بعد أربع سنوات في سدة الحكم في اليونان، تمت إزاحة تحالف اليسار الراديكالي «سيريزا» من الحكم في الانتخابات البرلمانية، انتصر حزب «الديمقراطية الجديدة» المحافظ بزعامة كيرياكوس ميتسوتاكيس المقرب من دوائر رجال الأعمال والمؤسسية الأوروبية، نجح حزب الديمقراطية الجديدة في اقتناص السلطة من سيريزا بحصوله على ما يقرب من 39% من الأصوات مقابل 31% لسيريزا، هذا الانتصار برغم ضعفه إلا أنه كفيل بمنع تسيبراس – زعيم سيريزا – من تشكيل الحكومة القادمة التي بالطبع سوف تؤول ليمين الوسط، سيعود سيريزا – حزب اليسار الراديكالي – مرةً أخرى إلى صفوف المعارضة.

تعني هزيمة سيريزا الكثير من الأشياء، وتعطي الكثير من المؤشرات حول مستقبل اليونان ومستقبل أوروبا بشكل عام. على مدار أربع سنوات، نجح سيريزا في نقض كل وعوده الانتخابية، كان سيريزا في 2015 ملء السمع والبصر في العالم بعد فوزه بأغلبية ساحقة في الانتخابات البرلمانية، كان أملًا للكثير من يساريي العالم في أن هناك طريقًا بديلاً ممكنًا لمقاومة الرأسمالية، كان سيريزا وقتها يحمل أيديولوجيا اليسار الراديكالي ويطرح خطابًا ضد إذلال اليونان التي تعرضت له بسبب ديونها من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد، مثلت سيريزا لجماهيرها في اليونان طريقًا بديلًا للخروج من عباءة الإجراءات النيوليبرالية وعلى رأسها التقشف الذي أرهق المواطنين اليونانيين.

وبعد أربع سنوات كاملة أصبح سيريزا الحزب المكروه من جماهيره، أصبح مثالًا جيدًا لما يحدث حينما يتخلى الراديكاليون عن راديكاليتهم، تخلى سييريزا عن أيديولوجيته في الأربع سنوات من اللحظة الأولى حينما دخل مفاوضات الترويكا، وهي اللجنة التي تشكلت لمناقشة ديون اليونان، أخضعت ميركل اليونان لإدارتها في النهاية وفقد تسيبراس شعبيته. يعترف تسيبراس بهذا، ويبرره بأنه تخلى عن أفكاره في مقابل إنقاذ اليونان، لكن هل ضحى تسيبراس بنفسه فعلًا لإنقاذ اليونان؟ والسؤال الأهم: هل تم إنقاذ اليونان فعلًا؟


كيف بدأ سيريزا؟

«ألكسيس تسيبراس» رئيس وزراء اليونان (2015 – 2019)

تأسس التحالف بالأساس عام 2004 كتحالف انتخابي بعدد من الأحزاب والمجموعات اليسارية الراديكالية، لم يستطع التحالف الحصول على أكثر من 5% من المقاعد في الانتخابات البرلمانية في الفترة من 2004 وحتى 2011، لكن في 2011 وتحت تأثير ثورات الربيع العربي وحركة «احتلوا وول ستريت» حدثت انتفاضة جماهيرية كبيرة في اليونان، كان رمزها ميدان سينتاغما في العاصمة اليونانية. شارك في تلك الانتفاضة ما يقرب من 35% من المواطنين اليونانيين، كانت مطالب المحتجين محاربة الفساد والتقشف الذي فرضته الحكومة بسبب تضخم الدين العام في اليونان، اكتسب سيريزا المزيد من الزخم وأصبح الثنائي ألكسيس تسيبراس ويانيس فاروفاكيس نجوم تلك المرحلة.كان سيريزا معبرًا عن الأمل في التغيير، في الفكاك من فخ النيوليبرالية والتقشف، ليس لليونان فقط لكن للعالم أجمع. وفي يناير/ كانون الثاني 2015، فاز سيريزا في الانتخابات العامة بـ 35% من الأصوات وتمكن من تشكيل الحكومة، جاء سيريزا بوعد واحد وانحياز واضح: الانحياز للفقراء والطبقات الوسطى التي أثقلت كاهلها إجراءات التقشف، لكن منذ ذلك الحين جرت مياه كثيرة في النهر.

إذلال اليونان

في كتابه «الكبار في الغرفة»، يحكي وزير مالية سيريزا السابق «يانيس فاروفاكيس» تفاصيل المفاوضات التي خاضها سيريزا مع الاتحاد الأوروبي أثناء أزمة الديون السيادية اليونانية في 2015، لم تكن تبعات أزمةالديونالسياديةفياليونان تعبيرًا فقط عن أزمة اليسارالراديكالي ممثلًا في سيريزا، وفشل هذا اليسار في أنيطرحتصورًاراديكاليًافىمواجهةمؤسساتالرأسماليةالعميقة،لكنأيضًا كانت انعكاسًا لمدى الحاجةلمراجعةالأفكارالمتعلقةبحدودتعريفالراديكاليفيكلمرةيُطرحفيهاهذاالمفهوم.فيالسعيلتعريفالراديكالي وحدوده، يرى فاروفاكيس أنعلىاليسارالراديكالياليومأنيديرمعركتهمنموقعيسارالوسطبسببهذاالفراغالذيأنتجهانزياحاليميننحوالنيوليبراليةالشعبوية. جاءتأزمةاليونانفيالقلبمنصعوداليمينالشعبويوإنكانتسابقةعليها، وكانت إستراتيجية سيريزا تعتمد على التفاوض من البداية حول ديونها مع الاتحاد الأوروبي، لذلك كان فاروفاكيس – الأكاديمي المرموق والإصلاحي – وقتها مناسبًا ليقود عملية التفاوض تلك، لكن أثناء التفاوض اكتشف الرجل أن منطق التكنوقراط، بمعنى آخر تسييد مصالح الاقتصاد على السياسة الذي يدعيه الأوروبيون، غائب بشكل كلي.يرى فاروفاكيس أن أزمة اليونان في 2015 هي أزمة توازن قوى، ولو أرادت اليونان الهروب من هذا المأزق لكان عليها أن تجعل موازين القوى تميل لصالحها، وهو ما كان مستحيلًا في ظل تعنت الألمان والاتحاد الأوروبي وإصراراهم على جدولة ديون اليونان وليس إسقاطها. كان البنك المركزي الأوروبي يتحكم في تمويل البنوك اليونانية كلها، كانت البنوك في غاية الأهمية لـ «الأوليغاركا» اليونانية كما كانت مهمة بالطبع للاقتصاد اليوناني والمجتمع اليوناني ككل. يمكن للمركزي الأوروبي أن يغلق تلك البنوك في أي لحظة عبر ممثليه المحليين، رئيس البنك المركزي اليوناني ستورناراس. كان فاروفاكيس مقتنعًا أن السلطة الجديدة (سيريزا) قد تراجعت عن وعودها وأن وضعًا جديدًا كان قيد التشكل، يتضمن هذا الوضع وجود ستورناراس ذي النزعات اليمينية على رأس البنك المركزي اليوناني وما يزال موجودًا حتى الآن.قرر قادة الاتحاد الأوروبي في مايو/ آيار 2010 الإعلان عن خطتهم لإنقاذ البنوك الألمانية والفرنسية بوصفها «مساعدة لليونان»، لماذا؟ لأن هذا كان في صالح البنوك التي تعاني بفعل الأزمة المالية العالمية، وبالطبع لم يكن هذا هو السبب الرئيسي، كان السبب الرئيسي هو خوف هؤلاء السياسيين من العقاب الانتخابي إذا أعلنوا عن خطة إنقاذ أخرى للبنوك والتي كانت لتكون ضرورية لو أن الديون اليونانية جرى شطبها، وبدلًا من ذلك طلبوا أموالًا لإقراض اليونان، ولاحقًا دفعت تلك الأموال للبنوك بطرق مباشرة وغير مباشرة. نتيجة لذلك، أصبحت اليونان تدين بالكثير من المال، ليس للبنوك بل للحكومات ودافعي الضرائب في الدول الأوروبية المقرضة لها. بمجرد أن وضعت تلك الخطة في 2010 موضع تنفيذ، لم يكن هناك أي طريق للعودة، بدأت القصة بالفعل، والاستثمارات السياسية للأزمة أضحت موضع تنفيذ، كان الأمر في منتهى الصعوبة، أن تصل اليونان لخطة إعادة هيكلة الدين في 2012، كان الجميع يتوقع أن تلك الخطوة غير كافية، لم تفعل الخطة الكثير فيما يتعلق بإعادة هيكلة وجدولة الديون، وعوضًا عن ذلك حولت الدين أو أغلبه من دين للقطاع الخاص إلى دين للقطاع العام. وبمجرد تشكيل الترويكا في 2010، صعد منطق جديد للواجهة؛ منطق «القوة» أو «التكنوقراط» ولكن ليس منطق رأس المال بأي حال من الأحوال، قامت الترويكا بتطبيق عدة آليات لمراقبة اليونان.كان هذا إذلالًا صريحًا، بحسب فاروفاكيس، فإن الكثير من غضب سيريزا أثناء المفاوضات كان جراء الإهانات المتعمدة لتلك المواكب الرسمية لموظفي التكنوقراط الأوروبيين غير المنتخبين والذين كانوا يزورون أثينا في مواكب من عربات المرسيديس والبى إم. بشكل عام، استثمرت ألمانيا تحديدًا في إعادة إنتاج المنطق النفعي للبيروقراطية الأوروبية القائمة على إنتاج وإعادة إنتاج سلطة المركز على الهامش. لم يكن برنامج الترويكا يمتلك أي منطق اقتصادي، كل شيء سيصبح أسوأ في ظل التقشف، وكل صوت كسبه سيريزا سيخسره عاجلًا أم آجلًا.لقد تم بالفعل إنقاذ البنوك اليونانية ماليًا في 2010، لكنها تُركت في خطر محدق. يخبرنا فاروفاكيس أن الهدف الأساسي من معاقبة اليونان كان تحذير الفرنسيين من عواقب عدم الالتزام المالي، وهذه بالطبع ليست مشكلة اقتصادية بقدر ما هي سياسية من الدرجة الأولى. أرادت برلين تجنب نطاق أوسع من سياسات الإنقاذ وتوزيع الأعباء المالية في القارة الأوروبية، كان الإمساك بلجام اليونان هو الطريق للجم الآخرين وعدم الانقياد نحو كارثة سياسية كبيرة بالنسبة للحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) وحلفائه الانتخابيين. لم يتم التعبير عن المصالح الاقتصادية المحددة والتي تُعبر عنها سياسات اقتصادية كلية وإستراتيجية وعقلانية في الوقت. فاروفاكيس والعديد من الاقتصاديين الآخرين يجزمون بأن أوروبا كلها – وبالتأكيد ألمانيا – كانت لتكون أكثر ازدهارًا لو أنها تُحكم بواسطة أنظمة سياسية تتبنى سياسات توسعية اقتصادية وليست انكماشية. فلو أنها قامت بإجراءات إسقاط لبعض الديون في 2010 ،2011، 2012 أو في أي منهم كانت الأمور ستتجه نحو الأفضل، فقط يشير فاروفاكيس بشكل عابر لرؤية أكثر عقلانية. ففي حواره مع وزير المالية الألماني وولفجانج شابل، يتحدث فاروفاكيس في كلامه مع الرجل عن الآثار السلبية للعولمة وضرورة أن تكون هناك إصلاحات في دولة الرفاهة الاجتماعية في أوروبا، هذا أيضًا يبدو كانشغال خطابي من قبل ميركل بحسب شابل، وبأخذ تلك الرؤية في الاعتبار كان ما حدث في اليونان شيئًا لابد منه، فاليونان هي أول الدول الأوروبية التي شهدت تراجعًا لدولة الرفاهية الاجتماعية.

كيف خسر سيريزا كل المعارك؟

ألكسيس تسيبراس، اليونان
ألكسيس تسيبراس، اليونان
حاول تسيبراس، بعد إقصائه فاروفاكيس في 2015، أن يجعل ألمانيا وأوروبا تتنازل لصالح اليونان، لكن الأوروبيين كانوا مصرين على إذلال اليونان، يُقصد بالإذلال هنا تطبيق سياسات تقشف صارمة، ما يعني غرق تسيبراس وسيريزا في فخ تناقص شعبيتهم. كان سيريزا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما ان يقبل هذا، أو أن يغامر بالخروج من الاتحاد الأوروبي وتحمل تبعات ذلك الخروج، اضطر في النهاية أن يقبل، لكن خلف هذا القبول كانت معركة أخرى. في 2015 كان 85% من الدين اليوناني هو دين رسمي لمؤسسات أوروبية رسمية وحكومات، 15% فقط كانت ديون تستحق الدفع لدى البنوك ومستثمري القطاع الخاص. بدأ فاروفاكيس مفاوضات الدين بطمأنة القطاع الخاص بأن مصالحهم في أمان تام، كانت المعركة بالفعل مع الحكومات الأوروبية، مؤسسات الترويكا (اللجنة الأوروبية، البنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي). رفضت حكومة سيريزا على الدوام عضوية الصندوق في الترويكا وحاولت التقليل من سلطة هؤلاء الموظفين الدوليين على أعضاء حكومة سيريزا المنتخبين، لكن ومع ذلك حاول فاروفاكيس وفريقه كسب صندوق النقد إلى جانبهم بوصفه ممثلًا للسياسات الكلية الاقتصادية وصاحب سياسة «أفضل الحلول». وبما أن مشكلة استدامة الدين كانت المشكلة الأساسية لليونان، فإن اليونان لعبت دور «الضمير المؤنب» تجاه الصندوق وخاصة فيما يتعلق بالقرضين اللذين تورط بهما الصندوق في 2010و 2012. انتهك الصندوق الكود الداخلي الخاص بالإقراض، والذي يمنعه – بعد أزمة الأرجنتين – من إقراض الدول المتعثرة بالأساس في تسديد الديون. ما كان يريده فاروفاكيس هو أن يخلع الصندوق يده ويرفض المشاركة في أي مفاوضات للاقتراض الجديد الذي بدا وكأنه دين مستدام كما السابق، وهكذا فلن تضطر اليونان لدفع جزء من الدين الأخير للصندوق، لاحقًا خاب أمل الرجل. رضخت حكومة سيريزا في النهاية لمطالبات الترويكا، ونجحت ميركل وألمانيا في الحصول على ما طلبوه: جدولة الديون، خطة إقراض جديدة، وتقشف صارم أفقد سيريزا شعبيته. استطاع تسيبراس أن يجعل مؤشرات الاقتصاد تتحسن، ثمة فوائض مالية الآن في موازين المدفوعات، لكنه ظل اقتصادًا مدمنًا للديون، لم تتحسن مستويات معيشة المواطنين؛ ما عنى في النهاية خسارة سيريزا للسلطة. هذا ما يمكن أن يحدث حينما تتخلى الأحزاب اليسارية عن برامجها الانتخابية، لم يكن هذا مجرد عقاب انتخابي فقط، بل فرصة متجددة لأن يتعلم الجميع دروس المرحلة، المرحلة التي يتمسك فيها اليمين الشعبوي بخطابات راديكالية ويتخلى اليسار عن راديكاليته المعهودة.