مركز الزيتونة: ما الذي يمكن لشباب غزة الأعزل إنجازه؟
لطالما كانت المقاومة الشعبية إحدى وسائل نضال الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، دون التخلي عن حقها في استخدام المقاومة المسلحة. كذلك أتت مسيرات العودة في الذكرى السبعين للنكبة التي انطلقت في قطاع غزة لمواجهة الحصار المفروض عليه منذ ما يزيد عن 11 سنة نقطة جامعة لمختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني الوطني.
وقد شكلت الأزمة التي تمر بها القضية الفلسطينية من انسداد مسار التسوية السلمية، وتعطيل المقاومة المسلحة ومحاصرتها، والانشغال العربي والإسلامي بملفات أخرى، عوامل دافعة لهذه المسيرات.
ويظهر أن هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة لهذه المسيرات: إما النجاح الكامل وتوسع دائرة المسيرات لتصل إلى الضفة الغربية والداخل الفلسطيني ودول الجوار، وإما أن تقف عند الذروة التي وصلتها في منتصف أيار/ مايو 2018 دون تحقيق منجزات واضحة، وإما أن تحقق نجاحًا جزئيًا للشعب الفلسطيني يتمثل خصوصًا في تخفيف الحصار عن القطاع.
خلفية تاريخية للمقاومة الشعبية
شكلت مسيرات العودة التي انطلقت في ذكرى يوم الأرض في 2018/3/30 نقطة بداية لإحياء الذكرى السبعين للنكبة، وحلقة في سلسلة طويلة وممتدة من نضال الشعب الفلسطيني، على مدى نحو قرن من الزمن، حيث اعتمدت قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المقاومة السلمية لمواجهة الاحتلال البريطاني لفلسطين سنة 1917–1929، وتعدّ انتفاضة موسم النبي موسى أولى الانتفاضات الشعبية سنة 1920، وتوالت الانتفاضات التي تندفع بإرادة شعبية جارفة، والتي كان الكثير منها يتحول إلى فعل مقاوم مسلح لاحقًا.
ولعل من أبرز صور المقاومة الشعبية الإضراب الكبير الذي استمر 178 يومًا، الذي شلّ الحياة العامة في عموم فلسطين سنة 1936؛ والذي كان أطول إضراب لشعب في التاريخ، حيث طالب الفلسطينيون بوقف الهجرة اليهودية، ومنع انتقال الأراضي لليهود، وتشكيل حكومة وطنية مسئولة أمام مجلس نيابي.
ومن صور المقاومة الشعبية، ولكن ضدّ الاحتلال الصهيوني، ما يعرف بـ«يوم الأرض»، فقد شكل تاريخ 30 آذار/ مارس مناسبة سنوية لذكرى الهبّة الشعبية التي قامت في فلسطين سنة 1967، ضدّ قيام الاحتلال الصهيوني بمصادرة آلاف الدونمات من قرى فلسطينية في الجليل في سياق مخطط تهويدي.
واستمرارًا للنضال الفلسطيني أتت الانتفاضة الفلسطينية المباركة سنة 1987 لتشكل بداية لموجة ثورية جديدة مستخدمة المقاومة الشعبية على نطاق واسع من مظاهرات وإضرابات واحتكاكات ميدانية مع الاحتلال، حيث استخدمت الحجارة بشكل كبير، حتى باتت تعرف بانتفاضة الحجارة.
ومثل باقي الانتفاضات التي سبقتها كان الدفاع عن أرض فلسطين هي الشعلة التي أطلقت انتفاضة الأقصى 2000–2005، حيث هبّ الشعب الفلسطيني دفاعًا عن المسجد الأقصى الذي انُتهك من قبل أريل شارون، وكانت الفعاليات الشعبية من أبرز مظاهرها في السنتين الأوليين.
والآن وبعد مرور سبعين عامًا على نكبة الشعب الفلسطيني ما زال الشعب ينبض بالمقاومة، وإن تنوعت أشكالها واختلفت أدواتها، إلا أن هدفها ما زال واحدًا، وهو طرد الاحتلال والعودة إلى فلسطين. وعلى الرغم من محاولات التثبيط وبث اليأس في نفوس الشعب الفلسطيني، إلا أن الشعب ما زال يبدع، فهبّة باب الأسباط في القدس أرغمت الاحتلال على إزالة كل البوابات الإلكترونية والكاميرات وإلغاء إجراءاته التي اتخذت لفرض هيمنته على المسجد الأقصى. وهناك صورة أخرى مُشرقة في قريتي بلعين ونعلين، في مقاومة الجدار العنصري، حيث يبدع الشعب ومن يسانده من المدافعين عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه أمام غطرسة الاحتلال.
مسيرات العودة
تمر القضية الفلسطينية بأصعب حالاتها، حيث بات واضحًا أن مشروع التسوية السلمية قد مات دون أن يترك إرثًا حقيقيًا للشعب الفلسطيني سوى سلطة هزيلة، لا تستطيع أن تتخلى عن التزاماتها الأمنية والاقتصادية التي تخدم الاحتلال الصهيوني، دون أن تخدم الشعب الفلسطيني. وفي المقابل، فإن مشروع المقاومة الفلسطيني بات يعاني من الحصار الذي يستهدف بقاءه، مما جعله في حالة ملاحقة في الضفة الغربية وفي حالة حصار في قطاع غزة، وهو ما وضعه في أزمة ممارسة للمقاومة بالرغم من امتلاكه شرعية الوجود والفعل المقاوم.
من هنا، بدأت فكرة مسيرات العودة بمبادرة شبابية تبنتها الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وهي مرتبطة بإحياء ذكرى سبعينية النكبة، بحيث تتركز بشكل تصاعدي في أيام الجمعة ابتداء من ذكرى يوم الأرض في 2018/3/30 وصولاً إلى ذكرى النكبة في 2018/5/15. ثم اعتمدت القوى الفلسطينية فكرة توسيعها جغرافيًا لتشمل الخارج. وقد شارك مئات الآلاف في الجُمعات المتتالية منذ انطلاقتها. وقد وصلت هذه المسيرات ذروتها في قطاع غزة في 2018/5/14، حيث استشهد 62 فلسطينيًا، وجرح نحو 3,200 آخرين؛ ليصل مجموع ما قدمته غزة عبر هذه المسيرات إلى 104 شهداء، و11 ألف جريح منهم 3,500 بالذخيرة الحية.
وقد ظهر التباين في حجم ونوعية التفاعل بين المناطق: إذ كانت المسيرات في قطاع غزة مشروعًا أساسيًا ومركزيًا للعديد من الفصائل الفلسطينية، فيما شهدت الضفة الغربية مسيرات محدودة اشتبكت مع الاحتلال في العديد من النقاط، كما شهد الداخل الفلسطيني مسيرات أحيت يوم الأرض وتضامنت مع شهداء القطاع، وشهد الأردن مسيرات في أيام الجمعة داخل العاصمة، تكللت بمسيرة ضخمة إلى منطقة السويمة قرب الحدود مع فلسطين المحتلة في 2018/5/11.
أما في لبنان الذي تركزت فيه التجمعات في مخيمات اللجوء، فلم تتجه المسيرات نحو الحدود بفعل عدم رغبة الأطراف اللبنانية حدوث أي تصعيد مع الاحتلال الإسرائيلي قد يؤدي إلى حرب، إلا أن القوى الفلسطينية والأحزاب اللبنانية قامت بمسيرة حاشدة إلى قلعة الشقيف؛ لما تحمله هذه القلعة من رمزية كبيرة للمقاومة؛ وقد تجاوز عدد المشاركين في هذه المسيرة اعشرين ألف مشارك من مختلف مخيمات لبنان وتجمعاته.
العوامل الدافعة لمسيرات العودة
1. استمرار الحصار الصهيوني على قطاع غزة بكل أشكاله، وازدياد معاناته بسبب مشاركة أطراف فلسطينية وعربية ودولية في محاولات إخضاعه.
2. الانحياز الأمريكي للمشروع الصهيوني، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
3. المسيرات هي نقطة توافق بين جموع الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والإسلامية.
4. الانحياز الشعبي العربي والإسلامي، ووجود تأييد شعبي دولي واسع لحق الشعب الفلسطيني بالعودة.
5. فشل مسار التسوية السلمية، واستمرار الحصار على قطاع غزة، واستمرار مشروع التهويد، وتغيير الحقائق على الأرض من قبل الاحتلال الصهيوني.
6. تمتع المسيرات بالشرعية الدولية والإنسانية، وبعدها عن التصنيفات «الإرهابية».
7. اندفاع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية والشتات، ورغبته في تحقيق حق العودة إلى فلسطين الذي كفلته القرارات الدولية.
8. محدودية الخسائر البشرية للمسيرات مقارنة مع المواجهات المسلحة المفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي.
9. وقوف المسيرات في وجه حالة الاندفاع عند بعض الدول العربية نحو الكيان الصهيوني للتطبيع معه.
10. تشكيل المسيرات سدًا مانعًا أمام محاولات اجتثاث المقاومة الفلسطينية.
11. عمل المسيرات على إظهار الوجه الحقيقي للاحتلال الذي يستهدف المتظاهرين من أطفال ونساء وشيوخ بالرصاص الحي القاتل، و«تلذذه» بالقتل، كما أظهرته الفيديوهات المسربة من جنودهم.
العوامل الكابحة لمسيرات العودة
1. الضغط الأمريكي – الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية في سبيل وقف كل أشكال المقاومة.
2. خضوع بعض الدول العربية في المنطقة للرغبات الأمريكية والإسرائيلية، واندفاعها نحو التطبيع، وما قد يترتب عليه من التزامات تؤدي إلى ممارسة الضغط على الشعب الفلسطيني ومقاومته في سبيل وقف مسيرات العودة.
3. التنسيق الأمني الذي بات يشكل طوق نجاة للاحتلال الإسرائيلي، خصوصًا في الضفة الغربية؛ إذ اكتسبت قوات الاحتلال «مشروعية» قمع المظاهرات في الضفة الغربية من خلال التنسيق الأمني. كذلك بات التنسيق الأمني يشكل حائط سدّ أمام العمل المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وهو ما يظهر السلطة الفلسطينية بدور الشرطي الذي يحمي الاحتلال.
4. ضعف الدعم المادي والإعلامي؛ وهو صمام الاستمرارية لمشروع المقاومة بكل أشكالها، ومنها مسيرات العودة.
سيناريوهات المستقبل
السيناريو الأول: استمرار المسيرات كجزء من المقاومة الشعبية وزيادة زخمها، لتشمل الضفة الغربية والقدس والداخل، وتمكنها من اختراق الحدود في القطاع. إلا أن هناك عاملًا كابحًا بقوة لهذا السيناريو، وهو استمرار سلطة رام الله في التنسيق الأمني.
السيناريو الثاني: توقف مسيرات العودة إلى الحدود التي وصلتها في منتصف أيار/ مايو 2018، ثم تراجع زخمها، وتراجع التفاعل الشعبي معها، مع مرور الزمن دون تحقيق إنجازات تلهب حماس الجمهور، أو دون تصاعد التفاعل في الضفة الغربية أو في فلسطين المحتلة سنة 1948، مما قد يعيد الأوضاع المحتقنة وحالات الإحباط واحتمالات الانفجار في مختلف الاتجاهات إلى سابق عهدها.
السيناريو الثالث: النجاح الجزئي، وذلك بالوصول إلى توافق (ولو ضمنًا) يؤدي إلى تخفيف الحصار عن قطاع غزة مقابل وقف المسيرات، ويمكن تحقق هذا الخيار إذا ما نجحت المسيرات في الضغط على الكيان الصهيوني، وأصبح بالإمكان قطف ثمار سياسية واقتصادية للشعب الفلسطيني.
السيناريو المرجح وتوصيات مركز الزيتونة
يصعب على هذه المسيرات التي خُططّت أصلًا لتأخذ طابعًا مؤقتًا مرتبطًا بسبعينية النكبة، والتي تركزت في قطاع غزة أن يراهن عليها لتحقيق مكاسب استراتيجية، إلا إذا أخذت شكلًا دائمًا وزخمًا متواصلًا وامتدت إلى باقي الداخل الفلسطيني، وإلى الحدود مع فلسطين من الخارج. غير أنه يمكن المراهنة على التصعيد المستمر أو الموسمي، وتحقيق مكاسب مرتبطة بتخفيف الحصار وتعديل سلوكيات سلطة رام الله.
1. يجب أن تكون مسيرات العودة جزءًا من الاستراتيجية الشاملة لمقاومة الاحتلال.
2. لا بدّ من توضيح هدف المسيرات للشعب الفلسطيني ليتم الإسهام الفاعل، ضمن مشاريع أخرى، في تحقيق ما يلي:
أ. رفع أو تخفيف الحصار.
ب. إفشال مخطط «تفجير قطاع غزة»، وتوجيه الاحتقان «الانفجار الشعبي» ليستهدف الاحتلال.
ج. إبراز حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي هجّروا منها.
د. إعاقة مشروع التطبيع ومشروع تصفية القضية الفلسطينية.
هـ. إعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية، وتعزيز حضورها السياسي وسط الاضطراب الذي تشهده المنطقة.
و. تعزيز ثقافة المقاومة الشعبية.
3. استخدام المسيرات والمقاومة الشعبية وتوسيعها زمانيًا ومكانيًا، بحيث يتم توسيع الامتداد الزماني لها لتصبح على مدى العام تحت مختلف الأسماء، وتوسيع الامتداد المكاني لها لتشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل الفلسطيني ودول الطوق، مع زيادة نقاط الاحتكاك بالاحتلال على حدود غزة وفي الضفة الغربية والداخل المحتل، وحشد القوى المعنوية وتكثيف التعبئة النفسية للجمهور بالتزامن مع المسيرات، وكذلك حشد القوى المادية بما يشمل المستلزمات المالية والتنظيمية والسياسية والإعلامية لتحقيق الأداء والاستثمار الأمثل لها.
4. الاقتصاد في القوى وتخفيف التكاليف البشرية والمادية، واعتماد أسلوب الموجات بما يراعي مدى الزخم الشعبي ويتلافى الانجرار إلى مواجهة مسلحة.
5. إعداد استراتيجية تحرك سياسي وخطاب إعلامي للاستثمار السريع والمتكامل للتضحيات.
6. ضرورة استمرار الإجماع الوطني على المسيرات.
7. ضبط وتيرة الاحتكاك بما ينتج أكبر عائد من الضغط الخارجي على الاحتلال، وبما يشمل تجنب التصعيد في الأوقات التي يتركز فيها الاهتمام الدولي على ملفات ساخنة أخرى.
8. الحفاظ على إدارة مشتركة للمسيرات بهدف تفادي مساعي عزلها و«شيطنتها»؛ ولتفادي الضغوط المطالبة بوقفها، والحفاظ على الصبغة الوطنية الجامعة في الأداء، واعتبار تجربة إدارة المسيرات مدخلًا لتعزيز التنسيق النضالي بين مختلف الفصائل والقوى الفلسطينية.
* يتقدم مركز الزيتونة للأستاذين محمد الجمل ووائل سعد بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.