ماذا فعلت سترات «GPS» بلاعبي كرة القدم؟
تُعرف الموضة على أنها شكل من أشكال التعبير عن الذات والاستقلالية في زمنٍ وسياقٍ معينين، وبها يمكن أن تُفسر سلوكيات الشعوب وثقافاتها المختلفة.
في كتابه «نظرية الموضة»، فسر الفيلسوف الألماني «جورج سيميل» ظاهرة الموضة بثنائية الجذب والدفع، أي بالانجذاب لطبقةٍ ما والتبرؤ من أخرى عن طريق الموضة.
ربما لا يمكننا أخذ لاعبي كرة القدم بجدية عند الحديث عن الموضة ونظرياتها، ببساطة لأنه لم يكن موضوع ما يرتديه اللاعبون ذا أي أهمية تُذكر لعقود. فقط ألقِ نظرة على ما يرتديه اللاعبون في حفلات الكرة الذهبية، وأخرى على ما يرتديه الممثلون في حفلات توزيع الأوسكار، ستجد فارقًا شاسعًا بكل تأكيد.
لا ضرر أن يرتدي ميسي بدلة غرائبية الشكل في أحد الحفلات، ما دام سيخلعها عند نزوله إلى ملعب المباراة، وينثر من قدميه سحره المعتاد، لكن ماذا إن كان ما يرتديه ميسي وغيره من اللاعبين قد يؤثر على سلوكهم وأدائهم في المبارايات، وربما نتائج تلك المباريات والبطولات بأكملها؟
من الدجاج المقلي إلى الـ«GPS»
يتحدث «مايكل أوين» نجم نادي «ليفربول» سابقًا، أنه في أواخر التسعينيات لم تكن الحافلة تتحرك باللاعبين إلى ملاعب المباريات دون أن تحوي صندوقين على الأقل من الجعة، وتكون ممتلئة تقريبًا بدخان السجائر، إضافة إلى أن اللاعبين قبل انطلاق المباراة كان يُمرر عليهم ورقة لاختيار إحدى الوجبات التي تحوي إما دجاجًا مقليًا وبطاطس، أو سمكًا.
يدلل أوين بذلك على زمنٍ سحيق لعالم كرة القدم، تتضاد فيه سلوكيات الفرق واللاعبين تمامًا عن الآن. أصبحت كرة القدم لعبة تفتش عن التفاصيل في كل شيء، يتم من خلالها مراقبة أداء اللاعبين بشكل موضوعي، بدءًا من دقة قياس التمريرات للاعبين، إلى ارتفاع عشب الملعب، وصولاً إلى ملابسهم وأنواعها.
اعتدنا مؤخرًا رؤية اللاعبين يرتدون سترات رياضية أسفل قمصانهم، تعمل بنظام الـ«GPS». تُستخدم هذه السترات لإمداد المدربين والأجهزة الفنية بكم مهول من البيانات عن اللاعبين، فما هي ماهية تلك السترات؟ وكيف تعمل؟
«660» نقطة بيانات في الثانية
بدأت هذه السترات في الخروج إلى النور عام 2015، وانتشرت كما النار في الهشيم بين الرياضيين، ونخصّ لاعبي كرة القدم.
تتصدر شركتا «STATSports» و«Catapult» الصناعة باعتبارها أكثر سترات الـGPS القابلة للارتداء استخدامًا على نطاق واسع في الألعاب الاحترافية، وتتعاون هذه الشركات مع شركات بيانات مثل «Barin Sports»، و«Hudl – WIMU)»التي تتنافس أيضًا على توفير أكبر قدر ممكن من بيانات تتبع الأداء للأندية والرياضيين.
عبر كل سترة يُقدّم كم هائل من التفاصيل، وذلك عن طريق أجهزة الاستشعار التي تستطيع حساب معدل الجري الذي يجرية اللاعب، وحساب الاتجاه الذي يواجهه أثناء استلام الكرة والتوازن الذي يضع عليه كلتا قدميه.
يعد تسجيل هذا القدر المهول من البيانات لكل لاعب أمرًا مهمًا، ولكن الفائدة الحقيقية لهذه السترات تتمثل في قدرتها على توليد رؤية فورية وقابلة للتنفيذ للأجهزة الفنية.
تحتوي هذه السترات في المجمل على أربعة أجهزة استشعار، وهم: نظام تحديد المواقع العالمي GPS، ومقياس التسارع، والجيروسكوب، ومقياس المغناطيسية. أجهزة يمكنها توليد 660 نقطة بيانات أولية في الثانية، كما يوضح «تياجو مالاكياس»، عالم البيانات الأول في موقع «STATSports» لصحيفة«ذا أثليتك»، والذي تستخدمه مئات الأندية في جميع أنحاء العالم بما في ذلك أرسنال، ليفربول، مانشستر يونايتد، يوفنتوس، بالإضافة إلى المنتخب البرازيلي.
يقول مالاكياس إنه بمساعدة هذه السترات يقدم موقعه كمًا مهولًا من البيانات يمكن للفرق استخدامها مثلاً في تقليل إصابات اللاعبين، عن طريق حساب كمية الساعات التي يجب على لاعب ما ألا يزيد عنها في التمارين، وكذلك معدل ضربات القلب و«VO2 max» (الحدود العليا لقدرة اللاعب على ممارسة التمارين)، والمسافة الإجمالية التي يقطعها وسرعته؛ مما يقلل من خطر الإصابة، مع زيادة الأداء إلى الحد الأقصى عبر الموسم.
يُبدي «مايكل أوين»، وهو مستثمر وسفير في شركة «Barin Sports» إعجابه بهذه السترات قائلاً:
السترات كمدرب مساعد
بعيدًا عن الوقاية من الإصابات، فإن قيمة البيانات تزداد عندما تساعد الأجهزة الفنية على تكوين رؤية تحليلية أفضل، هنا يأتي الدور الثاني لسترات ال «GPS».
عام 2022 أرادت «Catapult» دمج بيانات أداء اللاعبين مع تقنيات تحليل الأداء؛ لاستخدامها قبل وبعد وأثناء المباريات.
في هذا الصدد أصدرت الشركة برنامج «MatchTracker»، الذي يعمل على تحليل شكل الفريق داخل وخارج الاستحواذ في أثناء المباراة، وحتى تحديد المساحات بين لاعبي قلب الدفاع.
يُعد الاستخدام الأساسي لهذه التقنية هو توفير تحديثات تتبع حية، تسمح للمدربين باكتشاف الأنماط والاتجاهات داخل المباراة بناءً على بيانات أداء اللاعب.
يؤكد«آدم شوفان»، كبير مديري التنفيذ في «Catapult»، أن البرنامج عبارة عن مجموعة شاملة من أدوات تحليل الأداء للتدريب والمباريات واستكشاف المنافسين، وهو ما زاد من دائرة انتشاره في عالم كرة القدم، حيث يستخدمه فرق الصفوة في أوروبا مثل ريال مدريد وباريس سان جيرمان، وصولاً لأكثر من نصف أندية الدوري الإنجليزي الممتاز.
يتحدث «دانييل شوبوف» -مهندس تقني لدى «Barin Sports»-، أنه خلال أحد المباريات، قاموا بقياس مدى ضغط الخصم على فريقهم، حيث كان خط الدفاع وخط الوسط يقتربان من بعضهما البعض.
تلك البيانات فرضت عليهم إجراء تبديل، لذلك قرر المدرب باللعب بخمسة لاعبين في الخلف والسماح لهذه الخطوط بالانتشار، مكنتهم السترات من تتبع شكل الفريق في الوقت الفعلي للمباراة، ثم دمجه مع الحالة البدنية للاعبين لمعرفة اللاعب الذي يجب استبداله، وهنا ميزة أخرى قدمتها السترات تجمع بين الجانب التكتيكي والبدني، وهو ما يمكننا أن نقول بمنتهى الجدية إن هذه السترات بمثابة مدرب مساعد للأجهزة الفنية، لكنها متنقلة رفقة اللاعبين، وليس على مقاعد البدلاء.
يأخذنا ذلك لسؤال منطقي وهو، ما الذي قد تصل إليه هذه التكنولوجيا في المستقبل؟
أرسين فينجر دائمًا ما يرى المستقبل
عام 2015، وافق الاتحاد الدولي لكرة القدم على ارتداء اللاعبين لسترات الـ«GPS»، وأخيرًا وافق كذلك على استخدام أحزمة التتبع القابلة للارتداء التي تنتجها شركة «Playermaker» وتعمل بالذكاء الاصطناعي، لتوفير بيانات الأداء بما في ذلك سرعة ركل الكرة، وعدد اللمسات، والقدم المفضلة للاعبين، وكذلك معدلات تغيير الاتجاه.
نمت هذه التكنولوجيا بشكل بارز منذ بدايتها، حيث استثمر رئيس تطوير كرة القدم العالمية في الفيفا أرسين فينجر في شركة «Playermaker» منذ ما يقرب من أربع سنوات، وهي الشركة المنتجة الوحيدة لهذه الأحذية حتى الآن، ويستخدمها أكثر من 200 نادٍ حول العالم.
تبقى لنا سؤال وحيد، هل مع هذا التوغل الصارخ للتكنولجيا في الرياضة يمكن أن توجد أي سلبيات؟
لسنا فئران تجارب
ذكرنا في البداية أن الموضة لم تكن تشغل لاعبي كرة القدم لعقود، لكن لما تحولَّ الأمر من رفاهية لضرورة قد تساعد اللاعبين في تطور أدائهم، زاد هوسهم بها.
لدى كثير منا تقنيات يمكن ارتداؤها لتتبع لياقتنا اليومية مثل «Apple Watch»وغيرها، لكن استخدام الأجهزة الشخصية أصبح يحظى بشعبية متزايدة بين لاعبي كرة القدم المحترفين كمصدر إضافي للمعلومات لمراقبة الصحة والتعافي والشفاء، ونظرًا لهذا المشهد الدائم التقدم، سيكون من الحماقة ألا يستخدم الرياضيون المحترفون مثل هذه التكنولوجيا لتعظيم أدائهم البدني.
لكن «بريان بولك»، لاعب خط الدفاع في الدوري الكندي لكرة القدم له رأي آخر، حيث يعتقد أنه على لاعبي كرة القدم المحترفين أن يكونوا حذرين، فيقول:
نهايةً، تستعد التطورات التقنية الجديدة لتغيير المشهد الرياضي إلى الأبد، لكن في المقابل تكثر المخاوف بشأن الأمان والخصوصية وتأثير تلك المعلومات الجديدة على الرياضيين على مستوى العالم.
وهو ما يجعلنا نطرح تساؤلًا عليك عزيزي القارئ: هل تحبذ مشاهدة رياضتك المفضلة بعد تزويدها بكل هذه التقنيات، أم تفضل مشاهدتها دون أية إضافات كما كانت في السابق؟