في لقاءٍ تليفزيوني شهير في شهر فبراير/شباط من عام 2004، في برنامج «الاتجاه المعاكس» المثير للجدل على شاشة قناة الجزيرة الفضائية، دارت مناظرة حامية الوطيس بين المفكر العلماني (التنويري) سيد القمني، والباحث الإسلامي كمال حبيب، حول علاقة المناهج التعليمية الدينية بالإرهاب. وخلال اللقاء الذي عبَّر فيه القمني عن الكثير من قناعاته الفكرية التي تتهم التراث الإسلامي في مجمله بأنه يعزز الإرهاب والكراهية، وتُعرَّض بالفتوحات الإسلامية المبكرة وترميها بالعنف والإجرام، ذكر القمني أنه ينتسب لفرقة تراثية إسلامية شهيرة، هي المعتزلة، وبعد وفاة القمني مطلع فبراير/شباط الحالي 2022، ساد في ديباجات نعيه في العديد من المواقع العربية، وصفه بأنه ينتمي إلى المعتزلة.

لم يكن القمني استثناءً بين التنويريين العرب في ادعاء الانتساب للمعتزلة، أهل العقل في الإسلام، كما وصفهم تنويري شهير إعلاميًا، هو إسلام بحيري، الذي أُفرِدَت له خلال الأعوام الماضية مساحات واسعة في عدة قنواتٍ مصرية، تحت شعارات التنوير، والتجديد الديني، خصَّص من خلالها مساحة جيدة للحديث عن المعتزلة،وشرح أصولهم الفكرية. كذلك تطالعنا من حين لآخر مقالات عربية تصف المعتزلة بأنهم فرسان التنوير العقلاني في الإسلام.

لكن ما مدى تطابق أو تشابه فكر مدرسة المعتزلة مع أفكار التنويريين العرب؟ وما هو رد فعل المعتزلة الأصوليين المتوقع لو قابلوا التنويريين العرب المعاصرين؟!

 في السطور التالية سنشير سريعًا إلى أصول الإسلام لدى المعتزلة، والتي تجمعهم وتُمايزُهُم عن المدارس الفكرية الأخرى، ونستنطق فكر المعتزلة عن إجابة هذيْن السؤاليْن.

أصول المعتزلة الإسلامية

منذ بزوغ نجمهم في أواخر القرن الأول الهجري، ومطلع القرن الثاني، أثارَ فكر المعتزلة الكثير من الجدل، ولا يزال إلى اليوم، ويعتبرون أول من أدخل علم الكلام في تاريخ الإسلام، ليُنافحوا بالحجج العقلية عن الدين ضد شبهات غير المسلمين، وأيضًا ليناهضوا خصومهم المسلمين، لا سيَّما من عاصروا بدايات المعتزلة مثل:

  • الجبرية: القائلون بأن الإنسان مُسيَّر لا مخيَّر، وهو اتجاه روَّجه الحكام الأمويون لجعل خلافتهم قدرًا إلهيًا لا مفرّ منه.
  • المُجَسّمَة والمشبِّهة: الذين يأخذون بظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية دون تأويل، فيكوّنون صورةً عن الله سبحانه وتعالى كأنه جسم كبير يشبه مخلوقاته.

ورُغمَ اختلافاتٍ تفصيلية بين المعتزلة، فإنهم يكادون يُجمعون على أصول خمسةٍ كبرى، لا سيما الأصليْن الأولَّين التوحيد والعدل، وهي باختصار شديد:

  1. التوحيد: هو توحيد الله سبحانه وتعالى، وتنزيهه بشكلٍ صارم عن مشابهة أي مخلوق، وأدى ذلك بالمعتزلة إلى تأويل كافة الآيات القرآنية التي يمكن أن يوحي ظاهر نصها بمشابهة مباشرة أو غير مباشرة بين الله وخلقه، ومن هنا أنكروا نسبة معظم الصفات إلى الله سبحانه وتعالى.
  2. القول بالعدل الإلهي المطلق: فالله لا يظلم أحدًا، وأفعاله كلها حسنة، وهو لا يعذب أحدًا بغير ذنب، وأن أفعال العصاة والكفار من فعلهم ومسئوليتهم لا يجبرهم الله على ذلك بأي شكل، فهم يرون الإنسان مُخيَّرًا بشكلٍ مطلق، ومن هُنا وصفهم خصومهم بالقدرية نقيض الجبرية.
  3. القول بالوعد والوعيد: وهو كما في صـ 70 من شرح الأصول للخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي، أن وعد الله بالثواب والجنة للطائعين، ووعيده بالعذاب والنار للعاصين والكافرين، هو يقينٌ متحقق لأن الله لا يُبدَّل القول لديه وما هو بظلامٍ للعبيد.
  4. القول بالمنزلة بين المنزلتين لمرتكبي الكبائر: فهم فسّاق، في درجةٍ وسطى بين الإيمان والكفر حتى يتوبوا، ويشمل هذا الحكام الظالمين الباغين على أرواح الناس وأموالهم. والمعتزلة هنا وسطٌ بين المُرجئة المتساهلين الذين يرون أنه لا يضر الإيمان ذنبٌ مهما كبر، وبين الخوارج المتشددين الذين كانوا يرون كفر مرتكبي الكبائر (وأهل السنة يرون أن الإيمان يزيد وينقص تبعًا للعمل، لكنهم أقل حدة من المعتزلة والخوارج في الحكم على مرتكبي الكبائر).
  5. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو واجب عندهم، ويشمل هذا الثورة ضد الحكام الظالمين، ما لم يثبت بالعقل والتفكير أن دفع المنكر سيؤدي إلى منكرٍ أكبر.

وقد اعتمد المعتزلة على العقل والتفكير كثيرًا في بناء أصولهم، فالعقل عندهم هو أساس الاهتداء إلى الله الواحد، وهو معيار التحسين والتقبيح، وهو الآلة التي يتفكر بها المرء في القرآن والنصوص وآيات الله في الكون. والمطالع للمسائل التي ناقشها المعتزلة، لا يجدهم يكتفون بالعقل المجرد فحسب، إنما يستشهدون بآيات القرآن الكريم، وبما لا يخالفها من السنة النبوية القولية.

وهم وإن أفرطوا مقارنةً بغيرهم من الفرق الإسلامية في تأويل القرآن والنصوص بالعقل، فلم يُنقل عن أيٍّ منهم الوصول إلى تطرف بعض الأقوال المعاصرة في تاريخانية النص القرآني، أو نزع القداسة عنه جزئيًا أو كليًا. وفي قضايا الفروع والحلال والحرام، فالمعتزلة لا يختلفون كثيرًا عن المذاهب الإسلامية الأخرى، وكثيرًا ما كانوا تاريخيًا يميلون للمذهب الحنفي في تلك المسائل.

يتضح من عرض الأصول الخمسة للمعتزلة مدى ارتباطها الوثيق بالإسلام وإن كان وفق رؤية المعتزلة الخاصة. في المقابل، من الصعوبة بمكان أن نمسك بأصول إسلامية المنبت والغاية يجتمع عليها التنويريون العرب المعاصرون، بل إنَّ أظهرَ ما يبدو من أفكارهم وأصولهم هو موقف نقدي حاد من التراث الإسلامي القديم برمته، واعتبار تاريخ الأمة الإسلامية بمجمله حلقاتٍ متصلة من السقوط والبشاعة والانحرافات، والاعتقاد في أن العلمانية والليبرالية الغريبة هي حلول المسألة الحضارية المعاصرة، ويظهر كل هذا جليًا في مؤلفات الراحل فرج فودة لا سيما كتاب الحقيقة الغائبة.

هل كان أهل التوحيد والعدل علمانيين؟

إن الشرع عقلٌ من خارج، والعقلُ شرعٌ من داخل. والداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور.
الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه (معارج القدس).

إنَّ آخر ما يمكن أن يوصف به المعتزلة أنهم علمانيون، على مختلف درجات طيف العلمانية من تلك المتصالحة نسبيًا مع الدين إلى اللا دينية المحاربة للدين وأي دورٍ له في الحياة، فقد كانوا -كما تشي أصولهم المذكورة آنفًا- من أهل الدين والتديْن.

في نقاشٍ خاص مع الباحث الكويتي محمد سالم الخضر، والحاصل على الدكتوراه في الشريعة الإسلامية من جامعة الزيتونة بتونس، ورئيس مركز الأبحاث في مبرة الآل والأصحاب، حول علاقة الحداثيين العلمانيين وبعض اللا دينيين بالمعتزلة، يرى الخضر أن الأمر هو نوعٌ من التمسُّح الخاطئ والساذج بالمعتزلة وتراثهم، فالمعتزلة كانوا أناسًا متدينين، يعظِّمون الله سبحانه وتعالى، ويعظمون الشريعة الإسلامية، وخلافهم الكلامي القديم مع مذاهب أهل السنة وغيرها كان الدافع له هو وجهة نظرهم الخاصة في تعظيم الله وشرعه وأقداره، وتحقيق الإسلام كما أنزله الله سبحانه وتعالى، وليس لرغبتهم في عزل الإسلام عن الحياة كليًا أو جزئيًا.

بوجه عام، لم يتشدق المعتزلة بالعقل ليُناهضوا به القرآن والشرع والسنة النبوية الثابتة، إنما عظَّموا العقل ليتدبروا به القرآن، وليقيموا أصولهم الإسلامية على أسسٍ عقلية منطقية متجانسة مع فهمهم للوحي، ومن أمثلة ذلك تعاملهم مع السنة النبوية المنقولة.

لم يكن المعتزلة قرآنيين ينكرون السنة النبوية بالكلية، أو أنهم يرون بعض الأحاديث النبوية لا توافق هواهم أو مزاجهم أو السلطان النفسي لثقافةٍ أجنبية غالبة، فيردوها، إنما كان يردُّون بعض أحاديث الأحاد -الخبر غير المتواتر لا سيما المنقول عن شخصٍ واحد في طبقةٍ من طبقاته- التي تُصادم ظواهرُها فهمَهُم للقرآن وللأدلة العقلية الواضحة، كما ردّوا الأحاديث التي تفيد برؤية الله سبحانه وتعالى رأي العيْن يوم القيامة، لأن رؤية الله تخالف مفهومهم المبني على التفكر والآيات القرآنية، في التنزيه التام لله عن التجسُّم والتحيز المكاني… إلخ. وهنا لا يعنيني مناقشة قضية الرؤية ذاتها، إنما هي لضرب المثل لا أكثر.

وللمعتزلة صولات وجولات تاريخية في الدفاع عن الإسلام وثابته ضد الملاحدة، ومن أشهر كتبهم القديمة في ذلك المجال قبل 12 قرنًا، كتاب (الانتصار… والرد على ابن الراوندي المُلحد) الذي حُقق ونُشر في العصر الحديث، ومؤلفه أبو الحسين عبد الرحيم الخياط من أعلام معتزلة بغداد في القرن الثالث الهجري، وكان لابن الراوندي الملحد هذا كتابٌ يهاجم المعتزلة اسمه (فضائح المعتزلة).

المعتزلة والسلطة وأخواتها

إني لأجدُ في قلبي حَرًّا لا يُذهبُهُ إلا بردُ العدلِ أو حرّ السيف!
بشير الرجَّال المعتزلي، استُشهد في ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن العلوي أخي محمد النفس الزكية، نقلًا عن كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ المعتزلي.

من اللافت للنظر لكلِّ متابع، أن أغلب التنويريين العرب المعاصرين، يدورون في فلك السلطات، ويُفرَد لهم ساعات طوال من البث التلفزيوني ونظائره لعرض أفكارهم، وأن خصمهم الرئيس دائمًا وأبدًا هم الإسلاميون بمختلف مشاربهم السياسية والفكرية، والذين هم بشكلٍ أو بآخر ليسوا على وفاقٍ مع معظم السلطات.

على النقيض من ذلك، كان معظم المعتزلة أصحاب موقف معارض واضح للسلطة (هناك استثناءات بالطبع كما حدث عندما اقتنع المأمون العباسي برؤية المعتزلة في مسألة خلق القرآن، وحاكم عليها علماء السنة مثل أحمد بن حنبل، وهذا مثال يدل على مدى تعصب المعتزلة دينيًا في بعض الأوقات، فلم يتورعوا هنا عن الاستنصار بالسلطة لفرض رؤيةٍ دينية ضيقة في إحدى المسائل) وأول من وصل للسلطة محسوبًا عليهم، كان الخليفة الأموي يزيد بن الوليد، الذي قاد ثورة عام 126هـ ضد ابن عمه الخليفة الوليد بن يزيد، الذي كان سيئ السيرة.

فَإِنْ وَفَيْتُ لَكُمْ بِمَا قُلْتُ، فَعَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَحُسْنُ الْوَزَارَةِ، وَإِنْ لَمْ أَفِ، فَلَكُمْ أَنْ تَخْلَعُونِي إِلَّا أَنْ أَتُوبَ، وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَحَدًا مِمَّنْ يُعْرَفُ بِالصَّلَاحِ يُعْطِيكُمْ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلَ مَا أُعْطِيكُمْ، وَأَرَدْتُمْ أَنْ تُبَايِعُوهُ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُهُ. أَيُّهَا النَّاسُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.
من خطبة يزيد بن الوليد الأموي المحسوب على المعتزلة بعد انتزاعه الخلافة بالثورة المسلحة عام 126هـ.

وهناك كما أسلفْنا أصلان على الأقل من الأصول الخمسة للمعتزلة يتصلان بقضية الموقف من السلطة الجائرة، وهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي كان يعني والمنزلة بين المنزلتيْن لمرتكبي الكبائر، وقد فقد العديد من المعتزلة وأنصارهم أرواحَهم في بعض الثورات المشهورة في التاريخ الإسلامي، مثل ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن العلوي عام 145هـ، وهو أخو محمد النفس الزكية، أشهر ثوار آل البيت في العصر العباسي.

في جلسةٍ نقاشية في المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات بالدوحة عن الجدل المعتزلي- الأشعري، ينقل الباحث، رائد السمهوري، المهتم كثيرًا بتراث المعتزلة، عن أبي عليّ الجبائي أحد أكبر أعلام الاعتزال في القرن الثالث الهجري (= التاسع الميلادي) رأيه في دار الإسلام الحقيقية، وهي أنها الأرض التي لا تُصارع فيها لتقولَ رأيَك، وهي الدار التي تأمر فيها بالمعروف، وتنهى عن المنكر، ويرى السمهوري أن هذا بشكل أو بآخر هو ما نصفه باللغة المعاصرة بحرية الرأي والتعبير.

كما اشتهر بعض رموز المعتزلة بالزهد الشديد، ورفض أخذ الأموال من الحكَّام، ليحافظوا على استقلاليَّتهم، مما أكسبهم احترام بعض هؤلاء، مثل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي كان يوقر كبير المعتزلة في عصره العابد الزاهد عمرو بن عُبيد، حتى قال فيه أبو جعفر:

كلكم يمشي رويدْ… كلكم يطلب صيد… غير عمرو بن عبيد!

خاتمة

يتضح مما سبق في جولتنا الموجزة عن المعتزلة بعيون زمننا، أنَّ أصول المعتزلة وشروحاتهم لها من مصادرهم، أو حتى من مصادر مخالفيهم من علماء التراث الأشاعرة وسواهم، تشي أنهم بوضوح فرقة إسلامية متدينة، تنافح عن الإسلام والقرآن وصحيح المنسوب للرسول عليه الصلاة والسلام، وإن كان ذلك وفق رؤاها الخاصة التي ناظرتها فيها الفرق الإسلامية الأخرى القديمة والمعاصرة، وأن الجمع بين المعتزلة وبين علمانية التنويريين في العصر الحديث هو جمع تعسفيٌّ لا وجهَ له من التاريخ أو الواقع.

وأرى قطعًا أن كبار أئمة المعتزلة التاريخيين لو ناظروا جُلَّ التنويريين العرب المعاصرين، لتبرؤوا منهم على الفور، لا سيَّما الدائرين منهم في أفلاك السلطة والطغاة، والخادمين لمشاريعهم الفكرية والثقافية، وبل لما ترددوا في تكفير بعضهم، لا سيَّما من جاهروا بالسخرية من الذات الإلهية أو معجزات الأنبياء، أو ادّعوا بأن القرآن نصٌّ تاريخي غير معصوم، أو أن الإسلام انتشر فحسب بقوة السيف وبطمع العرب في الغنائم، أو دعوا للفصل التام بين الدين والسياسة أو الدين والحياة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.