ماذا خسرت مصر باختفاء كرة الشوارع؟
لا يمكننا الرصد بدقة متى حدث ذلك، لكن قبل أعوام عديدة كانت كرة القدم تُلعب في كل شوارع مصر. هذا لا يتضمن شيئًا من مبالغة، فقد كانت أحياء مصر جميعها معروفًا داخلها الشوارع التي تستقبل كرة القدم طوال اليوم، وكذلك أسماء اللاعبين المشاهير في الحي.
أنا هنا لا أحدثك عن زمن الفن الجميل ولما كانت الدنيا بخير، من أعوام ليست ببعيدة كان الحديث المعتاد لأي موهبة جديدة تظهر في مصر عن كيف بدأ كرة القدم في الشارع، ثم لاحظ الجميع موهبته مما دفع الأهالي لمحاولة إلحاقه بالنادي الأقرب له أملًا في أن تتطور الأمور بعد ذلك.
تلك التيمة المعتادة لمسار لاعب كرة القدم في مصر تغيرت تمامًا. أصبح الحديث عن التحاق اللاعب في سن الخامسة مثلًا بأكاديمية ما أو مدرسة كرة قدم كما يطلق عليها البعض، ثم كيف أن الأهل طافوا به أندية مصر جميعًا في محاولة للبحث عن فرصة ليصبح الابن لاعب كرة قدم. يمكنك تتبع حديث لاعبين مواليد الألفينيات لتتأكد من ذلك.
يصف الأديب إدواردو جاليانو لاعب كرة القدم بأنه الوحيد الذي فاز باليانصيب من بين أطفال الحي الفقير وربح، كونه أصبح لاعب كرة قدم.
لكن الحقيقة أن ملايين كرة القدم جعلت الآباء يشترون كل تذاكر اليانصيب، ثم ينتظرون بعد ذلك ليجيبوا على السؤال الأهم: هل يملك الطفل الموهبة أم لا؟
زمن الحريف
في الحقيقة أن لاعب كرة القدم هو نتاج عدة عناصر. نمط الحياة والجغرافيا والثقافة المحيطة، كل تلك عناصر تكوِّن لاعب كرة القدم، كرة الشوارع في مصر كانت دومًا تنتج اللاعب الحريف. هذا لا يمنع أنها أفرزت لاعبين أصحاب مواهب فطرية، فهناك لاعب يتحكم في الكرة وآخر لديه سرعة فائقة وثالث له بنيان قوي.
لكن ولأن الجمهور هو الشارع فالغلبة دومًا للمهارة، يمكنك وصف كرة قدم الشوارع كونها لعبة سريعة الوتيرة بشكل لا يصدق، وهذا يجبر اللاعبين على التفكير والتصرف على الفور.
ذلك هو التعريف الأساسي للمهارة أو الحرفنة، المقصود هنا ليس المراوغة في حد ذاتها، لكن التصرف الدائم بشكل يفاجئ الجمهور.
أستطيع أن أصف لك شكل كرة القدم في مصر عندما كانت كل الفرق تمتلك على الأقل لاعبًا حريفًا في صفوف الفريق. هذا اللاعب الذي يتمحور حوله الفريق لأنه دومًا يمتلك الحل. كان هذا العصر مختلفًا دون شك، فمعظم الأندية جماهيرية ودومًا ما يقدر الجمهور اللاعب الحريف.
كانت قصة كلاسيكية تجدها في كل محافظة بطلها لاعب موهوب خاض شوارع المحافظة كلها لعبًا منذ أن كان صغيرًا، ثم أصبح رمز المدينة فيما يتعلق بكرة القدم.
هنا من المنطقي أنك تحدث نفسك بأن الشارع الآن ليس شارع زمان، وأن العالم كله يتغير فكيف لنا أن نبقى في الماضي.
النمط الإعلاني
في الحقيقة أن أهم ما تغير هو الصورة النمطية التي يتم تصديرها لنا بشكل مستمر. لقد أصبحت صور الأطفال الذين يسعون وراء حلمهم ويتمكنون من الوصول بفضل الموهبة أقل كثيرًا، واستبدلت بها صور اللاعبين ذوي العقلية الأمريكية النموذجية، التي يمكن تلخيصها في أن العمل الجاد يؤتي ثماره.
ببساطة قصة اللاعب ذو الأصول الفقيرة الذي كان يلعب في الشارع وينبهر به الجميع أصبحت كليشيه ولا تقدم جديدًا.
إذا كنت تتشكك في ذلك فدعنا نجيب على سؤال مهم، هل اختفت كرة قدم الشوارع والأحياء من العالم؟ الإجابة ببساطة لا. لا زالت الأحياء الفقيرة في البرازيل هي مراكز التجمع للعب كرة القدم رغم اكتظاظ البلد بالأكاديميات. أما في إفريقيا فهناك أكاديميات لكل نادٍ أوروبي في كل دولة، لكن قطع الأراضي القاحلة ومساحات العشب لم تتوقف عن إنتاج لاعبي كرة القدم.
أما في فرنسا فالوضع مثالي، حيث يبقى المجتمع الفرنسي المتجذر في فكرة الضاحية لأسباب مختلفة قادرًا على إنتاج عدد ضخم من لاعبي كرة القدم الذين لعبوا كرة الأحياء وشكلت وعيهم الكروي. من هنا خرج بنزيمة ومبابي ورياض محرز.
لا زالت تملك مصر أحياء فقيرة وشوارع جانبية لا تمر بها سيارة، ولا زالت كرة القدم هي اللعبة التي لا تحتاج لشيء سوى كرة والكثير من الشغف، فماذا تغير إذًا؟
أن تحترف كرة القدم
أكثر ما يعاب على كرة قدم الشوارع أنها لا تخضع لقواعد محددة. فهي مرنة بشكل قد يؤثر في جودة اللاعب دون شك. لا يوجد مقاسات محددة ولا كرة قدم ثابتة الكتلة ولا زمن محدد. كل هذا كان يطيح بعدد وافر من الحريفة في اختبارات اللعب كمحترفين في الأندية.
القصص هنا كثيرة ودرامية، وكيف أن طفلًا ما كان الحي بأكمله يتغنى بما يفعل رفضت الأندية أن يلعب بها. أدرك الجميع هنا أن الفوضوية التي تتسم بها كرة قدم الشوارع قد تنتج لاعبًا غير واعٍ تكتيكيًّا باللعبة، أو ربما لا يمتلك التقنيات الأساسية للاعب كرة القدم المحترف.
كان الأمر قديمًا يمر بعد أن يتحسر الجميع، لكن الآن وبعد أن أصبحت عقود اللاعبين بالملايين فلن يسمح أحد الأهالي الذين يتعلق مستقبلهم بهذا الطفل أن يحدث من الأساس. وهنا تم إنشاء الأكاديميات أو مدارس الكرة التي تعد الطفل ليلتحق بنادٍ كلاعب محترف.
دعني أكرر هنا أننا نتحدث عن التجربة المصرية تحديدًا. ولذا فما سنتناوله الآن هو رحلة حقيقية في أكاديميات كرة القدم في مصر.
قصة حقيقية
تبدأ القصة عندما يقرر أحد الآباء التقدم لأكاديمية ما لتعليم طفله كرة القدم. أول ما تفاجأ به هو العدد الذي يتدرب في الأكاديمية، كل مدرب مسئول عن 50 لاعبًا على الأقل. يجري المدرب بعض التمارين البدنية، وعلى الطفل أن يحفظ تلك التمارين لأنه سيكررها كثيرًا في البيت.
يقرر المدرب صلاحية كل طفل لمركز معين طبقًا لما يراه بعد عدة أيام من التدريبات التي تتعلق بـالتمرير والتسديد والمراوغة. ثم يبدأ في تعليم تقنيات الكرة الأساسية مثل التحرك بالكرة وبدونها واستخدام باطن القدم وخارجها وهكذا.
ثم مع الوقت تدرك أن عملية التعليم تلك بطيئة للغاية، كما أن هناك أطفالًا آخرين لا يمتلكون الموهبة تمامًا يجعلون العملية أكثر بطئًا، فتصرح بذلك للمدرب لتفهم أن الحل هو التدريبات الخاصة. حيث يتقلص العدد إلى عشرة لاعبين فقط، لكن المقابل المالي يصبح أكبر وأكبر، ولا تنسَ أننا نصنع نجمًا.
تبدأ التدريبات الخاصة وترى التطور المنطقي لطفلك بدنيًّا وكرويًّا بالطبع، لكنك في النهاية تشعر أنه ينفذ حركات ثابتة تم تلقينه إياها دون وعي. تصرح بذلك للمدرب الخاص لتفهم أنك على أعتاب مرحلة جديدة، وهي محاولة الالتحاق بنادٍ ما من أجل الاحتكاك.
تعتقد أن الولد أصبح جاهزًا لكي يلتحق بأحد الأندية، لكنك تفاجأ بأن هناك الآلاف الذين تقدموا للاختبارات وجميعهم يحفظون ما تم تلقينه لهم في الأكاديميات. تجد طفلك نسخة من ألف، يستلم الكرة ويمررها بباطن قدمه ويركض لكنه لا يملك أي حل استثنائي.
إذا ما كان الطفل لا يملك شيئًا استثنائيًّا مثل طول أو سرعة أو خلافه، فعلى الأغلب لن يُقبل فتعود للمدرب الخاص الذي يطمئنك، ويؤكد لك أن ابنك سيشارك في المسابقات الرسمية لتفاجأ هنا بمرحلة جديدة: الفرق الكبيرة التي تمتلك أندية ناشئين من الباطن وتورد بها لاعبين من الأكاديميات.
القصة بسيطة، نادٍ شهير يمتلك فريقًا مثل العياط من الباطن. يذهب الطفل بتوجيه من الأكاديمية ليدفع رسوم الاشتراك للتسجيل ويستلم قميص الفريق الشهير، لكنه يلعب رسميًّا باسم العياط حيث تجد فريقًا كاملًا كونته معارف المدربين في الأكاديميات يلعب معًا باسم فريق العياط.
هكذا دون اختبارات أو شيء لعب طفلك كما تحب، وطبعًا دعني أؤكد لك أن التدريبات الخاصة لن تتوقف. هكذا تسير الأمور، ومع الوقت يدرك الأهالي أن الطفل ربما بعيد عن طريق احتراف الكرة، أو تتأكد أنه سيصبح لاعب كرة قدم.
يصبح هذا الطفل لاعبًا في أحد الأندية بعد ذلك، لكنه لاعب نمطي جدًّا، بالطبع نحن نتحدث عن نسبة كبيرة وليس الكل. وفي الأخير تجد مئات اللاعبين المفترض أنهم من صفوة لاعبي كرة القدم في مصر يشبه بعضهم بعضًا بشكل مريب. جميعهم يلعبون الحد الأدنى من كرة القدم المنظمة، لكنهم لا يملكون أي حل استثنائي أو رؤية مختلفة.
هنا تتأكد أنك تحتاج إلى عشوائية كرة قدم الشوارع بجانب هذا التنظيم التكتيكي والتطور البدني، وهذا ما أكده «مات دانهر» مخترع تطبيق «SoccerPulse» الذي يسمح للمدربين بمراقبة شعور لاعبيه وإعطاء ملاحظات حول أدائهم، حيث أكد الرجل أن فكرة انتهاء كرة الشوارع يضر بكرة القدم.
ربما الآن أنت تعرف لماذا أصبح لاعبو مصر متشابهين؛ لأن مصر توقفت عن إنتاج الحريف، لكنها لم تتوقف أبدًا عن إنتاج المستفيد أو أبو رجل خشب.