ما الذي يدفعنا لفعل الشر؟
في بداية الثورة السورية، نظم مجموعة من طلاب كلية الطب البشري مظاهرة صامتة للتنديد بالقصف الذي ينفذه النظام السوري على المدن السورية وخاصة مدينة درعا في ذلك الحين. كان العدد لا يزيد عن خمسين طالبًا مرتدين لباسهم الأبيض ويحملون في أيديهم الورود. لم يستمر الاحتجاج طويلاً، سرعان ما هاجم الجموع طلاب زملاء بالهراوات والعصي وسبّبوا لهم كسورًا وجروحًا.
تكرّر المشهد في عموم سوريا بأشكال مختلفة، شبيحة يضربون بحقد وكراهية أشخاصًا لا يؤذونهم ولا يعرفونهم. وقد كان من الأسئلة الشائعة خلال شهور الثورة الأولى: من أين أتى كل هذا الشر؟ هل كان هؤلاء يعيشون بيننا خلال السنوات السابقة، أم أن الأرض انشقت وأخرجت قيحها؟
وكان الجواب الطائفي هو ما يريد النظام إقناع الثوار به، وهو ما أدخل الثورة وسوريا في متاهات معروفة. وبلا شك فإن العامل الطائفي لعب دورًا بارزًا في هذا التوحش. ولكن التجربة تكررت في باقي بلاد الربيع العربي كذلك، في مصر واليمن والعراق وليبيا والبحرين والسودان، ما يثبت أن التشبيح عابر للحدود القومية والإثنية والطائفية بطبيعة الحال.
عالمة النفس «فرانسوا سيروني» التي عملت لفترة طويلة مع ضحايا التعذيب وأنجزت تقييمًا نفسيا عن «دوخ». لم يكن «دوخ» شخصًا عاديًا، كان المسئول عن مقتل ما لا يقل عن 14 ألف ضحية في سجن إس-21 التابع للخمير الحمر في «بنوم بنه» عاصمة كمبوديا، لقد فحصت الآلية التي يمكن أن ينشأ من خلالها الشر، وكانت نتيجتها أن الجلاد النموذجي تُحركه الحاجة للاعتراف به، الأنظمة الديكتاتورية تستوعب هذه الحقيقة، وينطبق هذا على الجيوش والشركات والأحزاب بطبيعة الحال.
«لا أحد يُخلق مجرمًا بل يتحول لذلك»، هذا ما تؤكد عليه سيروني في أكثر من مرة، فالأنظمة الدكتاتورية لا تُجنِّد الساديين أو الذين ثبت عندهم الإجرام بالضرورة، وإنما أشخاص يبحثون عن الاعتراف، وهذه الرغبة تنشأ من هوية ممزقة وتجربة ضحلة نشأت في سياق مجتمعي وسياسي وتاريخي شائك.
بالنظر لشخصيات الجلادين والذين ارتكبوا جرائم جماعية كما في راوندا أو الخمير الحمر أو النازية، نلاحظ أن المسار الذي سلكوه كان متشابهًا، لقد تعرضوا لتدريب قائم على الخوف والرعب، وهنا تشير إلى وثائق وُجدت مع «حجي بكر» القيادي في تنظيم الدولة الإسلامية بعد مقتله عام 2014، حول تدريب المقاتلين والجواسيس، ويلاحظ أن معيار الالتزام الديني ليس مهمًا بالمقارنة بالدور الذي تلعبه الصور الوحشية التي يجب عرضها على المتدربين.
القتل ليس فعلاً سهلاً، وهو ما تدركه هذه الجماعات، وهو هدف هذا التدريب القائم على نزع الخوف من القتل من جهة، وزرع الخوف في نفوسهم من قبل مرؤوسيهم من خلال أوامر تعسفية واستغلال وسوء معاملة من جهة أخرى. هذا المسار القائم على الخوف والرعب والذي ينجو منه المرء فقط بالطاعة العمياء، يُحرِّض على ضياع التعاطف مع الأناس الذين تدمر حياتهم.
«احذفوا قلوبكم»… كان هذا شعار الخمير الحمر. لقد كان ضروريًا أن يتخلى المرء عن إنسانيته، وكان دوخ فخورًا أنه اصطحب بنفسه المتدربين الجدد ليقتلوا أقاربهم.
كان دوخ يردد دائمًا قصيدة آلفريد دي فيغنيس «موت الذئب» الذي يموت بعد أن قام بفعل القتل:
الإنسانية لدى دوخ لم تعد موجودة، صارت تعبر عن الضعف والتردد، حين طرحت عليه سيروني السؤال الذي لطالما أرادت حنا أرندت أن تطرحه على آيخمان أثناء محاكمته في القدس: ما الذي حل بضميرك؟ لم يفهم السؤال. لقد كان فخورًا بفعله لدرجة أنه طالب بالإفراج عنه.
لا يخلق الاستبداد مجرمين فقط، بل يدفع الناس ليحذفوا لديهم ملكة التفكير، يحولهم إلى بيروقراطيين قادرين على اقتراف أكبر الجرائم دون أدنى تأنيب للضمير. الشر هنا سطحي وناتج تحديدًا عن عدم التفكير. إنها «سخافة الشر المرعبة» بحسب تعبير حنا أرندت، حيث يتخلى الناس طواعيةً أو كرهًا عن شخصياتهم لصالح «النظام». النظام هنا يخلق أناسًا على شاكلته، و«إنسان النظام» (System-Human) يتخلى عن هويته الفريدة والمعقدة لصالح تفكير جاهز يعرضه عليه النظام. إنه يظن أنه يتصرف بالطريقة التي يريده الآخرون أن يتصرف بها.
يميز الفيلسوف البريطاني «جوليان باغيني» بين عشرة أشكال للشر، و باعتقادي أننا نعاني بشكل أساسي من ثلاثة أشكال منها في منطقتنا العربية. الشر الأول هو ما يمكن تسميته بشر النظام العام، ولعله أسوأ أنواع الظلم وأقساها، إذ يصبح هنا هذا الشر «طبيعيًا» وجزءًا من عادات المجتمع والدولة المتوارثة عبر الأجيال ويرتكبه المرء دون أن يفكر فيه. والشر الثاني هو ما يسميه باغيني «شر التواطؤ»، حيث يجنح الناس للعمل المشترك وتجنب ما من شأنه إثارة النزاع المجتمعي ولو كان ذلك يعني استمرار الظلم دون تغيير. وإذا كان شر النظام العام يساهم في «تطبيع» الشر بشكل دائم على المدى البعيد، فإن شر التواطؤ يُساهم في «تطبيعه» على المدى القصير. الشكل الثالث للشر هو «الشر الأيديولوجي»، وهو الشر الذي يتيح لمرتكبه ضميرًا مرتاحًا.
ما الذي يثير إعجابنا في شخصية الشرير؟
لا تعاف النفس البشرية بالمطلق، وكثيرًا ما تمنينا خلال متابعتنا لأحد الأفلام أن ينتصر الشرير في النهاية، فما الذي يدفعنا لذلك؟ ما الذي يلهمنا في «Breaking Bad» أو «Fargo» أو «Godfather»؟
بالنسبة للعرّاب، فالأمر واضح. تثير شخصية رجل العصابات الهادئ لدينا الإعجاب. وربما يكون التفسير لهذا الإعجاب هو ما قاله «رونالد بارتيس» في كتابه «أسطورة الحياة اليومية» (Mythos des Alltags):
القاتل عديم المشاعر
في مسلسل «فارغو» لا يرتكب الشرير خطاياه لأجل المتعة، هو يريد بالأحرى تدمير ترتيب هذا العالم الذي يراه منافقًا ولا أخلاقيًا، لكي يفتح المجال لمستقبل أفضل. ما يريده الشرير هنا أن يقول لنا إن العالم في حد ذاته هو الجحيم وليس الجرائم التي اقترفها هو.
إنه أمر شبيه بقصتنا مع السلفية الجهادية، المظلومون الذين حرقهم العالم وحرقوه. إنها أصالة معادية للمجتمع (asoziale Eigentlichkeit) بحسب تعبير «هايديغير». هذا الموقف الذي يمكن الفوز به فقط من خلال الانفصال الجذري عن المجتمع، حيث يستطيع الإنسان من خلال هذا الانفصال التعرف على قدراته. وهو ما يثير إعجابنا في هذه الشخصية، إنها ترينا أن عالمًا آخر (غير هذا العالم الذي نرزح جميعا في أغلاله) ممكن، ولتحقيقه يحتاج المرء لأدوات خاصة.
الشرير الذي ظلمته الأقدار
كان لدي صديق من الضفة الغربية في فلسطين تعرض للاعتقال 17 عامًا لدى الاحتلال الإسرائيلي، وتعرض بعدها وقبلها لمضايقات مستمرة من السلطة الوطنية الفلسطينية. لقد أمضى الرجل حياته في النضال ضد الظلم، ولكنه بالرغم من ذلك مدافع فحيح عن نظام الأسد وحزب الله وما يرتكبونه في سوريا. مثل شخصية والتر وايت في «Breaking Bad»، والتي هي شخصية مكررة في التاريخ، وهي نهاية تعيسة للمظلومين الباحثين عن العدالة، الذين يتحولون خلال بحثهم عن عدالتهم إلى وحوش لا يحدها قانون.
ما الذي يعجبنا في هذه الشخصية التي قلبت حياتها 180 درجة وخاضت ثورة في سبيل ذلك؟ قد تكون نظرية الظل لـ «كارل غوستاف يونغ» مناسبة لتفسير هذا الإعجاب. فبحسب محلل النفس المولود عام 1875 في سويسرا، يتجمع في الظل كل المميزات الشخصية التي نرفضها في وعينا، ولذلك فإنه من المهم أن نعترف بهذه الجوانب المظلمة في الشخصية. عندما يُواجه والتر وايت بالعنف والمال والقوة وغياب العدل في هذا الوجود، فإنه يفعل ذلك بالنيابة عنا نحن. نحن نشعر في تلك اللحظة بالتعاطف والسعادة لذلك.
وقد تكون كلمة السر في هذا الإعجاب بشخصية الشرير في هذه المسلسلات الثلاثة وغيرها هو «أنسنة» الشرير. فالشرير هنا هو ظالم تعرض للظلم في تاريخه، ولديه دوافعه التي قد تبدو مشروعة، وعائلته التي يخاف عليها. هو باختصار «إنسان» يفعل أشياء شريرة.
هل من الممكن التخلص من الشر؟
في مراسلات تاريخية عام 1932 بين شخصيتين أثّرت نظرياتهما في تاريخ الفيزياء والتحليل النفسي حتى يومنا هذا، سأل ألبرت آينشتاين سيغموند فرويد إن كان بالإمكان التحكم بالتطور النفسي للبشر، بحيث يستطيع الإنسان مقاومة دوافع الشر والإفناء لديه، هذه الرغبة التي تظهر لدى البشر بمجرد توافر الظروف بحسب آينشتاين.
في رده: رأى فرويد أن هناك غريزتين تتنازعان الإنسان: غريزة التدمير ويعاكسها غريزة الشهوة التي تعني الحب، ولذلك يرى أن الإنسان يحافظ على حياته فقط من خلال تدمير حيوات الآخرين.
بالنسبة لفرويد فإنه من طبيعة الأشياء أن ينقسم الناس بين قائد ومعتمدين عليه، وهم من يمثلون الأكثرية الراغبة بأن يتخذ القائد القرارات بالنيابة عنها، وبالنسبة لفرويد فإن الحالة المثالية هي أن يخضع البشر جميعًا لدكتاتور واحد هو العقل، ولأن هذا لن يحصل فإنه لا أمل بأن تختفي الحروب.
السؤال التالي يصبح أكثر إلحاحًا: هل من الممكن أن يكون التفكير بحد ذاته -بمعنى فحص كل شيء موجود أو يثير الانتباه- من الشروط التي تمنع الناس من الاستعداد للشر؟ هل نقول إذن باستحالة التغلب على الشر؟
لا طبعًا، سيبقى الشر على هذه الأرض ما بقي الإنسان عليها، ولكن من الممكن التقليل منه، والأهم إيجاد طرق عقلانية لإدارته. ربما يجب علينا في البداية الاعتراف بالشر والكف عن المبالغة في التطهر، وإعادة تعريف بعض «الشرور» وإخراجها من هذه الدائرة وجعلها مجالاً للتداول العام، كالسعي للسلطة مثلاً، والرغبة في الوصول للحكم، كما يجد المرء في كثير من التأصيلات في التاريخ الإسلامي.
والمُتتبِّع لهذا التاريخ -ولكل تاريخ في الحقيقة- سيجد أن معظم حروب البشرية بأنواعها كانت من أجل السلطة، ولكن البشرية استطاعت بعد تجارب مريرة الوصول للديمقراطية، التي أتاحت تداول السلطة بدون إسالة للدماء.
علينا الاعتراف بالشر، وعلينا أيضًا أن نتحلى بالشجاعة للاعتراف بالمسئولية عنه حين نكون مشاركين فيه، نحن كشعوب مسئولون (أخلاقيًا وليس جنائيًا طبعًا) عن الجرائم التي يرتكبها حكامنا أو مجتمعاتنا باسمنا، حين لا نسجل اعتراضنا على ذلك. ولكن هذا يتطلب تفكيرًا حادًا وتمعنًا دائمًا، وهذه مهمة شاقة، ولكنها بالتأكيد أخف وطأة من بحور من الدماء كان من الممكن تجنبها لو لم نُعطِّل لدينا ملكة التفكير.