ماذا فعل الخوارزمي؟ بعين الواقع لا الأسطورة
كان ميزان القوى قد انتقل من دمشق إلى بغداد مع صعود العباسيين إلى سدة حكم الدولة الممتدة من الصحراء للمحيط. حينها، امتدت الدولة الإسلامية في قلب خريطة العالم القديم، بين الهند والصين وفارس وأوروبا، يترع كأسها بخمرة الثراء والقوة والعظمة في أقصى معانيها حرفية.
ومع الرفاهية، تحرر العقل من قيوده وانشغالاته وانطلق باحثا عن أهداف جديدة بعدما ضمن قوت يومه. فاتجهت الأنظار إلى كتب سُطرت بحروف ورموز غريبة ولغات غير مفهومة. وتقرر أن فهم هذه الألسن يدا بيد مع الثروة سيصب في تسيد الدولة الإسلامية للعالم وجعلها أيقونة الحضارة بدلا من عنوان البربرية العسكرية، فتم بذل الجهد والمال دون عناء. وظهر للنور بيت الحكمة في بغداد.
ضم بيت الحكمة عقولا ألمعية، التهبت بالنهم المعرفي ما بين الفلك والطب والطبيعة والحساب. كان مجلسا صحوا ينتقل بالذهن بين نصوص الحضارات من الهند لفارس، من لفافات الجلد القصيرة إلى المجلدات المحمولة على ظهر البعير. اجتمع الوراقون للنسخ والمترجمون للترجمة، ومر الزمان بلحظة لن تعرف المنطقة مثيلها مجددا.
في خضم كل هذا الرواج، عكف محمد بن موسى على عمله الرياضياتي في بيت الحكمة مظهرا براعة قل مثيلها في محيطه. تلك البراعة التي سيتم إساءة وصفها في صفحات التاريخ من وقتها وقدما.
تعود أصول محمد بن موسى الخوارزمي إلى خوارزم الفارسية بمقاطعة خراسان الكبرى. انتقل أهله إلى العراق، وبالتحديد إلى قرط بالقرب من بغداد طبقا لما نقله الطبري عنه. في العراق عاش محمد ونمت قريحته حتى اتصل بالخليفة المأمون -الذي سيهدي إليه أهم كتبه وسيعترف له بالتشجيع والدعم في مقدماتها – وعمل ببيت الحكمة.
لم ينقل لنا الأثر عن حياته الشخصية الشيء الكثير، لكن الجدل الذي سيسببه للمؤرخين كان أكثر من كاف. هل «اخترع» الخوارزمي علم الجبر؟ رغم إنجازاته التطويرية التي لا يمكن إنكارها، هل يجدر بنا إطلاق لفظة «أبو علم الجبر» عليه؟
بحث في الجذور
قبل الميلاد بألفي عام نقش البابليين على ألواح من طين الصلصال ما يعتقد أنه بدايات ظهور فكرة علم الجبر في تاريخ البشرية. كانت الألواح تنقسم إلى نوعين؛ ألواح مجدولة، وألواح مسائل. احتوت الألواح المجدولة على جداول تحتوي على سلاسل من الأرقام تحقق صيغة a2 + b2 = c2 التي نعرفها الاّن نسبة إلى الفيثاغورثيين. بينما ضمت ألواح المسائل مجموعات من المسائل مكتوبة بالكلمات لا الرموز تسرد عمليات رياضية تشبه التي تدرس للأطفال في زمننا. وأغلب الظن أن هذه المسائل كانت أمثلة على تقسيم الأرض والمحاصيل وما إلى ذلك.
لم يكن لسكان بلاد ما بين النهرين نظام رقمي عشري مثلنا حاليا، بل قامت أنظمة «ستينية» معقدة للحساب بحيث أصبحت الوحدة عندنا تساوي 60 عند البابليين. كانت الألواح الطينية Cuneiforms بدائية بعيدة عن نظم الجبر الحديثة التي نستخدمها يوميا الاّن لكنها احتوت على البذور. كان تدوينها وفك شفرتها على يد أوتونويجباور نقطة محورية لفهم بداية التاريخ «الحقيقي» لعلم الجبر. تلا ذلك فهم لأسلوب البابليين في التعامل مع ما نعرفه الاّن باسم «الجبر الهندسي»، أي استخدام المساحات لتحديد الأطوال غير المعروفة.
في مصر، بدأ التفكير الجبري في صورة مسائل أقل عمقا من قرينتها في أرض الهلال الخصيب، يمكن رؤية أمثلة عليها في بردية ريند Rhind التي نقشها الكاتب أحمس. قلنا أقل عمقا بالنسبة لمدى التعقيد، لكن المسائل المصرية احتوت على صورة أوضح لمحاولات تحديد «الكمية المجهولة» التي عني بها رياضيو العالم القديم في فجر الجبر.
يظل الفارق الأهم بين الرياضيات المصرية والبابلية أن المصريين اعتمدوا على نظام حسابي ذي أساس عشري سواء في كتاباتهم الهيروغليفية او الهيراطيقية في مقابل النظام الستيني سالف الذكر في بابل. كذلك بينما اقتصرت معظم رياضيات بابل على حسابات الري والزراعة، كان الحساب بالنسبة للمصريين له أهداف أكثر وضوحا؛ العمارة والأمور المتعلقة بإدارة الدولة.
في مصر أيضا، ولكن بعد اّلاف السنين، عاش السكندري الإغريقي ديوفانتوس حوالي عام 210 بعد الميلاد. وضع ديوفانتوس بدايات علم الجبر الرسمية في مخطوطه الكبير اّرثماتيكا. كان الكتاب مقسما لثلاثة عشر كتابا وصل إلينا منها عشرة كتب فقط، ستة منها بنصها الإغريقي –وتعد أصل نظرية الأرقام الحديثة- وأربعة بترجمتها العربية.
احتوى المخطوط على مجموعات من المسائل وبداية التعبير الرمزي في الرياضيات، لكن الأهم هو بداية أسلوب التفكير الجبري المنفصل عن الهندسة والعالم الواقعي، المائل نحو الرياضيات البحتة. نذكر كمثال على ذلك فكرة الأس power فيما يتعدى التربيع X2 وفكرة الكسور وقواعد التلاعب بها وجمعها وطرحها.
عند ديوفانتوس أيضا بدأت الفكرة التي ستصبح «تعريف» كلمة الجبر في اللغة العربية، وسيطلق على ديوفانتوس بسببها اسم «أبو الجبر». لكن الخوارزمي استقاها من مصادر أخرى فيما سنستعرضه لاحقا.
مع الصور البدائية للمعادلات الخطية ومعادلات الدرجة الثانية عند البابليين، وحسابات المصريين العشرية، طور رياضيو الهند مثل اّريابهاتا وبهاسكارا وبراهماجوبتا ورياضيو الصين طرقهم الخاصة أيضا فيما يتعلق بنفس نوع المعادلات. لكن رياضيات الصين يصعب تتبعها إلى النسق الحديث في التفكير الجبري.
عودة إلى بغداد
رأينا إلى الآن أن الأفكار الجبرية وجدت منذ القدم مسطورة على ألواح طينية وأوراق البردي. وبنظرة في تاريخ الجبر وكيف قام الخوارزمي بتطويره، نجد نشاط الخوارزمي الأول يكمن في «التجميع» والتطوير عوضا عن الابتكار.
كتب الخوارزمي كتابه التاريخي «المختصر في حساب الجبر والمقابلة» حوالي عام 820 بعد الميلاد، وأهداه إلى المأمون بسبب دعمه وتشجيعه، ولأنه كتب بناء على طلبه الخاص. فقد كان المأمون قد أسند لمحمد بن موسى مهمة كتابة كتاب يحتوي بطريقة مبسطة على كل الرياضيات التي يحتاجها العامة في إدارة شئونهم، خاصة المواريث وحسابات الأراضي. وعلى هذا الأساس باشر الخوارزمي العمل.
لم يبنِ الخوارزمي معرفته على ما توصل إليه ديوفانتوس فيما يبدو، بل اتجه للهند والفرس واليهود. تظهر أدلة ذلك في عدم استخدامه لرموز ديوفانتوس، بل عودته لوصف المسائل بالكلمات، مع تطوير الأسلوب بحيث أصبحت الكمية المجهولة تدعى «شيء» والأس يدعي «مال» والمكعب «كعب» وهي كلها أفكار معروفة من قبله بقرون. استمر الخوارزمي أيضا على عادة سابقيه في محاولات وضع حلول للمعادلات الخطية ومعادلات الدرجة الثانية بعد اختصارها وتقسيمها لستة أنواع مع العودة للتعبير الهندسي عن الحلول.
في اللغة العربية وعند ديوفانتوس وفي الهند بشكل مستقل، تعني كلمة الجبر الإضافة. كانت ترجمة الكلمة في الرياضيات العربية هو أن تتم إضافة قيمة معينة إلى طرفي المعادلة للتخلص من قيمة سالبة في أحد هذين الطرفين، وكما يمكن أن يتم ذلك باستخدام الضرب. أما المقابلة فهي العكس أي استخدام الطرح. كانت مسائل كتاب الخوارزمي بخصوص الجبر والمقابلة تأتي كالاّتي:
لقد قمت بتقسيم العشرة إلى شيئين. ثم قمت بضرب أحد الشيئين في الاّخر ثم ضربت الشيء في نفسه وكان حاصل ضرب الشيء في نفسه يساوي أربعة أضعاف حاصل ضرب الشيء في الاّخر.
نرى أن الأمر يبدو معقدا جدا باستخدام الكلمات، إلا أن هذا الضرب هو أحد حالات الجبر التي عني بها الخوارزمي في الجبر الخاص به. بصورة أبسط، كان ما عناه الخوارزمي هنا هو: X2 = 4XY حيث X+Y = 10.
انقسم كتاب الخوارزمي إلى 3 أجزاء ركز أولها على المعادلات الستة على النمط:
وهي تجميع لصور المعادلات التي عمل عليها الهنود والرياضيون العرب والإغريق المبكرون، ولا ينسب اختراعها للخوارزمي. ثم الجزء الثاني عن علم القياس وهو الجزء المحتوي على قيمة تقريبية لباي π.
فيم ظهرت الصيغ الرياضية التي ذكرها الخوارزمي في كتب هيرون السكندري وأرخميدس وكتب الهند مثل نصوص الرياضي الهندي ساّريابهاتا والصيني ليو هوي، لكن الخوارزمي يذكر مصدره – طبقا للمؤرخ الرياضي فان دير فاردين – على أنه الفلكيون بشكل مبهم.
في الجزء الثالث يهتم الخوارزمي بالمواريث التي تؤدي به للعودة للمعادلات الجبرية، ثم يباشر الكتابة في كتب أخرى عن الجغرافيا والأرقام الهندية التي ستنتقل إلى أوروبا من الخوارزمي على أنها الحروف العربية.
بعد هذا الاستعراض العام يتضح للقارئ أن إنجاز الخوارزمي الحقيقي في تاريخ الجبر كان قدرته على التجميع والتطبيق وليس الاختراع. ربما تختلف المدارس التاريخية فيما إذا كان الخوارزمي قد اطلع على أعمال الهند أم الفرس أو لا ومن أيها استقى أكثر، وهل كانت كتاباته لها الأسبقية أم أن ادعاءات معاصريه بأسبقيتهم –وأهمهم عبد الحميد بن ترك– صحيحة. وهل كانت رياضيات الخوارزمي خطوة للأمام أم للخلف بعد ما ابتدعه ديوفانتوس. لكن كل هذه الأفكار تصور لنا الطبيعة الحقيقية لتاريخ العلوم. أيا كانت الإجابة فإن الأمر ينبهنا إلى خطأ فكرة «اختراع الجبر على يد الخوارزمي» التي يلوكها بعض المتشدقين بالتاريخ المغلوط هنا وهناك.
في العلم، لا يوجد مخترع مطلق ولا لرجل واحد فضل على العلم بأسره. في العلم نجد أنفسنا أمام الكثير من الخطوط المتقاطعة والحضارات المتوازية والمتزامنة والأشخاص القادرين على الإتيان بأفكار متطابقة بشكل مستقل عن بعضهم البعض. أما نبرة الغرور البائد التي تجتر سكرة إنجازاتها وتبالغ فيها حد التدليس، فإنها لا تعدو أن تدفن تاريخها تحت ركام الأكاذيب فلا يعد ملموسا. في النهاية، لم يدعِ الخوارزمي اختراع علم الجبر ولم يفعل، بل كان من كبار أئمته في حقبة زمنية من حقب عديدة وفي حضارة من حضارات عديدة تعاقبت على الجبر وستظل.
- A history of algebra – Bartel Van der waerden
- An introduction to the history of algebra- Jacques sesiano
- Unknown quantity- John Derbyshire