حدث في تيانانمن
أحتفظ بين ملفاتي بتقويم على غرار (حدث في مثل هذا اليوم)، أستعين به كثيرًا في كتابة المقالات عندما تكون ذكرى اليوم جديرة بالاستعادة. شهر أبريل/نيسان مزدحم بالأحداث حقًا؛ سواء كنت تتحدث عن مذبحة بحر البقر عام 1970 أو مذبحة دير ياسين عام 1948 أو ذكرى تشرنوبيل عام 1986. هناك مذبحة قام بها الإنجليز عند بئر شهيرة في الهند عام 1919، اسمها مذبحة جاليان والا. لربما أضفنا لمصائب الشهر اغتيال الشهيد الرنتيسي ووفاة الجميل صلاح جاهين. هذا شهر يعج بالمذابح، ومن ضمنها ذكرى مظاهرات الميدان السماوي في الصين، التي بدأت في 15 أبريل/نيسان عام 1989 في ميدان تيانانمن ببجينج.
برغم مرور ثمانية وعشرين عامًا تقريبًا على ذكرى تلك المظاهرات، فهي ما زالت تطرح أسئلة عديدة. قال أبو القاسم الشابي: «إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر». كنا نعتبر هذه قضية مسلمًا بها، لكننا هنا نكتشف أن القدر قد لا يستجيب دائمًا. لقد تدخل الجيش الصيني وقمع الثورة بعنف. منذ زمن قريب حدث الانقلاب الفاشل في تركيا، ذلك الذي هلل له الإعلاميون عندنا. ثم خرجت الجماهير في ساعة متأخرة من الليل معلنة أنها اختارت الديمقراطية، وحتى أحزاب المعارضة التركية رفضت الانقلاب.
هكذا انضم الجيش إلى الجماهير، وفشل الانقلاب وأصاب البكم الإعلاميين إياهم. لماذا حدث هذا مع ثورة إيران وثورة رومانيا مثلًا؟، بينما فشلت الجماهير في سوريا وفي اليمن والصين وشيلي؟. كان تصوري هو أن هناك كتلة حرجة للجماهير بعدها لا يجد الجيش مناصًا من الانضمام للناس. حدث هذا في انقلاب تركيا وثورة إيران، حينما كان الخميني يقول للناس: «الجيش إخوتكم فافتحوا صدوركم لهم .. سوف يطلقون عليكم الرصاص لكنهم لن يستطيعوا عمل ذلك للأبد»، وهو ما كان فعلًا. على الأرجح لم تصل ثورة الميدان السماوي لهذه النقطة الحرجة. في مصر في ثورة يناير 2011 كانت رغبة الجماهير في إزاحة مبارك تتفق تمامًا مع رغبة رجال المجلس العسكري، لهذا لم تحدث مواجهة. لكن ماذا لو تعارضت المصالح؟.
يمكننا أن نركب آلة الزمن الخيالية ونعود للعام 1989 لنتذكر تلك الأحداث التي هزتنا في ذلك الوقت. كنت أقرأ مجلة بناء الصين في طفولتي، وأرى أن الصين تمثل شيوعية مستقرة اختارتها الجماهير بكثير من التعصب، ولا شك أن صورة الشباب بالبدلة الخضراء وهو يلوح بالكتاب الأحمر الصغير الذي يحمل تعليمات ماو تسي تونج كانت هي الصورة الدعائية المسيطرة على أذهاننا.
لعل حركة البريسترويكا التي قادها جورباتشيف، والتي تمثل ثقبًا في الستار المعدني الشهير، هي الشرارة الأولى التي بدأت تحريك الطلاب الصينيين نحو الميدان السماوي (تيانانمن). فقد رأوا أن الحزب الشيوعي الصيني له سلطات أكثر من اللازم. هناك كذلك وفاة هو ياو بانج وهو عنصر إصلاحي من الحزب الشيوعي، قيل إنه توفي بنوبة قلبية نتيجة مناقشة حادة مع رئيس الوزراء. وبدأ آلاف الطلبة يتوافدون على الميدان وهم يهتفون: «يموت البعض وهم يستحقون الحياة، ويحيا آخرون يستحقون الموت».
كان هدف الطلاب أولاً محاربة الفساد .. ثم طالبوا بحرية الصحافة، وانضم لهم العمال. وعلى طريقة ثورة يناير عندنا كانت الأعداد غفيرة -نحن في الصين على كل حال- وانطلقت الشرارة لتتمسك بمدن أخرى. شهدت الصين احتجاجات عديدة في العشرين عامًا الماضية لكن احتجاجات الميدان السماوي كانت الأشد، ولا شك أنها أثارت رعب القادة فقد بدا في نهاية إبريل أنها إعصار لا قبل لهم بصده.
طريقة الضغط الأخرى إلى جانب الحشد كانت الإضراب عن الطعام. أذكر في تلك الأيام أن آلاف الطلاب أضربوا عن الطعام، وشكلوا دوائر منظمة تسمح بمرور سيارات الإسعاف إلى من يرغبون في وقف إضرابهم. لم يتخلق رأس للمظاهرات يمكن للحزب الشيوعي التفاوض معه، ثانيًا: طالت المظاهرات وبدا واضحًا أن السيطرة عليها مستحيلة. أعلن رئيس الوزراء لي بنج الأحكام العرفية في 20 مايو ثم صدر قرار تنظيف الميدان بالقوة.
قام عمال مصانع الحديد والصلب (70 ألفًا) بالانضمام للمظاهرات وقطع عمال مترو الأنفاق الكهرباء عن المترو، كما بنوا الكثير من الحواجز. فكرة الحواجز لم تكن هي صد الجنود، ولكن إعطاء الطلبة فرصة للتفاهم مع الجنود، وهي سياسة اقترحها تروتسكي من قبل. وبالفعل كسب الثوار كثيرين من جنود الجيش.
لكن الثورة توقفت هنا. فشل الثوار في حزم أمرهم أو إفراز قيادة، وطالب كثيرون منهم العمال بأن ينهوا إضرابهم لمصلحة البلاد.
تمت المواجهة الكارثية بين الجيش والطلاب، وإن رفض بعض الضباط تنفيذ الأوامر وإطلاق الرصاص على المتظاهرين، ولهذا تمت محكمتهم عسكريًا فيما بعد. هذه ما أطلق عليه (متلازمة الخميني) حيث يصير قمع المتظاهرين عبئًا على ضمير الجيش مع الوقت. حاول المتظاهرون الصمود، وأنت تعرف صورة رجل الدبابة: ذلك البطل المجهول الذي وقف يسد الطريق أمام صف دبابات 59 ، وهي الصورة التي التقطها مصور أسوشيتد برس من نافذة الفندق. سوف تذكرك على الفور بالشاب الذي يقف ويداه في خاصرته أمام عربة رش الماء في ثورة يناير. قيل فيما بعد إن البطل الصيني قد قبض عليه وأعدم.
النهاية كانت محتومة يوم 4 يونيو، ورأى العالم الذي تحمس للثورة كيف تم ذبحها وقهرها. لم يكن الجنود يمزحون، كانوا يدوسون بالدبابات على الناس ويطلقون الرصاص بلا توقف. وفي النهاية عادت للطبقة الحاكمة مزاياها ونفوذها، كما أنها فعلت كل ما تقدر عليه لمحو ذكرى هذه المذبحة من أذهان العالم. لا نعرف عدد الضحايا بالضبط، لكن يقولون إنه يقترب من ألف قتيل، وهو رقم متواضع جدًا بالنسبة لأرقام الشرق الأوسط، لكننا كذلك لا نعرف عدد من تم إعدامهم بعدها. في العام الماضي فقط حجبت السلطات الصينية موقع جوجل، واعتقلت فنانًا تشكيليا رسم لوحة للميدان السماوي وقد اكتسى باللحم المفروم.
برغم هذا يحسب للثورة الفاشلة أنها جعلت الحزب يتجه لاقتصاد السوق مع عدد من الإصلاحات وزيادة معدل النمو، وبالطبع قال رجال الحزب إن هذه كانت حركة تدعو للفوضى والتفكك. يقول أحد المصادر: «يتمثل المغزى التاريخي لمذبحة يونيو 1989 في تقويض شرعية الطبقة الحاكمة الصينية التي تبين أنها لا تستطيع أن تقدم للجماهير الثائرة التي تحكم باسمها سوى حكم الحديد والنار».
«إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر»، لكن لابد أن تتضمن إرادة الشعب الكثير من العناد والتفكير المرتب والأهداف الواضحة. فإن لم تكن الأمور كذلك، فعلى الأرجح لن يستجيب القدر أبدًا.