ماذا تفعل النساء في عوالم الرجال التلفزيونية؟
في العدد 54 من القصة المصورة «المصباح الأخضر – The Green Lantern» الصادر عام 1994، يعود البطل المصباح الأخضر إلى منزله ليجد حبيبته «أليكسندرا ديويت» قد تم قتلها وتكديس جسدها داخل ثلاجة من قبل أعدائه كانتقام منه واستفزاز له.
حينما قرأت الكاتبة «جيل سيمون» ذلك العدد خطرت لها فكرة إنشاء موقع إلكتروني عام 1999 مع مجموعة من زملائها بعنوان «نساء في الثلاجات»، فيه يعددون قائمة مستمرة من الشخصيات النسائية في القصص المصورة فيها يتم استخدام تلك الشخصيات كأدوات لتحريك منحنى تطور شخصية البطل الرئيسية الذي غالبًا ما يكون رجلاً، تقضي هؤلاء النساء فترة قصيرة في حيوات الأبطال ثم يستخدمهن الأشرار سواء بالقتل أو إفقاد القوة أو التهديد أو التشويه، وفي كثير من الأحيان يفشل البطل في إنقاذهن مما يعمق لديه شعورًا بالذنب والمسؤولية وتتطور شخصيته وتقوى ويكتسب دفعة انتقامية أو مسحة من الحزن تزيد شخصيته عمقًا.
يستدعي مسلسل «الاختيار» بجزئه الثالث الكثير من النقاش والجدل، ويذكر اسمه يوميًا لأسباب عدة من المؤكد أن تمثيل الشخصيات النسائية ليس منها، فهو عمل استقطابي بطبيعته يتناول أحداثًا وشخصيات حقيقية لم يمر على اختبارنا لها إلا عدة سنوات فتظل الجروح مكشوفة يسهل استثارتها، لكن بعيدًا عن جوانبه السياسية أو البروباجندية فإن العمل بعد كل شيء يقدم نفسه كعمل درامي، ويعرض في موسم رمضاني، ويعمل به ممثلون وكتاب ومخرجون وفريق كامل لكي يخرجه إلى النور، وبالنظر إليه كعمل درامي يصعب تجاهل النمط الذي يختار صناعه كتابة الشخصيات النسائية به جزءًا بعد جزء، فهن غالبًا زوجات الأبطال، هادئات وجميلات لا يملكن أهلية كاملة على حيواتهن، لكنهن أيضًا شخصيات تراجيدية، لا يُصَبن في الدفاع عن الوطن لكنهن يملكن نصيبهن من الأسى القدري.
هل أحضر لك الطعام؟
يبني مسلسل الاختيار 3 من إخراج «بيتر ميمي» وكتابة «هاني سرحان» قصته الأساسية المبنية على أحداث وشخصيات حقيقية حول ثلاث شخصيات خيالية يساعدون في العمل على ملء الفراغات الخيالية وحبك الدراما وخلق المواقف والعلاقات الإنسانية، تم اختيار الثلاثة أبطال بمواصفات نجومية وشكلية محددة كل منهم يملك قاعدة جماهيرية واسعة من الرجال والنساء وهم كريم عبد العزيز في دور الضابط زكريا الضابط بالأمن الوطني أمن الدولة سابقًا والذي يعود لأداء الدور بعد الجزء الثاني من الاختيار، وأحمد عز في دور مروان الضابط في المخابرات العامة والذي يقوم بشخصية شبيهة في المسلسل الأقل جماهيرية هجمة مرتدة فيما يمكن تسميته عالم المخابرات السينمائي، وأحمد السقا في دور مصطفى الضابط في المخابرات الحربية.
بجانب المغامرات اليومية وقالب مسلسل التحقيق البوليسي الذي يمكّن كل شخصية من استعراض قدراتها التمثيلية والجسدية ويساعد على خلق الإثارة المستمرة المترتبة على أيام من مراقبة الشخصيات ثم الهجوم المسلح المنظم عليها، فإن كل شخصية تملك حياة خاصة من المفترض أن تساعد على جعلها شخصيات ذات ثقل وعمق وليست مجرد أوعية لتحقيق أهداف القائمين على العمل، لكن على مدار الثلاثة أجزاء يمكن ملاحظة نمط في تناول الشخصيات الثانوية التي تلعب الأدوار المختلفة في حيوات الأبطال خاصة من النساء، كل شخصية تملك زوجة أو تسعى للحصول على واحدة، تلعب المشاهد المصورة في المنازل دور التعريف بعوالم تلك الشخصيات بعيدًا عن عملها لكنها لا تبتعد أبدًا عن العمل، يمكن تتبع نمط كتابة الجمل الحوارية للزوجات في الثلاثة أجزاء لتجد أنها لا تخرج أبدًا عن الحديث عن أزواجهن، يطمئنن على أعمالهن أو يعرضن طبخ الطعام أو المزاح حول مدى جودة الطبخ أو احتمال مزاج الزوج المتعكر بسبب عمله في وظيفة خطرة، يمكن حصر الجمل الواردة على ألسنة الزوجات في: «هل أحضر الطعام» أو «أنا قلقة عليك، لا تبدو في حال جيدة»، لا تملك هؤلاء النساء أي وجود مادي أو معنوي خارج أزواجهن، لا تملك النساء مواضيع للحديث غير الرجال كما لاحظت فيرجينيا وولف في أدب عصرها في أوائل القرن العشرين.
يملك الضابط زكريا (كريم عبد العزيز) زوجة جميلة تدعى نادية ظهرت في الجزء الثاني من المسلسل قامت بدورها إنجي المقدم، ثم تغيرت الممثلة فجأة دون اهتمام حقيقي من الصناع بتفسير ذلك التغيير فقامت بدورها في الجزء الثالث إيمان العاصي، تملك نادية وظيفة في مدرسة للأطفال لكن ذلك لا يساعد على إعطائها أي أهلية أو شخصية فحتى حواراتها داخل المدرسة تكمن في الدفاع عن زوجها وبطولته ضد النساء النمطيات الأخريات اللاتي يتحدثن بالسوء عنه وعن أجهزة الدولة، أما الضابط مصطفى فيملك زوجة جميلة أيضًا تدعى فاطمة تلعب دورها هيدي كرم، لكنها تملك شخصية مغايرة قليلاً لنادية فهي ذات صوت أعلى وسهلة الاستثارة والقلق، لكن ومع الاختلافات الطفيفة للشخصيتين أو للثلاثة بعد تغيير الممثلة فإن مساحة أدوارهن وعمق شخصياتهن واحدة، تكتب لهن الجمل ذاتها والمواقف نفسها، لا يوجد ما يفرقهن عن بعضهن فجميعهن زوجات الضباط.
في حين أن الضابط مروان الذي يلعب دوره أحمد عز في شخصية لعبها مئات المرات، فهو وسيم وذو تأثير واضح على النساء لم يتزوج بعد، لكن المسلسل يخلق له قصة رومانسية وبداية تعارف على فتاة جميلة وهي بسمة (ميرنا نور الدين) معيدة بكلية الفنون الجميلة، يأسرها مروان بشخصيته ومظهره يعاملها ببرود حينًا وبحنان حينًا وبالطبع لا يخبرها الحقيقة حول طبيعة عمله، ومن حين لآخر يهددها مازحًا بضرب رأسها في الطاولة إذا أقدمت على فعل يثير غيرته، ليست تلك هي العلاقة الرومانسية قبل الزواج التي يعرضها المسلسل فقد قدم ذلك في العام الماضي مع شخصية عالية (أسماء أبو اليزيد) التي أحبها يوسف (أحمد مكي)، لكن بسبب أداء أسماء وإضفاء سمات مميزة للشخصية وشعورها ببعض من الأهلية تم تقديم زوج يمكن التعاطف معه ويمكن النظر إليهما كندين متكافئين دون الديناميكية النوعية الفوقية التي تمثلها شخصية الضابط مروان، استمر ذلك حتى تزوج كل من يوسف وعالية فأصبحا جزءًا آخر من كتالوج الزوجات والأزواج الذي يسير وفقه العمل.
نساء في الثلاجات
ربما يمكن تسمية تلك المتلازمة باسم فيلم محمد خان الشهير زوجة رجل مهم، لكن ذلك الفيلم عمل على تفكيك ذلك التمثيل وتبيان طبيعته المدمرة والمسممة أما هنا فإن العمل يتعامل مع ذلك وكأنه طبائع الأمور، الأزواج هم الأبطال في أعمالهم وفي حكاياتهم والزوجات والحبيبات يقلقن دون حتى إعطائهن الحق في معرفة أبعاد عمل الزوج أو الحبيب أو حتى إشراكهن في مواضع القلق طالما سوف تتمحور حياتهن حولها، تملك هؤلاء الزوجات نمطًا آخر يتكرر في الحكايات المتمحورة حول الرجال خاصة هؤلاء الذين يتولون أدوار الأبطال، يحاربون الشرور ثم يعودون لمنازلهم لفترة قصيرة، يلجأ المؤلفون لإعطاء الزوجات والحبيبات لهؤلاء قصة مأساوية تنتهي بالموت أو المرض الشديد، فتتلخص الشخصية النسائية في ذلك، تلك الجميلة النائمة التي تعطي للبطل قصة تراجيدية تثقل أحزانه وتجعله أكثر إنسانية.
يمتلئ الاختيار بنمط النساء في الثلاجات الذي صكته جيل سيمون في التسعينيات، لكن نساء الاختيار لا يملكن حتى الأهمية الكافية التي تجعلهن أهدافًا للأشرار مثل أزواجهن، فيصبح القدر هو المتحكم في مصائرهن، في الجزء الثاني من المسلسل أصيبت نادية (إنجي المقدم) المقدم بسرطان عضال أفقدها قواها ورونقها وجزءًا من جمالها، فأصبح ذلك أحد تحديات شخصية زكريا الاعتناء بزوجته المريضة التي يلمح العمل كثيرًا بإمكانية موتها، لكن بعد تحسنها يتم تبديل الممثلة دون اهتمام حقيقي بأي رابط بينها وبين المشاهدين أو بينها حتى وبين زوجها بممثلة أخرى حتى أن بعض المتابعين رجحوا أنها توفيت وتزوج زكريا من بعدها ليتضح بعدها أنها تملك الاسم نفسه، يصعب في عمل مثل ذلك أن يتبدل كريم عبد العزيز مثلًا بممثل آخر باسم الضابط زكريا ليكمل الدور وكأن شيئًا لم يكن وهذا لأن ذلك النوع من الأعمال يربط الممثلين بشخصياتهم لكن فيما يخص الشخصيات النسائية فذلك لا يهم كثيرًا.
في الاختيار 3 يقرر صناع العمل إمراض زوجة أخرى وهي فاطمة (هيدي كرم) زوجة الضابط مصطفى، يعطيها مرضًا نادرًا تفقد فيه ذاكرتها بالتدريج ويتلف دماغها، لكنها تختار ألا تحمل زوجها فوق طاقته وألا تخبره بتفاصيل مرضها لكي لا ينشغل بها عن عمله الحرج، حتى يفوت الأوان وتخرج الأمور عن السيطرة ويبدأ حال فاطمة في التدهور وتموت بعد مشهد مؤثر يجمعها بزوجها في النصف الأول من العمل، وتبقى ذكراها عالقة في بيتهما وفي ابنها الذي يجد صعوبة في التأقلم، يعطي موتها مصطفى شيئًا إنسانيًا للحديث عنه ويعطيه عمقًا وحزنًا يجعله أكثر إثارة للتعاطف، بالطبع تلك الأشياء تحدث، يمرض البشر من كل الأنواع ويموتون لكن الاختيار لم يعطِ هؤلاء النساء عمقًا أو ثقلاً كافيًا حتى يصبح مرضهن أو موتهن شيئًا يخصهن لكنه سطحهن تمامًا فأصبحت مآسيهن جزءًا من شخصيات الرجال في حياتهن، حتى الموت لا يخصهن.
عندما تظهر النساء في الاختيار في أدوار غير رئيسية أو غير زوجات الأبطال فإنهن رموز لانتماءات محددة متناولة بسطحية كذلك، فهنالك السيدة المسيحية التي ترغب في الهجرة أو السيدات المحجبات ذوات الوجوه المقطبة ليمثلن التيار الذي يراه العمل عدوًا، هؤلاء تكمن أدوارهن في التحديق في النساء الأخريات غير المحجبات وإطلاق التعليقات المهينة الفوقية، أو تظهر مثلًا زوجات الأهداف الذين يسعى الضباط لضبطهم فيتراوح تمثيل هؤلاء بين الشر والسذاجة وإثارة الشفقة، ربما يملك مسلسل الاختيار موضوعات أكثر إثارة للجدل والاهتمام من تمثيله للنساء فهو يقدم نفسه كعمل «توثيقي» لكن طالما وضع أفكاره داخل عمل درامي فإن تناوله لتلك الدراما التي تتسع لأكثر من الرجال الوسيمين ذوي الكاريزما منقوص ويعكس رؤية القائمين عليه للشخصيات النسائية داخل الدراما وربما خارجها.