«ماذا نفعل بدون كالفينو»: بين أسطرة الواقع وتصويره فانتازيًا
يشير عنوان مجموعة الروائي والقاص العراقي «ضياء جبيلي» مباشرةً إلى الروائي والقاص الإيطالي الشهير «إيتالو كالفينو» المعروف برواياته وقصصه التي تجنح إلى المزج بين الواقع والأسطورة، ولعل ذلك ما جعل «جبيلي» يضع اسمه عنوانًا للمجموعة، وكأنها إشارة واضحة إلى قدر التأثر والإعجاب بعوالم ذلك الروائي الفذة، وقدرته على نسج عالم قصصي يأخذ من الواقع المعيش مفرداته البسيطة وتفاصيله الصغيرة، ثم يجنح بها إلى عوالم الفانتازيا والخيال الرحبة.
على خطى «كالفينو» يسير «جبيلي» في مجموعته، فيقدّم عبر أربعة عشر نصًا قصصيًا عالمًا متنوعًا يدور بين الواقع والخيال، في لغةٍ قصصية رشيقة وقدرة على التقاط عددٍ من تفاصيل الحياة العادية وتصويرها بشكل سردي متقن، وهو وإن كان يسير على نهج «كالفينو» في عدد من قصصه، إلا أن قصصه تأخذ بعدًا ومساراتٍ أخرى تبدو أكثر واقعية وبساطة، مثلما نرى في قصة «شعرية لانتشو بلحم البقر»، التي لم تقتصر على مشهدٍ أو موقف محدد.
بل ربما لا نجد فيها ذلك البعد الفانتازي الذي نجده في باقي القصص، بل نجد فيها ملمحًا سرديًا وسيرة حياة رجل بين «الصين»، و«العراق» بطريقةٍ تجعلها أقرب ما تكون إلى بذرة رواية طويلة، بما تشمله من تفاصيل وما فيها من تعاقب أجيال، حيث يحكي حكاية «أكرم» الذي يصل إلى الصين أخيرًا مع الوفد العراقي المشارك في الألعاب اللأوليمبية للمعاقين، والحكاية العكسية لرحلة «شو يانغ» القادم من الصين إلى البصرة والمفارقات التي قادته إلى إنشاء أول مطعم صيني هناك، وما يلي ذلك من أحداث.
اقرأ أيضًا: من ضيق الواقع إلى رحابة الخيال: قراءة في قصص «شريف صالح»
كما نجد عالمًا واقعيًا مأساويًا شديد البساطة في قصصٍ مثل «المتسوّلة» التي تحسدها رفيقاتها المتسولات كونها استطاعت أن تحصل على أموال طائلة من جنود الاحتلال، مما يجعلهن يسلطن عليها الطوائف المتشددة وهن يتهمنها بالفساد والانحراف، لتأتي نهايتها المأساوية كاشفةً عن الحقيقة التي لم يكونوا يتخيلونها، أو قصة «تهنئة من رئيس الوزراء» التي تدور بين عالم البسطاء وما يفعلونه وكيف تدور حياتهم بعيدًا عن رجال السلطة والنفوذ.
من جهةٍ أخرى يقدّم «جبيلي» في قصص أخرى عالمًا فانتازيًا يراوح بين إمكانات التأويل الرمزية، وبين كونه مجرد حكي مجرد يأخذ من عالم الواقع تفاصيله ليضفي عليها شيئًا من الفانتازيا، وهو ما نجده في قصة «المستشفى التشيكي» الذي يحضر فيه «فرانز كافكا»، ويبدأ بطل القصة في استجوابه، أو قصة «الطفل الطائر»، في الوقت الذي نجد فيه قصة مثل «الوقوف» وفيها دلالة رمزية شديدة الوضوح على ما وصل إليه حال العراق من مأساةٍ تجعل العالم كله يراه ويتابع أحداثه، فيما هو وشعبه كتمثالٍ متجمد لا يقوى على الحراك!
دارت قصص المجموعة بين مواضيع شتّى، ولا شك أنها تفتح الكثير من الأسئلة وتعرض عددًا من القضايا الإشكالية الشائكة، قضايا ذات علاقة بالهوية، كما نرى في قصة «الوقوف» تلك، وما نجده من رمزية وواقعية في قصة «تلويح»، أو بدور الفرد في المجتمع من خلال علاقة اللصوص حتى بسارقيهم كما نجدها في قصة «حسيبة»، كما استطاع أن ينسج قصة رمزية شديدة التأثير والبلاغة في قصة «بيكا» التي حوّلت أوراق الكتب إلى غذاءٍ افتراضي لمولودها الغريب حتى أكلتها الفئران! أو المأساة التي سيطرت على بطل قصة «المتهجي» بسبب براعته الحديثة في نطق الحروف وتمكنه من القراءة والمفاجأة القاسية التي كانت في انتظاره، وكأن المعرفة والعلم لعنة سرعان ما تصيب صاحبها وربما تقضي على حياته!
هكذا يقدّم «ضياء جبيلي» قصصًا معبّرة عن الواقع العربي بشكلٍ خاص، وإن اتسمت كذلك بسمة إنسانية عامة، كما يبدو واضحًا في قصص المجموعة أنه مهموم ببلاده، وهو ما نلحظه في كل تفاصيل كتابته سواء كانت روائية أو قصصيّة، فليس غريبًا أن أكثر قصص المجموعة تدور في البصرة وتبدو تمثيلاً رمزيًا لحال العراق وما آلت إليه حالها الراهنة.
عن ذلك يتحدث جبيلي في حوارٍ له في جريدة القدس بعد فوز مجموعته تلك بجائزة «الطيب صالح» في القصة القصيرة:
تجدر الإشارة إلى أن ضياء جبيلي روائي وقاص عراقي، ذاع صيته منذ كتب رواية «لعنة ماركيز» التي حصل بها على جائزة دبي الثقافية في الرواية عام 2007، وتحكي عن خمسة كتاب مغمورين يقررون كتابة رواية مشتركة عن العراق يسبقون بها ما سيكتبه «ماركيز»، يحكون فيها ما تعرضت له العراق في ظل ديكتاتورية صدام أيام التسعينيات، ولكنهم لا يتمكنون من ذلك. كما صدر له بعدها روايات «وجه فنسنيت القبيح»، و«بوغيز العجيب»، و«تذكار الجنرال مود»، و«أسد البصرة»، وروايته «المشطور» التي يبدو فيها متأثرًا أيضًا بعوالم «كالفينو» في روايته الشهيرة «الفيسكونت المشطور». بالإضافة إلى ذلك وصلت مجموعته القصصية «حديقة الأرامل» إلى القائمة القصيرة في جائزة الملتقى بالكويت عام 2017.