بماذا تفيد التذاكر الرخيصة في وطن ضائع؟
في عام 2011، نشر موقع «this is money» تقريرًا عن ارتفاع أسعار تذاكر مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز بشكل جنوني، بعد تحوله إلى الاسم الجديد الذي نعرفه الآن، والمعروف بالبريميرليج. وفقًا لبنك إنجلترا «BoE» فإن معدل التضخم ظل يتراكم بداية من عام 1990، حتى وصل إلى نسبة 77%، لكن أسعار التذاكر لم تكتفِ بتلك النسبة.
في هذا الوقت (1990)، كانت تكلفة أرخص تذكرة لمشاهدة فريق مانشستر يونايتد «3.50» جنيه إسترليني، وبحساب قيمة التضخم ستصل التكلفة في عام 2011 إلى «6.20» جنيه إسترليني. لكن هذا ما كنت تتمناه؛ لأن تكلفة التذكرة وصلت إلى «28» جنيهًا إسترلينيًّا، أي بزيادة تعادل 700%. تكلفة مشاهدة ليفربول أيضًا قفزت من «4» جنيهات إسترلينية إلى «45»، لتحقق زيادة تعادل 1025%.
أعرف ما تفكر فيه، تظن أن كاتب السطور السابقة هو الشخص نفسه الذي وضع قائمة بأسعار تذاكر المترو في الدول الأوروبية، وحوَّلها من الدولار إلى الجنيه المصري، ليقنعك بأسعار المترو الجديدة في مصر؛ في محاولة أكثر بؤسًا من سابقيها لإقناعك بأسعار تذاكر مباريات كأس الأمم الأفريقية في مصر.
سواء اقتنعت أم لا، فإن الرياضة بشكل عام، والرياضات الجماهيرية بشكل خاص، أصبحت ككرة الثلج، تدحرج فتزداد حجمًا يومًا بعد يوم. الرعاة، عائدات البث التلفزيوني، مرورًا بقانون اللعب المالي النظيف الذي يطبق وفقًا للأهواء، حوَّلوا اللعبة إلى تجارة، وأصبح لزامًا على المشجع أن يشارك. ليس فقط بالتشجيع بل بدفع الأموال والمساهمة في دخل النادي، فما بالك بمساندة الدولة المنظمة، وطنك؟
أين المشكلة؟
أعلنت اللجنة المنظمة لبطولة كأس الأمم الأفريقية في مصر عن أسعار تذاكر مباريات المنتخب المصري، وتبدأ من 200 جنيه للدرجة الثالثة، وترتفع تدريجيًّا حتى تصل إلى 300 جنيه لمدرجات الدرجة الثانية. حسب ما أعلنه «هاني أبو ريدة» رئيس اللجنة المنظمة ورئيس الاتحاد المصري لكرة القدم، فإن الأسعار ستُراجع بعد حالة الاستياء التي اجتاحت الجمهور المصري.
تدخل «أشرف صبحي»، وزير الشباب والرياضة، وتواصل بدوره مع «أبو ريدة» لمراجعة الأمر. ولم تتوقف المشاكل عند هذا الحد، فقد تأخر إطلاق الموقع الإلكتروني المخصص لبيع التذاكر أكثر من مرة، مما سيعرض عملية البيع لضيق الوقت أو سيجعلها موجهة من الأساس. ورغم الإعلان المبدئي عن مراجعة الأسعار ومحاولة امتصاص غضب الجماهير، فإن سيناريوهات التبرير كانت مجهزة.
أبدع، انطلق
تبدأ التبريرات بقسم «سيف زاهر» عضو الاتحاد المصري لكرة القدم بأن الاتحاد ليس له علاقة من قريب أو من بعيد بهذه الأسعار، وأنهم علموا بها من الإعلام. مع العلم أنه إعلامي أيضًا، مثله مثل معظم زملائه في المجلس. ثم ننتقل إلى نسب الفضل للدولة ومؤسساتها لنيل شرف تنظيم البطولة عن استحقاق بعد هزيمة ملف جنوب أفريقيا التي تمتلك بنية تحتية مكنتها من تنظيم كأس العالم قبل تسع سنوات، والتغاضي عن خلو مدرجات الدوري المصري.
“قبل ما تسأل بكام، اسأل هتاخد إيه. دي مش سلعة لازم تتوفر لكل الشعب. استنى اسمع الـ «service» اللي هتاخدها، أنت هتاخد منشآت جديدة، وتأمين من بيتك لحد الاستاد. خدمة جديدة تمامًا، تحملت الدولة ملايين لتقدمها”.
هكذا استطرد الإعلامي بقناة ON Sport ليشعرك أننا نتكلم عن دولة أخرى، الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا. هناك يلعبون كرة قدم خاصة بهم يسمونها football أيضًا. يشيِّدون استادات أفخم من تلك التي نعرفها في لعبتنا، وبالطبع التذاكر مرتفعة لأن الـ «service» ليس لها مثيل على مستوى الرفاهية.
المفارقة هنا أن «28» من أصل «32» فريقًا في كرة القدم الأمريكية «NFL» استعانت بأموال الضرائب لبناء الاستاد الخاص بها. ففي العشرين عامًا الماضية، تم إنفاق «7» مليارات دولار من المال العام «Public Money» لتطوير أو بناء ملاعب جديدة. فيما يشبه تمامًا غياب استاد الأهلي واستاد الزمالك، ووجود ملاعب بترو سبورت وبرج العرب. ووفقًا لسيف زاهر، علينا أن ندفع مقابل التطوير أيضًا؛ لأن أموالنا التي بُني بها القديم لم تعد تكفي.
«فلوس إيه يا عم، سمعة أمريكا أهم»
هناك في أمريكا، يقنع ملاك الأندية الولايات باستثمار مداخيل الولاية في تشييد الملاعب؛ لأن الأمر يشكل أهمية قصوى للجماهير، بجانب الكلام المعتاد عن إتاحة المزيد من فرص العمل. في استطلاع رأي لسكان مدينة «إنديانابوليس» أقر 75% من المشاركين بأن فقدان المدينة لفريقها سوف يضر بسمعتها. وعند سؤالهم عن فقدان المدينة لكل متاحفها، رأى 68% منهم أنه سيضر سمعة المدينة أيضًا. «سيف زاهر» لم يفوِّت ذلك أيضًا، فقد قال نصًّا:
في تقرير قناة «VOX» على يوتيوب، سُئِل عالم الاقتصاد بجامعة فلوريدا «Abhinav Alakshendra» عن الأمر، حيث قال إن معظم ملاعب الـ NFL في أمريكا لا تترك أثرًا إيجابيًّا على اقتصاد الدولة، وبدأ يعدد بعض البدائل التي كانت تستحق هذا الإنفاق كالطرق العامة، والمولات التجارية وغيرها. وأضاف أن العجلة ستظل في الدوران؛ لأن ملاك الأندية وجدوا الخدعة السحرية التي تمكنهم من الاستمرار وضمان أخذ حصصهم من المال العام، وهي ربط الأمر بسمعة البلاد.
الظروف لا تتشابه، وكذلك حجم الاقتصاد هنا وهناك، لكن الإسقاط على حالة أمريكا مشابه ولو قليلًا لوضعنا الحالي. المهم أن ذلك الخبير الاقتصادي اعترض على ما يحدث هناك رغم الحضور الجماهيري الكبير في بلاده، لا أعرف لو علم عدد الحضور في مباراة الأهلي والزمالك الأخيرة بالدوري، فكيف سيعلق؟ أترك لكم التخيل، ويبقى أن نستعرض وجهًا آخر لتنظيم مثل هذه البطولات حتى تكتمل الصورة.
التلميع الزائف
كل دولة تسعى لتجميل صورتها أمام العالم مستغلةً تنظيمها لبطولة قارية. في كأس العالم بروسيا 2018 أعلن الرئيس «بوتين» بنفسه عن رغبة روسيا في تغيير صورتها أمام العالم. وأثناء البطولة رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 20%،والموافقة على مشروع لرفع سن التقاعد حتى 63 سنة للنساء، و65 سنة للرجال – في اليوم الافتتاحي لكأس العالم. وبالطبع تاهت الاحتجاجات وسط مشجعي المنتخب.
حالة أخرى في 2016، عندما نالت البرازيل شرف تنظيم الأولمبياد، وبالطبع لم تختلف نواياها كثيرًا عن سابقيها. عند هبوطك في مطار «ريو دي جانيرو» والاتجاه إلى جنوب البلاد حيث الشواطئ، ستمر على منطقة تسمى «Maré». وهي واحدة من مناطق عشوائية عديدة بمدينة «ريو». ومن أجل نجاح التنظيم، كان لزامًا على المسئولين أن يخفوا تلك المنطقة ضمانًا لعدم إزعاج الزائرين. فقرروا بناء سور بينها وبين الطريق، وأخبروا أهل المنطقة أنه سور لمنع وصول أصوات السيارات المزعجة إلى مسامعهم.
عندما تتقدم أكثر على الطريق وتبدأ المناطق المتحضرة في الظهور، يصبح السور شفافًا. سخر «توماس راموس» المساعد البرلماني بالمجلس التشريعي للمدينة من الأمر، عندما أوضح أن المدينة التي لا توفر غذاءً أو مسكنًا تخاف على آذان مواطنيها. وصل الأمر إلى تغيير مسار الأتوبيسات حتى لا تمر عليهم، وامتد حتى هدم كثير من المنازل وتهجير سكانها لبناء مراكز تدريبية وملاعب. حاول السكان المقاومة، والاشتباك مع قوات الأمن، وكأنها مشاهد في دولة محتلة.
سينجح التنظيم على رغم هؤلاء، ثم ماذا بعد؟ هذا فقط غيض من فيض يوضح كيف تنظر الدولة إلى نفسها، وكيف تهتم بالزائرين على حساب الباقين فيها. كل دولة من هؤلاء حظيت بإيجابيات أيضًا، لكن في النهاية كان يمكن أن تذهب الأموال لدعم من يستحق بدلًا من الاهتمام بفئة كرة القدم فقط.
أما في مصر، فالغضب على مشجعى الدرجة الثالثة ما زال على أشده، حتى وصل الحال إلى انتقاء جمهور معين مع فرض تلك الأسعار المرتفعة. لا حاجة للحديث عن الأولويات، لأنها أمور نسبية، وسنظل في انتظار قرار من جهة ما لتخفيض الأسعار من أجل مزيد من الشعبية.