج النفط في الشرق. وبسبب تهديد الحوثي للملاحة في باب المندب، فقد قامت السعودية بعمل مشروع ضخم لمد النفط عبر أنابيب لميناء نشطون بمحافظة المهرة اليمنية، وفي المقابل قامت ببناء خزانات ضخمة لحفظ احتياطي نفطي خارجي بكوريا الجنوبية.

أما الإمارات فقد مدت خطوط أنابيب بطول 406 كم من أبوظبي إلى الفجيرة المطلة على خليج عمان، وأنشأت فيها خزانات ضخمة تستوعب 70 مليون برميل لحفظ احتياطي نفطي بعيد عن مضيق هرمز. وبالرغم من ذلك استهدفت الناقلات النفطية بمياه الفُجيرة، وربما من هنا تأتي خطورة الأحداث الحالية. وبالرغم من أن الكويت تمتلك حماية خاصة لمنشآتها النفطية، إلا أنها الأكثر عرضة لتهديدات الحشد الشعبي والذي نعتقد بأن الحرب لو دقت طبولها فعلًا فستكون شرارتها الأولى من الكويت.

وللجواب على تساؤل هل يمكن أن تقع بسببها حرب عالمية، ففي السؤال السابق أجبنا متى ستتخذ إيران قرارها حيال غلق مضيق هرمز، وهو حين تستهدفها الولايات المتحدة بضربة شاملة وهي مستبعدة على حسب محللين كُثر؛ لأنها الحالة التي قد تؤدي لانهيار أسواق شرق آسيا وربما لحربٍ شاملة، لذا فإن السيناريو المحتمل هو عدم وجود حرب مباشرة صفرية وإنما حرب على جبهات مثل؛ العراق، الكويت، اليمن، البحرين، المنطقة الشرقية، ستكون نتيجتها دخول القوات الأمريكية بثقل أكبر لحماية آبار النفط في الخليج وهذا ما قد يؤجج الوضع.


لماذا الحوثي والحشد الشعبي رأس حربة الهجوم الإيراني؟

تأتي إستراتيجية إيران بعد حرب الخليج الأولى بينها وبين العراق، على ثلاثة مستويات رئيسية:

  • تطوير القدرات الصاروخية قريبة ومتوسطة وطويلة المدى «ما زال العمل ساريًا على صاروخي شهاب-5 (5000 كم) و شهاب-6 (10000كم)».
  • رفع قدرات البحرية في الخليج العربي.
  • الاعتماد على الميليشيات والمشكلات الطائفية والمجتمعية للدول المحيطة أو المعادية في الغرب.
القدرات الصاروخية لإيران

ومن هنا تأتي أهمية الحوثي والحشد، فأولًا كل ضرباتهم سواء ضد أرامكو أو السفارة الأمريكية لها عدة أهداف؛ أولها عدم استفزاز مشاعر العرب والسنة فصراع عربي عربي قد يفي بالغرض، وثانيًا تختبر إيران رغبة الولايات المتحدة للتصعيد، ثالثًا الصراع بالإنابة تكلفته أقل بكثير من الحرب المباشرة في الخليج، وأخيرًا عدم الرغبة في التصعيد المباشر خصوصًا وأن هدف إيران هو تحريك سعر البترول ليكون أداة ضد إدارة ترمب.

الأذرع الإيرانية في المنطقة

هل ستذهب أميركا إلى الحرب؟

أكثر الدول عداوة للولايات المتحدة

المرجح أن الولايات المتحدة لن تتجه نحو حرب النظام الإيراني بشكل شامل، خصوصًا وأن انتشار القوات الأمريكية وأسلحتها الإستراتيجية في المنطقة لا يؤهل لحرب إيران، لكن السؤال هل يمكن أن تذهب أميركا للحرب إذا تضررت مصالحها المباشرة؟

حتى الآن ما يزال الوضع يمكن وصفه بالهادئ، وحسب الإستراتيجية الأمريكية «التوازن خارج النطاق» فإن العملية الصراعية التي تزداد بين إيران والسعودية هي ما يرجوه صناع القرار الأمريكيون لضمان المصالح الأمريكية بمنطقة الخليج وربما الشرق الأوسط، وربما يوفر مناخًا طيبًا لتحقيق ما يعرف بخطة السلام بالشرق الأوسط «صفقة القرن»، وكذلك في حفظ التمايز للحليف الإستراتيجي الأهم إسرائيل في ظل تصاعد الصراع المصري التركي في الشرق المتوسط.

كانت سياسة إيران في التصعيد ضد الولايات المتحدة هي تحريك سعر النفط فوق 70 دولارًا للبرميل، فالعجز الأمريكي تجاوز هذا العام 1.09 ترليون دولار والعام المقبل يتوقع أكثر من 1.10 تريليون دولار، وهو الأضخم. ولن تحتمل الولايات المتحدة قفز النفط لأكثر من 70 دولارًا للبرميل، والأقرب أن إدارة ترمب لن تحتمل ذلك خصوصًا وأن لها سابقة بتأجيل إجراءات رفع التعريفة الجمركية بعد الحرب الاقتصادية الباردة التي وقعت بينها وبين الصين العام الماضي، مما دفع الدولتين للدخول في مفاوضات هذا العام، وهذا ما ينتظره ترمب ولا ترجوه إيران، كما أن خيار الحرب أمريكيًا يحتاج لحشد دولي ودعاية داخلية ما زالت ضعيفة، على الرغم من معاداة أكثر من 42% من الأمريكيين للنظام الإيراني.


لماذا حاملة الطائرات لينكولن وطائرات F-35؟

تأتي أهمية نشر إف-15 وإف-35 وأسطول لينكولن وقاذفات بي-1 لانسر لأهمية تأمين الخليج العربي، خصوصًا وأن السلاح الجوي الإيراني ضعيف. فأهمية هذه القطع السيطرة على الأرض عبر الجو، حيث يقتضي ذلك طائرات لديها قدرات عالية على المناورة الجوية لبسط النفوذ على الجو وهذا ما يتحقق في إف-15 و إف-35.

يأتي ذلك في إطار الحصار شبه المفروض على إيران وتقويض قدرتها على تهديد أمن حركة النفط والملاحة في مضيق هرمز، وهي أبعد ما تكون عن قطع ستشارك في توجيه ضربة قاصمة لإيران.


ما وضع دول الخليج إذا نشبت الحرب؟

ستكون الكويت والبحرين أولى الممالك التي ستنتهي في الخليج وستنهار سواء تحت ضغط تمرد الشيعة من الداخل، أو من جراء ضعف دفاعاتها أمام الهجوم الإيراني، كذلك الإمارات ستتضرر مع وجود أكثر من نصف مليون إيراني بداخلها لاسيما في دبي، وربما ذلك الحافز الأساسي لمحمد بن راشد لبذل جهد أكبر نحو التهدئة بالخليج.

أما السعودية فقد يتهرأ حكمها وقد يكتفي الحكم هناك بشرعية الصراع الفارسي العربي، ولكن تظل أزمة المنطقة الشرقية عائقًا حول رؤية مملكة متماسكة وقوية، وخصوصًا أن دول الخليج لن تتحمل أكثر من عام من الأزمات المالية، وبسبب تراجع بيع المواد النفطية فالأزمات الاجتماعية قد تفتك بها.


من سيكون صاحب النفس الأطول؟

الولايات المتحدة الأمريكية, إيران, أعداء

إن إيران تخوض أسوأ كوابيسها بعد تراجع بيع النفط والذي تعتمد عليه بأكثر من 70% من ميزانيتها، لذا فإن الصراع ليس رفاهية بل هو حفاظ عن الذات، ولكنها تعي عواقب التسرع.

لن يحتمل الخليج تبعات الحرب ونفقاتها لذا فإن أقرب السيناريوهات في حالة وقوع الحرب هو اختفاء تلك الأنظمة، وإن كانت المقاومة الإيرانية والظهير الآسيوي سيجعلها أكثر تحملًا إلا أن الموقف الغربي الداعم للسعودية كذلك سيضمن لها التحمل قليلًا، وستكون النتيجة أقرب لانهيار الاثنين. لو كان للمستقبل رسائل تأتينا، فأولها وأقربها إلى واقعنا هذا أن نظم ونسق الشرق الأوسط الحالي قد انتهت، وقد كتبت شهادة وفاتها إلا أن الجديد لم يولد بعد.