حكموا البلاد وخلعوا الخلفاء: ماذا فعل «الحُجَّاب» بتاريخنا؟
كان الخلفاء الراشدون يفتحون أبواب مجالسهم للجميع، يخاطبون الفقير والغني والصعلوك والقوي بلا حجاب ولا كلفة، فلما تحولت الخلافة إلى ملك عضوض في العهد الأموي (41 – 132 هـ / 662 – 750 م) استحدثوا منصب «الحاجب»، ليسمح أو يمنع دخول الناس على الخليفة، ووُضع نظام لذلك، بحسب الطبقات الاجتماعية لطالبي مقابلة الخليفة وأنسابهم.
وأول من انتبه لذلك مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان، بعد أن نبَّهه إلى ذلك زياد ابن أبيه، فكانوا يفضلون في الدخول أشراف القوم من ذوي النسب العالي، فإذا تساوت الأنساب فضلوا كبار السن، فإذا تساوت فضلوا أهل الأدب والعلم، لكنهم كانوا يبيحون الدخول لأربعة في أي وقت شاءوا، وهم: المؤذن، وطارق الليل، ورسول الثغر، وصاحب الطعام.
تطور منصب الحاجب في الدولة العباسية (132هـ – 656هـ / 750م – 1258م) التي حلت محل الدولة الأموية، وصار لمنصب الحاجب سلطة تفوق الوزراء، واستفحل الأمر في دولة الأمويين بالأندلس (138هـ: 422هـ / 756م – 1031م)، التي لم تنضم إلى الخلافة العباسية بعد سقوط الخلافة الأموية في دمشق، بل أعلنها عبد الرحمن الناصر خلافة مستقلة، وليست مجرد دولة أو إمارة.
من الحُجَّاب من أدار الدولة فعليًّا، يقود الجيوش ويصدر القرارات في كل كبيرة وصغيرة، ومنهم من عزل خليفة ونصب آخر مكانه، بل منهم من تجرأ وأجبر الخليفة على إصدار قرار بتنصيبه وليًّا للعهد، وكانت المعادلة في الغالب هي: ضعف الخليفة يتناسب طرديًّا مع قوة الحاجب.
في السطور التالية نستعرض أشهر حجاب الخلفاء في التاريخ الإسلامي، في الدولتين «العباسية» و«الأموية الأندلسية»، وهما أكثر دولتين استفحل فيهما منصب الحاجب خاصة في فترات ضعفهما، وإن كنا سنذكر حُجَّابًا نالوا حظًّا من القوة حتى في ظل خلفاء أقوياء.
حجَّاب العباسيين: من مسئول كبير إلى متحكم في الدولة
في العصر العباسي الأول ورغم قوة الخلفاء استطاع بعض الحجَّاب فرض وجودهم والفوز بنفوذ كبير في الدولة ولكن تحت إمرة الخليفة، ولكن بعد تدهور الأحوال بدأ الحجاب وخاصة الأتراك يأخذون سلطات غير مسبوقة، بل إن بعضهم كان يستطيع عزل خليفة وتنصيب آخر، كما سنرى.
الربيع بن يونس: حاجب المنصور الذي نقل السلطة لابنه
تولى أبو الفضل الربيع بن يونس منصب الحاجب في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور (ت 158هـ – 775م)، المؤسس الحقيقي في رأي البعض للدولة العباسية، وكان الأخير يثق في الربيع وأوكل إليه أعمالًا مهمة، ومنها إشرافه على بناء جسر عند باب الشعير في بغداد.
وتحكي المصادر التاريخية أن الربيع كان يحضر مجلس الخليفة كأحد كبار رجال الدولة، ومنها التي تركت أثرًا كبيرًا في التاريخ الفكري الإسلامي، ومنها اشتراكه في النقاش والجدال بين الإمام أبي حنيفة النعمان والخليفة المنصور، والذي أدى إلى سجن الفقيه الشهير.
وكذلك حضر النقاش بين الخليفة وبين الفقيه الأوزاعي (ت 157هـ)، حين رفض الأخير لبس الملابس السوداء التي كانت شبه مقدسة لدى العباسيين.
كان الخليفة المنصور يثق بالربيع ويكرمه، ومن ذلك أنه حين استولى العباسيون على خزائن مروان بن محمد «الحمار» آخر الخلفاء الأمويين، فتحها المنصور أمام الربيع فأخذ منها ما اشتهى.
ولهذه الحظوة لعب الربيع دورًا مهمًّا وخطيرًا في انتقال السلطة داخل البيت العباسي، فحين مات المنصور على أبواب مكة والتي كان في طريقه إليها قاصدًا الحج، وكان الربيع برفقته فخاف أن يستغل طامع في السلطة ذلك ويثب عليها.
كتم الربيع خبر موت المنصور، وأخذ البيعة لابنه المهدي من زعماء بني هاشم وقادة الدولة، ليضعهم أمام تعهداتهم بعد ذلك حين يعلن وفاة المنصور، وأرسل البيعة إلى المهدي بن المنصور في بغداد عن طريق البريد، فأعلنها المهدي، وأُعلنت وفاة المنصور ومبايعته من أهل بغداد بعد ذلك.
ربما كان هذا الموقف سبب ثقة المهدي المطلقة في الربيع وأولاده، وبعد وفاة الربيع ولَّى ابنه الفضل منصب الحاجب.
الفضل بن الربيع: الحاجب الذي أزاح الوزير
استمر الفضل مع المهدي على نفس المكانة التي حظي بها أبوه، فكان ضمن أهم رجال الدولة مع أخيه الحسن الحاجب ويحيى بن خالد البرمكي، فقد كان يشاورهم في أدق شئون الدولة.
منع الفضل الأذى عن المهدي كثيرًا، وكان يتشكك في أي داخل عليه، حتى ولو كان أعرابيًّا بسيطًا، ونظرًا لثقة المهدي في الفضل ضمه إلى جيش ابنه هارون الرشيد (الخليفة فيما بعد) عند غزوه بلاد الروم، ليلازمه الفضل ويمنع عنه أي أذى.
بلغ الفضل من القوة حد إزاحته أبي عبيد الله معاوية بن يسار، رجل الدولة القوي الذي كان في عهد المنصور ذا سلطة كبيرة، ليستحوذ الربيع على مساحة أكبر من السلطة والحظوة عند الخليفة.
كان ابن يسار كاتب المهدي ونائبه قبل الخلافة فلما مات المنصور وجلس المهدي على العرش فوَّض إليه تدبير المملكة وسلم إليه الدواوين.
ابن يسار كان يعامل الربيع بشيء من الازدراء وعدم الاكتراث، فكرهه الربيع ولم يجد وسيلة في إزاحته إلا الوشاية بابنه عند الخليفة، فقد كان ابن يسار ذا كفاءة عالية في عمله، مستقيمًا في سلوكه، فلم يجد الربيع حلًّا إلا أن يضرب مركزه لدى الخليفة من خلال ابنه.
كان للوزير ابنًا ملحدًا، وكان المهدي متشددا تجاه الملاحدة، فاستغل الربيع ذلك وأخبر الخليفة بأمر ابن الوزير، فأحضره وطلب منه أن يتلو عليه بعض آيات القرآن فلم يقرأ، وحينها قال المهدي لابن يسار:
ألم تخبرني أن ابنك يحفظ القرآن؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن فارقني منذ مدة فنسيه.
فقال له: قم فتقرب إلى الله بدمه. فقام أبو عبيد الله فعثرت قدمه ووقع لشدة ارتباكه وخوفه، فأشار أحد الجلوس على الخليفة بإعفاء الوزير من قتل ابنه ويتولى ذلك غيره، وبالفعل أمر المهدي أحد رجاله فضرب عنق الشاب.
استمرَّ ابن يسار في خدمة المهدي رغم انكساره وحزنه على ابنه، وفي أحد الأيام طلب من المهدي أن يختلي به لإطلاعه على بعض الأمور، فصرف المهدي من عنده، ورفض الربيع الانصراف، وقال للمهدي:
يا أمير المؤمنين كيف أخرج وأنت وحدك وليس معك سلاح، وعندك رجل من أهل الشام اسمه معاوية وقد قتلت بالأمس ولده وأوغرت صدره، فكيف أدعك معه على هذه الحال وأخرج؟
وبعد هذا الاجتماع طلب الخليفة من الربيع أن يحجب عنه ابن يسار، وبالفعل منعه الربيع بعدها من لقاء المهدي، ليظل الرجل في بيته بلا أي نفوذ حتى مات مقهورًا، ويتحقق للفضل ابن الربيع ما أراده.
بغا الصغير: خلع خليفتين
كان بغا الشرابي، المعروف بـ «بغا الصغير» التركي، حاجب الخليفة العباسي المتوكل (ت 247هـ – 861م)، وهو قائد عسكري قوي، ازداد نفوذه لدرجة جعلت الخليفة المتوكل يخاف منه، فدبر للتخلص منه.
وعلم بغا بتدبير الخليفة، فواجه تدبيره بمؤامرة مع بعض الأمراء الأتراك في الجيش العباسي وقتلوه، ثم نصبوا ابنه الخليفة المنتصر بالله خليفة من بعده.
ولما مات المنتصر بالله في العام التالي اتفق بغا والقادة الأتراك على تولية أحمد بن محمد المعتصم الخلافة ولقبوه بـ «المستعين بالله».
تمرد الأمراء الأتراك أيضًا على المستعين بالله، حتى إنه خاف منهم وهرب إلى سامراء، وحاولوا الاعتذار له وطلبوا منه العودة لبغداد فرفض خوفًا منهم، فأخرجوا المعتز بالله العباسي من السجن وبايعوه وخلعوا المستعين بالله.
وهكذا أصبح بغا والأمراء المتحالفون معه يتحكمون في البيت العباسي نفسه، ويقررون من يتولى الخلافة، فلما جاء الخليفة المعتز بالله قرر التخلص من بغا، وبالفعل نجح في القبض عليه ثم قتله عام 254هـ – 868م.
سبكتكين التركي: الثري الذي أمر الخليفة بخلع نفسه
كان سبكتكين التركي حاجب الخليفة العباسي المطيع لله (ت 363هـ – 974م) ذا صلاحيات لا تقل عن صلاحيات بغا الصغير، منها استقبال الوفود والمراسلات، والأهم نفوذه السياسي والعسكري الذي يصل حد خلع الخليفة.
وعندما مرض الخليفة المطيع طلب منه سبكتكين أن يخلع نفسه ويبايع ابنه الطائع لله بالخلافة، فنفذ الخليفة ما طلبه سبتكتكين، وبعدها أعلن الحاجب مبايعته للطائع، ومشيا معًا في موكب، بل لقبه الخليفة بـ «نصر الدولة» وخلع عليه السلطنة.
وحين مات سبكتكين عام 364هـ ترك ثروة ضخمة من أموال وجواهر وثياب وخيول وعبيد.
حُجَّاب الأمويين في الأندلس: أحدهم اقترب من الخلافة
بداية من عصر تأسيس الدولة الأموية المستقلة في الأندلس عام 138هـ برزت وظيفة الحاجب، وصارت من أخطر ما يكون، لأن الحاجب كان واسطة بين الحاكم (الأمير، ثم الخليفة) وبين الوزراء ومن هم أقل.
فهو واحد من الوزراء لكنه يعلو عنهم منزلة بحسب وصف ابن خلدون، بل كان بمثابة نائب للخليفة الأموي في الأندلس، بحسب وصف المقري التلمساني، فهو يحجب الخليفة عن الجميع ليصبح هو الواسطة بين الخليفة وبين الناس.
ومع ضعف الخلفاء الأمويين تجاوزت صلاحيات الحاجب لما هو أبعد من ذلك، فصار هو الحاكم الحقيقي، الأمر الذي أدى إلى انهيار الأسرة الأموية نفسها، كما سنستعرض.
المصحفي: استولى على الحكم وباعه صديقه
كان جعفر بن عثمان المصحفي حاجب الخليفة الحكم المستنصر الأموي (ت 366هـ – 976م)، واستفحل نفوذه تحديدًا ليلة وفاة الخليفة المستنصر.
أبطل المصحفي خطة الجنود الصقالبة، بزعامة «جؤذر وفائق» المتضمنة عزل ولي العهد هشام المؤيد -وكان طفلًا- وتنصيب عمه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر.
في البداية أطلع الصقالبة المصحفي على خطتهم فأظهر أنه استحسنها، ثم دعا إلى عقد مجلس دعا إليه كبار رجال الدولة، ونعى إليهم وفاة المستنصر، وعرض عليهم خطة الصقالبة، مبديًا ترحيبه بها.
ومن ناحية أخرى طلب من القائد العسكري محمد بن أبي عامر -لُقِّب فيما بعد بـ «المنصور»- أن يقتل المغيرة، لتصبح تولية هشام المؤيد أمرًا واقعًا، ومن ثم يمارس المصحفي الوصاية عليه باعتباره طفلًا، ولا يوجد شخص قوي في البيت الأموي يستطيع منازعته بعد مقتل المغيرة.
وبالفعل قتله ابن أبي عامر، وبالتبعية صدر أمر من الخليفة هشام المؤيد -طفل عمره 12 عامًا- الذي لا حول له ولا قوة بتعيين المصحفي حاجبًا له.
بعد ذلك تفرع المصحفي للصقالبة بدعم من ابن أبي عامر، واستأصلهم، وانفرد بالسلطة.
والصقالبة هم عبيد أوربيون بيعوا في الأندلس، ومع الوقت وازدياد عددهم صاروا ضمن قوام القوات المسلحة الأندلسية، ولهم نفوذ سياسي كبير في الدولة.
بدأ المصحفي في توزيع مناصب الدولة على أفراد أسرته وأقاربه، منها مثلًا توليته ابنه محمد ولاية مدينة قرطبة، وولى ابن أخيه هشام بن محمد قيادة الشرطة.
إلا أن ابن أبي عامر الذي كان على علاقة وثيقة بـ «صبح البشكنجية» والدة الخليفة هشام المؤيد، كان يكمن له ويلتف حوله، فقد كان وزيرًا للخليفة ويراقب المصحفي، وفي الوقت نفسه كان يظهر له الود ويسدي إليه النصح.
وعلا شأن ابن أبي عامر «المنصور» حين قاد الجيش لرد القشتاليين الأوروبيين عن هجومهم على شمالي الدولة، رغم أن ذلك من صلاحيات المصحفي، فتزعزعت مكانة الأخير شعبيًّا وعسكريًّا لصالح ابن أبي عامر، وبدأت صلاحيات المصحفي تتقلص، وبدأت محاولات التآمر على منصب الحجابة.
تجرأ هشام المؤيد -بدعم أمه وابن أبي عامر- وعين القائد غالب الناصري شريكًا في الحجابة مع المصحفي، وذلك لإضعاف المنصب نفسه وإضعاف المصحفي، وأخيرًا صدر الأمر بتولية المنصور ابن أبي عامر منصب الحجابة منفردًا والإطاحة بالمصحفي والقائد غالب، لينفرد المنصور بالمنصب ويصبح هو الحاكم الفعلي للبلاد.
المنصور ابن أبي عامر: حاجب له حاجب!
كالمصحفي، أطاح ابن أبي عامر بالجميع، بمن فيهم أعضاء البيت الأموي نفسه، ناهيك عن آل المصحفي وغالب الناصري والوزير جعفر بن علي.
وصار المنصور هو الحاكم المطلق للأندلس، وليس للخليفة الشاب إلا الاسم فقط، ورغم ذلك ظل المنصور ابن أبي عامر يعرِّف نفسه كحاجب الخليفة، ولكن في عام 381هـ 991م، عين لنفسه حاجبًا هو ابنه المظفر عبد الملك.
أي إن حاجب الخليفة صار له هو أيضًا حاجب! فهو ملك البلاد رغم وجود الخليفة، في وضع يشبه السلاجقة والبويهيين مع الخليفة العباسي في بغداد.
شنجول: الحاجب الذي نصبه الخليفة وليًّا للعهد
بعد وفاة المنصور 392هـ 1001م، تقلد ابنه المظفر منصب الحجابة ليصير هو الحاكم العام للبلاد، بجوار الخليفة هشام المؤيد.
وبعد المظفر تولى الحجابة أخوه عبد الرحمن الملقب بـ «شنجول»، الذي اتخذ خطوة أكثر جرأة، حيث أجبر الخليفة هشام المؤيد على إصدار مرسوم بتوليته العهد من بعده!
وكان ذلك بداية النهاية لعهد العامريين في الأندلس، حيث ظهر الاستياء بين الناس من انتقال الخلافة من البيت الأموي إلى البيت العامري، وهو ما طعن في شرعيته؛ فدائمًا ما كان منصب «الخليفة» له طابع قداسي حتى ولو كان الخليفة بلا صلاحيات، وضمن القداسة -أو إن شئنا التوقير المناسب للمنصب- الانتماء إلى بيت عربي قرشي.
تولية شنجول أدت إلى عزل هشام المؤيد نفسه وتولية أمير أموي آخر منصب الخلافة وهو محمد بن هشام الملقب بالمهدي، الذي عزل شنجول وقتله في 399هـ.
- «تاريخ التمدن الإسلامي» لجورجي زيدان
- «تاريخ الرسل» للطبري
- «المقدمة» لابن خلدون
- «الفخري في الآداب السلطانية» لابن الطقطقي
- «مختصر التاريخ» لابن الكازروني
- «البداية والنهاية» لابن كثير
- «سير أعلام النبلاء» للذهبي
- «كتاب الوزراء» للجهيشاري
- «تاريخ الخلفاء» للسيوطي
- «الحلة السيراء» لابن الأبار
- «أعمال الأعلام» للسان الدين ابن الخطيب
- «البيان المغرب» لابن عذارى
- «نفح الطيب» للمقري التلمساني