ماذا تريد إيران من المفاوضات النووية في فيينا؟
مع فشل سبع جولات تفاوض بين طهران والقوى الكبرى في إحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015، تتجه الأنظار إلى العاصمة النمساوية فيينا لمعرفة مصير الجولة الجديدة التي انطلقت الإثنين في السابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، وسط مشاعر قريبة من الإحباط من إحراز أي تقدم على غرار جميع المرات السابقة، بعد أن عبر عدد من الأطراف المشاركة أن تلك المباحثات أضحت مضيعة للوقت الثمين لكبار الدبلوماسيين في مقابل تحقيق بعض «التقدم التقني»، والتوصل لتفاهمات ما يلبث المفاوضون من الأطراف المختلفة أن ينكصوا عنها ويطالبوا بإعادة النقاش حولها من جديد.
وكانت الولايات المتحدة قد انسحبت من الاتفاق في 2018 وفرضت عقوبات مشددة على إيران من أجل زيادة بنود ومدة الاتفاق، لكن الإدارة الأمريكية الحالية تريد العودة إلى الاتفاق مرة أخرى.
الجولة الثامنة
تهدف إيران إلى رفع العقوبات واستعادة قدرتها على تصدير النفط بأسرع وقت بعدما أمضت سنوات تعتمد على تهريب نسب قليلة منه في السوق السوداء بينما يعاني اقتصادها الأمرين، وتموج مدنها بمظاهرات واعتصامات للفئات العمالية المتنوعة والطبقات المختلفة المتضررة من هذا الوضع المزري.
لكنها تصر على أن شرط عودتها إلى الاتفاق هو رفع «كل العقوبات مسبقًا» سواء كانت متعلقة بالمشروع النووي أو أي سبب آخر كحقوق الإنسان أو الإرهاب، وتريد ضمانات من واشنطن بأنها لن تكرر الانسحاب من الاتفاق في المستقبل، كما ترفض أي نقاش حول منظوماتها الصاروخية ودورها الإقليمي.
وتهدف واشنطن إلى إعادة إيران إلى الاتفاق، والتراجع عن مخالفاتها السابقة كالتخلص من اليورانيوم عالي التخصيب وأجهزة الطرد المركزي المتطورة (الاتفاق لا يسمح إلا بعدد محدد من أجهزة الطرد المركزي من الجيل الأول فقط)، والتوصل إلى تفاهمات تمنع إيران من إنتاج أسلحة نووية مستقبلاً.
وقد جهزت إدارة بايدن خطة بديلة في حال فشلت الجولة الحالية تتضمن ضغوطًا دبلوماسية وعقوبات اقتصادية ضد إيران، وتحاول التأثير على روسيا والصين لمعاونتها في هدف مشترك وهو منع دولة أخرى من مزاحمتهم في النادي النووي، وقد حاولت طهران على لسان رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، محمد إسلامي، تفادي التصعيد المحتمل عبر بعث رسالة طمأنة مفادها أنه لن يتم رفع منسوب تخصيب اليورانيوم إلى درجة تسمح بصنع الأسلحة حتى لو فشلت المباحثات في فيينا.
ماذا تريد إيران من «النووي»؟
مع نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، توقف المشروع النووي الذي أطلقه الشاه محمد رضا بهلوي بدعم من الغرب. ولكن خلال الحرب العراقية-الإيرانية التي استمرت من عام 1980 حتى 1988، لم يكن لدى قادة الجمهورية الحديثة سوى إمكانيات قليلة من الأسلحة التقليدية لردع صدام حسين في ظل حظر توريد السلاح المفروض عليها، ولم تكن تمتلك منظومة صاروخية قادرة على حسم المعركة، وكانت الظروف الاقتصادية سيئة والوقت لم يسعفها لإعادة تجهيز جيشها الممزق أو تأهيل كوادر الحرس الثوري العقائديين، ومع أنها لجأت لأساليب شتى للتغلب على هذا القصور منها عقد صفقات سرية مع الولايات المتحدة نفسها لشراء الصواريخ وقطع الغيار فيما عُرِف بفضيحة «إيران-كونترا»، إلا أنها خرجت من الحرب بدروس مستفادة كان لها دور عميق في تشكيل التفكير الإستراتيجي للنظام الإيراني حتى اليوم.
فقد ترسخ لدى صناع القرار في طهران أهمية محاولة اعتماد بلادهم على نفسها في التسلح وعدم ترك الأمور رهنًا للموردين العالميين في أوقات اندلاع الأزمات العسكرية، وكذلك السعي الصارم لامتلاك القدرة على إنتاج أسلحة الدمار الشامل وتطوير البرنامج الصاروخي من أجل الحصول على قوة ردعية فائقة تغنيها عن عملية تحديث أفرع قواتها المسلحة وهي مهمة تبدو في غاية المشقة بسبب العقوبات والعزلة الدولية الملازمة لها منذ فترة الثورة، لذا اعتقدوا أن الحصول على القنبلة النووية يعد طريقة مختصرة ومنخفضة التكلفة نسبيًا لحماية الضرورة الوجودية للنظام.
كما أن المنظومة النووية العسكرية توفر مظلة واقية ليس فقط للإقليم الجغرافي للدولة بل لمشروعها الإقليمي، أي أنه بعبارة أخرى يمكن لطهران التي تملك أسلحة الدمار الشامل أن تخاطر بزعزعة استقرار البلدان المجاورة دون تكبد التكلفة المعتادة المرتبطة بمثل تلك المغامرات الخارجية عندما كانت الخطوط الحمر تُرسم من جانب القوى العظمى لتحجيم القوة الإيرانية.
وبالنظر إلى تلك الأهداف من وراء امتلاك السلاح النووي فإن أي وسيلة أخرى تضمن تحقق الغاية المنشودة تبدو مقبولة، وعليه فإن خيار العودة إلى الاتفاق النووي -الذي يمنع طهران من تطوير برنامجها السلمي إلى الدرجة التي تسمح بإنتاج القنبلة لأجل محدد- قد تكون خطوة محببة لدى إيران طالما حققت لها مصالحها الآنية ولم تتعارض مع أهدافها البعيدة.
فالإيرانيون قبلوا عام 2015 بـ «تأجيل» امتلاك السلاح النووي مقابل مكاسب مهمة كرفع العقوبات وإطلاق أياديهم في المنطقة لتوسيع النفوذ ونشر الميليشيات، والمضي قدمًا بكل حرية في تطوير البرنامج الصاروخي الباليستي العابر للقارات، وهو أيضًا أحد وسائل امتلاك الردع النووي لأن تلك الصواريخ وسيلة إيصال التهديد النووي لأي مكان في العالم، وبدونها سيكون تأثير امتلاك أسلحة الدمار الشامل أقل.
أي أن المشروع النووي صارت له وظيفتان: الأولى مرحلية وآنية وهي ابتزاز القوى الكبرى لتغض طرفها عن النفوذ الإقليمي والمشروع الصاروخي، والوظيفة الثانية طويلة الأجل وتتمثل في إنتاج القنبلة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن خيار أن تصبح طهران «قوة نووية كامنة» يوفر الردع المطلوب أيضًا فهو يعني أن تمتلك القدرة على صنع هذا السلاح دون أن تُقدم على ذلك فعليًا، نظرًا لأنها ليست في وارد استخدامه ضد هدف معين مما يجعلها تقنع بامتلاك التكنولوجيا والمواد المـُعدة لهذا الغرض والتي يعلم خصومها أنها ستكون جاهزة بأسرع ما يمكن فتتحقق مصداقية الردع.
فطهران تهدف إلى الإبقاء على برنامجها الصاروخي وتطويره والحفاظ على النفوذ الإقليمي، والمفاوضون الإيرانيون يحاولون الموازنة بين ما يمكنهم أن يقدموه من تنازلات وقتية، من أجل الحفاظ على وجودهم في العواصم العربية الأربع التي طالما تفاخروا بالسيطرة عليها؛ بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، فما حققوه من مكاسب إقليمية ما زال أكبر من قدرتهم على هضمه وابتلاعه فهذا يحتاج إلى وقت، والزمن في صالحهم إن نجحت مخططاتهم في تجميد الأوضاع على ما هي عليه بمعنى عدم إنهاء وجود القوات التابعة لهم وكبح جماح مؤسساتهم العاملة في تلك الدول.
فمع الحفاظ على الأوضاع الراهنة في هذه البلدان اليوم، من المرجح أن يشهد الغد تصاعد هذا النفوذ ليتحول من وجود ميليشياوي إلى قوة راسخة غير معتمدة على الوجود العسكري فقط، وبذلك يترسخ ما وقع منذ عام 2015 حين تم إطلاق أيدي إيران إقليميًا مقابل لجمها نوويـًا «مؤقتًا».