إذا عرف العبيد كونهم عبيدا وأخبروا أبناءهم بذلك، وأصبح أمر التحرر قضيتهم الكبرى – باختلاف الوسائل -، فلابد أن يأتي اليوم الذي ينتزعون فيه حريتهم كاملة غير منقوصة.. رغما عن أنوف الجميع.

أما عندما يظهر بأسهم فيما بينهم، وتثور ثائرتهم على القشور والبقايا، متناسين جوهر العبودية وحقيقتها… وعندما تختفي القضية الأساسية من التداول والحديث، وتحل محلها قضايا أخرى معدة مسبقا…

فلن يأتي يوم التحرر أبدا!

ولن يزيدهم الزمن إلا ضعفا، حتى يعتادوا الرق إلى حد نسيان وجوده.

فبينما يقيم لهم السيد المهرجانات الحاشدة احتفالا بنهاية أسوأ عصور العبودية! ويظهر أمام الناس وهو يلعن العبودية وأيامها المظلمة التي كان الإنسان فيها مجرد سلعة تباع وتشترى، أو رقما يحسب ويعد، رقم يولد ويدخل المدرسة… يتخرج من الجامعة – لا تعجب كان لديهم جامعات! – ويموت.

فعلى الجانب الآخر لم يعلم العبيد أن السيد كان يخطب عنهم.

كانوا مثيرين للشفقة.. كثور أحب الساقية المربوط إليها كالوطن!

كانوا مساكين، كحمار إلى وتد.. حسب الوتد القوي إلها مقدسا!

فبدلا من اخفاء القيد الدال على عبوديتهم، والخجل من ظهوره على الملأ…. كانوا يجتهدون في تحسين شكل القيد، ويتفاوضون لجعله أكثر ملائمة للمعصم لكيلا يترك أثرا. فالمؤلم هنا هو العلامة على المعصم أما القيد نفسه فليست لديهم مشكلة من أي نوع معه.

نشأت ظاهرة الاستعباد منذ عشرات الألوف من السنين، وتحديدًا في فترة التحول من الصيد إلى الاعتماد على الزراعة المُنَظّمة كوسيلة لاكتساب الرزق.. يقول المؤرخ الكبير «ويل ديورانت» في موسوعته الشهيرة قصة الحضارة:

بينما كانت الزراعة تُنْشيء المدنيِّة إنشاءً فإنها إلى جانب انتهائها إلى نظام الملكية، انتهت كذلك إلى نظام الرق الذي لم يكن معروفًا في الجماعات التي كانت تقيم حياتها على الصيد الخالص، لأن زوجة الصائد وأبناؤه كانوا يقومون بالأعمال الدَّنيَّة، وكان فيهم الكفاية لذلك، وأما الرجال فقد كانت تتعاقب في حياتهم مرحلة تضطرب بنشاط الصيد أو القتال، يتلوها مرحلة من فتور الاسترخاء والدعة بعد الإجهاد والعناء. ولعل ما تنطبع به الشعوب البدائية من كسل قد بدأ – فيما نظن – من هذه العادة. عادة الاستجمام البطيء بعد عناء القتال و الصيد، ولو أنها لم تمكن عندئذ كسلاً بمقدار ما كانت راحة واستجامًا؛ فلكى تحوِّل هذا النشاط المتقطع إلى عمل مطرد، لابد لك من شيئين: العناية بالأرض عناية تتكرر كل يوم، وتنظيم العمل.

ويظهر من كلام ديورانت أن العبودية ملازمة للإنسان المتحضر، ليس كما ظننا أنها نشأت في قوم متخلفين يسكنون الكهوف والأماكن النائية، لا يعرفون الإتيكيت ولا يحسنون تنظيف ملابسهم الرثة!

وإنما بدأت مع بداية التحضر وسكنى المدن، فقد بدأ المتحضرون يبنون المدن على ضفاف الأنهار للاستفادة من مائها في ري المزارع ورعي الماشية، لكن الإنسان المتحضر كان يحب التميز عن الإنسان البدائي فكان يأنف عن ممارسة تلك الأعمال بنفسه، فظهر بديل رخيص لهذا الأمر هو العبودية والرق! فأول من بدأ باحتقار فئة من البشر جاعلا نفسه أعلى منهم هو الإنسان المتحضر، واستمر هذا الأمر معه إلى ما شاء الله.

ويروي كثير من الرحالة أيضا أن شعوبا همجية معاصرة لا تعرف الرق كسكان أستراليا الأصليين وشعوب الإسكيمو والقبائل التي تعيش في حوض نهر الأمازون وفي وسط أفريقيا وفي جزر المحيط الهندي.

فليس من الصحيح أن نقول أن العبودية انتهت دون النظر إلى تاريخها، ودون النظر أيضا إلى جوهرها وأركانها، فجوهر العبودية هو تقسيم الناس لأسياد وعبيد، والفاصل بينهما العقل، فمن وُهب عقلا ممتازا فله الحق في الحرية وهو خليق بأن يطاع، والعبد لا يستطيع أن يسير حياته بمفرده ويحتاج إلى سيد يرشده ويهدي عقله المسكين – ألا يذكرك هذا بتعامل الدول العظمى مع دول العالم الثالث! –، كما أن حياة العبد مرهونة بمدى رضاء سيده عنه، فهو في حد ذاته ليس له الحق في أي شيء إلا أن كرم السيد شمله وعمه.

بعدما ظهر جليا أن تاريخ العبودية.. ليس كما نظن!

وأن جوهر العبودية أيضا… ليس كما نظن!

فلننظر إلى العصر الحديث، فعند قياس جوهر العبودية على العصر الحديث، تظهر أمور كثيرة تطابق جوهر العبودية السالف ذكره، لكن لا أحد ينادي بإلغاء العبودية في تلك الأمور!

منها مثلا أن الإنسان قد اخترع حصنا منيعا، يحتجز فيه الناس من سن معين إلى سن آخر بلا إرادة منهم، يتم التعامل مع كل المحتجزين فيه بنفس الطريقة والأسلوب، مهما اختلف الشخص، مهما اختلف العصر.

فأول عشرين عاما من حياة أي إنسان، ثابتة الشكل والمضمون، معدة مسبقا بنمط لا يحيد عنه، مهما كان دينه، وطنه، شغفه، مهاراته، أحلامه!

ولم يكتف إنسان العصر الحديث بذلك، فقرر أن يوطد إنتاج النسخ الكربونية من البشر، باختراع آلة تهدف لتزويد الجماهير بأكبر قدر من المعلومات الصحيحة (كما كان مفترضا لها)، إلا أنها تفعل كل شيء ممكن عدا ذلك الهدف.

فهي تضع نموذج الإنسان المثالي، كما يريده من يدفعون أكثر!

وهي تحلل المعلومات وتربطها، بما يناسب من يدفعون أكثر!

وهي تحشد الجماهير والرأي العام، في وجهه يحددها من يدفعون أكثر!

وهي تغض الطرف عن بعض ما يحدث في الواقع، لصالح من يدفعون أكثر!

وهي تنقل الصور الكاذبة عن الواقع، للحصول على مكاسب لصالح من يدفعون أكثر!

فالمعلومة الصادقة التي لا مراء فيها، والمصلحة التي وجب الحفاظ عليها… هي من يدفعون أكثر!

وختاما إليك بعض الإحصائيات التي تعرضها تلك الآلة نفسها عن العبودية في عصرنا الحديث، ولا تنس أن هذه الإحصائيات بها هامش خطأ يقدر ب 10000%، مراعاةً لمن يدفعون أكثرّ!

1. كشفت منظمة «ووك فري» الدولية التي تكافح العبودية اليوم الثلاثاء، أن 45.8 مليون شخص تقريبا من نساء ورجال وأطفال حول العالم عالقون فيما أسمته «العبودية المعاصرة» وهو عدد أكبر بنسبة 28% من التقديرات السابقة، وقالت المنظمة الحقوقية إن لديها أدلة على وجود العبودية في جميع الدول التي حققت فيها وعددها 167.

ويُعَرف تقرير المنظمة العبيد بالأشخاص الذين يجبرون على أداء الأعمال التي يقومون بها، والذين يقيدون بالديون، والذين يخضعون للبيع والشراء، والذين يتم استغلالهم جنسيا من أجل المال، والذين يجبرون على الزواج المذل.

2. وحسب المؤشر الدولي، تأتي هايتي في المرتبة الثانية بعد موريتانيا في انتشار العبودية بين السكان حيث يسود نظام عبودية الأطفال يشجع الفقراء على إرسال أطفالهم للخدمة في بيوت معارفهم الأغنياء حيث يجري استغلال الكثيرين منهم وتساء معاملتهم. وبعد هايتي تتدرج نسب انتشار العبودية من الأعلى إلى الأقل في باكستان والهند ونيبال ومولدوفا وبنين وساحل العاج وجامبيا والجابون.

وعلى الجانب الآخر من المؤشر تأتي أيسلندا باعتبارها صاحبة أقل نسبة انتشار للعبودية إذ لديها أقل من مئة شخص مستعبد. وتليها إيرلندا ثم بريطانيا ونيوزيلندا وسويسرا والسويد والنرويج ولوكسمبورج ثم فنلندا والدانمارك، لكن الباحثين قالوا إن معدلات العبودية في هذه الدول الغنية أعلى مما كان يعتقد من قبل.

3. لا زالت العبودية، رغم إلغائها نظريا في جميع بلدان العالم، موجودة واقعيا بأشكال مختلفة ومخيفة. ففي العالم يوجد اليوم أكثر من 400 مليون طفل مستعبد، بحسب ما أشار إليه تقرير نشرته وكالة «أوروبا برس» الإسبانية بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة استعباد الأطفال الذي يوافق 16 نيسان/ أبريل من كل سنة.

4. إجبار على العمل في ظروف قاسية، إجبار على العمل في زراعة القنب، إجبار على العمل في الدعارة.. صور ثلاث كشفت عنها وحدة التحقيقات في شبكة الجزيرة في تحقيق جديد حمل عنوان «العبودية الحديثة في بريطانيا»، يظهر مدى تغلغل العبودية الحديثة في ضواحي بريطانيا.

فيا من يدفعون أكثر، ارحموا عزيز قوم ذل! إرحموا إنسانا متخلفا جعلتموه «متحضرا»!

ولو أنه علم أن التحضر يكون هكذا، لفكر مرارا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. قصة الحضارة، ويل ديورانت
  2. الرق ماضيه وحاضره، عبد السلام الترمانيني.
  3. أوروبا برس: 10 حقائق مخيفة عن العبودية الحديثة في العالم.
  4. ووك فري: 45.8 مليون شخص في العالم تحت "العبودية المعاصرة".
  5. العبودية الحديثة في بريطانيا.