ما هي الدولة العميقة؟
كافة التعريفات تتعرض لشكل العلاقات بين المؤسسات المختلفة وبعضها البعض، هذا الشكل الذي ينتج عنه خريطة التفاعلات التي تؤثر على صناعة واتخاذ القرار السياسي والسيادي في أي دولة ما أي كان نوع نظامها الاقتصادي والسياسي، ويدخل في ذلك التشابكات والمصالح والعلاقات المتبادلة.
تعريف الدولة العميقة
نشأ مصطلح الدولة العميقة أولا في تركيا في تسعينيات القرن الماضي للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين أخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية، وكان ذلك أول تعريف وظهور لمفهوم الدولة العميقة.
برز بعد ذلك تلك المفهوم بتعريفات مشابهة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية مع إنشاء الوكالة المركزية للاستخبارات الأمريكية، وبدا أن الدولة العميقة تتمثل في شبكات السلطة السياسية في واشنطن والسلطة الاقتصادية والمالية في وول ستريت والتي تعمل على حماية مجموعة من شبكات المصالح المختلفة.
تردد بعد ذلك مفهوم الدولة العميقة بين العديد من الدول، ولا سيما في منطقتنا العربية والإسلامية وخاصة فيما بعد الانتفاضات العربية التي تعاقبت على العديد من العواصم العربية وما آلت إليه الأحداث خاصة في دولة بحجم مصر، والتي شهدت تحولا أظهر مفهوما واضحا للدولة العميقة التي لعبت دورا مهما في مجريات الأحداث، ذلك المفهوم هو أنها تمثل المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية التي تجتمع على هدف الحفاظ على مصالحها ضد أي تهديد والعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه بما يحفظ تلك المصالح المتشابكة، كما تقوم بذلك بدعوى الحفاظ على الأمن القومي ضد التهديدات الخارجية.
يمكن أيضا إضافة جزء متعلق بالبيروقراطية (الجهاز الاداري)، تلك المتعلقة بأسلوب الادارة الذي يحافظ بقدر كبير على الوضع القائم دون تغيير والحفاظ على المصالح المتشابكة ضد أي تهديد من قبل أي جهة بما في ذلك المواطن نفسه.
من الجدير بالذكر في ذلك الموضع أن مفهوم الدولة العميقة لم يكن وليد اللحظة دون أي مقدمات او ترتيبات، فلقد تم تهيئة المناخ المناسب من أجل إبراز ذلك المفهوم وكي يعمل بشكل فعال ويؤدي دوره على أكمل وجه. هذا المناخ كان دائما نموذج الدولة القومية الحديثة بأجهزتها ومنهجها وفلسفتها في الحكم والسلطة.
الدولة العميقة أحد مخرجات الدولة القومية
“الدولة فاعل له مصالح خاصة به لا تعكس بالضرورة مصالح المجتمع“
– وائل حلاق،كتاب الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي.
نشأت الدولة القومية الحديثة بعد معاهدة ويستفاليا للصلح عام 1648، وكان هدف قيام هذا النموذج هو الحفاظ على القوميات والحدود ووضع أطر واضحة للعلاقات بين الدول وشعوبها، وإنهاء حالة الصراع التي كان أحد أسبابها وفق نظرة من أبرموا هذه المعاهدة هو وجود الامبراطوريات وعدم وجود ترسيم واضح للحدود مما يؤدي إلى زيادة الصراعات بين الشعوب وأنظمة الحكم المختلفة في ذلك الوقت.
إن الدولة القومية الحديثة ترتكز على مبادئ ومن أهمها مبدأ “السيادة”، وهذا المبدأ يعد من المبادئ المشكلة والرئيسية لفهم دور الدولة القومية، ففي إطار السيادة تمنح الدولة السلطة والحق المشروع في استخدام العنف والقوة وما في وسعها للحفاظ على النظام العام، بمعنى آخر فإن الدولة الحديثة بهذا المفهوم تحتكر التشريع والتنفيذ والحكم كما تسيطر على الجهاز الاداري الذي يعد ترجمة للتأصيل القانوني ومكمل له وتتغلغل ثقافيا في بنى المجتمع. إذا فهي لا تتحكم بالمؤسسات فقط ولكنها أيضا تتحكم في المواطنين، مما يستتبع أن الدولة هي المشرعة للقوانين وهي التي ترى تنفيذ القانون في إطار ما تراه مناسبا للحفاظ على النظام العام، فهي تحتفظ بحقها في خرق القانون متى تتطلب ذلك.
ساعد هذا النموذج على نشأة شبكات معقدة من العلاقات والمصالح التي على مر الزمان تتجذر في مفاصل وأجهزة الدولة المختلفة والتي -وفي لحظة تاريخية معينة- لا يمكن أن يحدث تغيير دون اقتلاع هذه الدولة من جذورها، فهي تدافع عن مصالحها بشراسة من خلال العديد من الوسائل والأدوات التي تمتلكها بفعل مفهوم السيادة الذي من خلاله تقوم بتبرير وشرعنة أفعالها.
فالدولة القومية الحديثة هي التي تضع مفهومها حول الإله والميتافيزيقا ” الدين” في إطار ما يخدم مصالحها المتعددة، كما هي المتحكمة في الطبيعة وبما في ذلك الإنسان، فهي تقوم بالسيطرة عليه من المهد ” شهادة الميلاد” إلى اللحد ” شهادة الوفاة”، فهذا النموذج جعل من الدولة كيانا غير قابل للتغيير أو التعديل، فهي جعلت من نفسها إلها !
و يتم استغلال المؤسسات الدينية التي تسيطر عليها الدولة لتبرير تلك الاجراءات من الناحية الدينية حتى يتم إضاء طابع “شرعي – ديني” على ممارسات الدولة الأمر الذي يدفع المواطنين بالتزام الصمت، من خلال استخدام بعض المصطلحات مثل “الخوارج” و “أعداء الدين” و “طاعة ولي الأمر” وغيرها من المصطلحات الشرعية التي يتم استخدامها لتبرير الكثبر من أعمال العنف والقهر. فالدولة هنا هي “الإله” الذي يطلق قوة روحانية وخفية من خلالها يحدد العدو ويشكل حالة التأهب للدفاع والذود عن “الأمة” و “الفرد” و”الدولة” تلك المعاني التي تصوغها وتحددها أيضا الدولة ذاتها.
إن هناك خصائص وبنى وسمات امتلكتها الدولة في الواقع لمئة عام على الأقل ولايمكن تصور الدولة دون هذه البنى والخصائص ولم يستطع أحد مع كافة اختلاف المدارس تغيير شكل الدولة وذلك لأن شكل الدولة منذ نشاتها وبداية ظهورها عمليا في معاهدة ويستفاليا للصلح، لم مجرد عنصرا جوهريا لها بل هو الدولة نفسها في ذاتها، لذلك يمكن القول بأن الدولة العميقة هي الوليد الشرعي للدولة القومية الحديثة.
كيف تعمل الدولة العميقة؟
يعد القانون واستخدامه بطرق مختلفة وغير واضحة أحيانا من الوسائل الهامة في يد الدولة باعتبارها هي المشرع للقانون والمنفذة له في ذات الوقت، فهي تعتبر من الوسائل الأكثر فاعلية في القيام بالعديد من الأفعال والسياسات. وداخل هذا الاطار نتعرف على حالة “تعليق القانون” تلك الحالة التي من خلالها يتم توقف العمل بالقانون ويكون المبرر لذلك هو اتخاذ التدابير اللازمة للدفاع عن الدولة ضد الخطر الذي يواجه ” الأمة “، فعندما تعلن الدولة حالة الطوارئ والاضطراب فيتم تعليق العمل بالقانون.
هذا النظام القانوني المتناقض لا يؤدي إلا إنتاج فراغ قانوني. في إطار ذلك يتم انتاج حاجة من الهلع الشديد بسبب شدة الخطر ودنو العدو الأمر الذي يجعل من أفعال الدولة في هذه الحالة مقبولة بالنسبة للشعب فهي تضفي عليها نوع من أنواع الشرعية “المتخيلة” والتي من خلالها لا تتم المحاسبة القانونية لتلك الأفعال بعد انتهاء تلك الحالة.
إن مسألة تعليق القانون من الناحية العملية تعد أحد أبعاد حالة الاستثناء التي تخلقها الدولة من أجل الحفاظ على مصالحها الحيوية والقومية وفي إطار من قبول شعبي يضفي حالة من الشرعية لأفعال قد توصف بالحصار السياسي بجانب الحصار العسكري. في هذا الإطار يكون للفرد المواطن الحق في الدفاع الشرعي عن نفسه، وبما أن الدولة هي الممثل “المتخيل” للأمة “المتخيلة” فإن لها الحق في الدفاع الشرعي عن نفسها وعن الدولة واتخاذ كافة الاجراءات والتدابير لذلك. فالغاية من وجود الدولة هو بقاء الدولة ذاتها ولابد من التضحية بأي وكل شئ من أجل تحقيق هذا الهدف.
فاذا تحدثنا بلغة المناطقة، فيمكننا القول بأن المجتمع والمؤسسات الوطنية في ظل الدولة العميقة يحدث بينهم اتفاق بدلالة “غير لفظية وضعية” أي اتفاق دون أن يتفقوا بشكل صريح بالكلمات أن الدولة هي من يحدد العدو ومن يحدد الخطر وما يهدد الأمن القومي والعمل على حماية تلك الحدود بكل الوسائل الممكنة بما في ذلك خلق حالة تعليق القانون والطوارئ وانتاج حالة من الهلع داخل المجتمع.
يمكن القول أيضا أن الدولة العميقة عبارة عن تلك السلطة الآمرة التي تشكل توجه الدولة والمجتمع والمزاج العام من خلال مفهوم السيادة على الأرض والمواطن والقانون، والتغلغل الثقافي في المجتمع من خلال خلخلة البنية الاجتماعية والاقتصادية في مرحلة ما قبل الدولة، وهي ذات حدود أقل وضوحا من السلطة التنفيذية العسكرية في حالة الاستثناء غير أنها تختفي ” ظاهريا” في حالة زوال الخطر.
إنها دائما مراقبة لما يحدث على الساحة السياسية والاجتماعية وتعمل على التأثير في تلك المساحة من أجل ضمان الحفاظ على شبكة المصالح والمنافع الخاصة بهذا العمق من الدولة من خلال شعار “من يبتغي الدولة الآمنة فليتبعني” وهذا إشارة إلى منطقة وحالة لا ملجأ ولا أمان فيما وراء ما تتحدث عنه الدولة في خطابها للمجتمع، ذلك المجتمع -وفي أحيان كثيرة – يعلم قدر منه أن الدولة والنظام لا يمثلان الشعب بل ويضطهده تحت ذلك الشعار إلا أنه يظل مخولا للتحدث بصورة شرعية بالنيابة عن المجتمع وأفراده.
أيضا تقوم الدولة بامتلاك أدوات الادارة “البيروقراطية” التي تعبر عن القانون الذي تشرعه الدولة وتضعه للتنفيذ من خلال التنظيم والطوعية، تلك الأداة التي دائما ما تعلن أنها تدعو إلى المساواة بين المواطنين كافة، إلا أنها لا تعبر بحق عن العلاقة بين النخب الحاكمة المسيطرة من جهة -المعبرة عن مصالح الدولة العميقة- والبنى القانونية والبيروقراطية من جهة أخرى.
الحالة المصرية كنموذج لمفهوم الدولة العميقة تطبيقا
في حالة المصرية يمكننا أن نضيف لما سبق أحد أدوات السيطرة الادارية للدولة العميقة وهو السيطرة على مراكز الحكم المحلي من خلال توطين عدد كبير من رجال القوات المسلحة المتقاعدين لشغل المناصب العليا في المواقع الادارية في المحليات ذلك لحماية مقدرات ومكتسبات الدولة العميقة في مناطق الدولة والسيطرة الجغرافية لتأمين تلك المكتسبات، فكما يستشهد الباحث يزيد الصايغ في بحثه بعنوان “فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر” عن الحالة المصرية يقول:
“يمكن للمتقاعدن العسكريين الذين تربطهم علاقات مع جهات نافذة أن يأملوا في تعيينهم في وظائف في الجهاز الحكومي المدني توفر لهم فرصا مربحة خاصة تمكنهم من تأمين دخل إضافي أو مضاعفة مجوداتهم المادية، أصبح المتقاعدون العسكريون يشغلون وظائف في جميع مستويات الحكم المحلي، حيث عملوا كذراع تنفيذية وأمنية موازية تتبع في نهاية المطاف الرئيس“
وهو ما نشهده في العديد من المستويات الادارية والوزارية. فإذا تحدثنا بشكل أكثر عن الحالة المصرية فإننا نرى أن المؤسسة العسكرية -كما في تركيا- هي التي تحمي مصالح الدولة العميقة وتتجسد فيها معاني الدولة القومية الحديثة بكافة معانيها التي ذكرنها من التغلغل الثقافي في المجتمع من خلال ظاهرة “التدين الشعبي” الذي -في العديد من الأحيان- يستخدم لتسكين المجتمع وشرعنة تصرفات ” استثنائية” في ظروف معينة.
أيضا نرى سيادة الدولة من خلال وضع المؤسسة العسكرية فوق مستوى القانون ومن أبرز أمثلة ذلك هو عدم خضوع موازنة ومصروفات هذا الكيان -الذي يدور في فلك اقتصادها الرسمي- – لأي نوع من أنواع الرقابة المدنية، فهذا الكيان يمثل الدولة أي بمعنى أدق هو “السلطة الآمرة” التي تحافظ على إطار محدد لامعياري عادة يخدم مصالحها، بشكل ما أو بآخر فهو يرى أنه “الدولة” ذاتها ويتصرف على هذا الأساس.
كما تمثل المؤسسة العسكرية في مصر السلطة الأبوية التي تعتبر المواطنين المدنيين رعايا و”أعيال” داخل حدود تلك الدولة بل ويعتبر الالتحاق بالسلك العسكري هو الضامن الأمثل لحياة اجتماعية واقتصادية آمنة على المستوى الفردي، الأمر الذي رسخ أهمية وقوة وحيوية المؤسسة العسكرية في الوجدان المصري، تمثل ذلك في تبرير أفعال الدولة العميقة التي يحركها بشكل مسبق ودون حالة للسؤال أو التفكير في علة وسبب ما تفعله الدولة من ممارسات قد تكون لا إنسانية ولا معيارية في كثير من الأحيان، بل ولا يمكن إخضاعها للقانون الذي تضعه الدولة ذاتها، فهي المشرعة.
خلاصة القول هي أننا أمام تكتل وشكبة معقدة من العلاقات والتداخل بين أجهزة ومجموعات عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية ومدنية ودينية لمقاومة أي تغيير يطرأ من شأنه أن يهدد المصالح الحيوية التي يتوقف عليها وجود الدولة العميقة والقائمين عليها، ونستطيع أن نرى ذلك في أمثلة واقعية مثل في تركيا “الحفاظ على علمانية الدولة عن طريق الاغتيالات السياسية واحداث اضطرابات”، الولايات المتحدة الأمريكية ” الحفاظ على المصالح الاقتصادية والأمن القومي من خلال السيطرة على السوق داخليا، والحروب وقلب الأنظمة السياسية في دول بعينها خارجيا” ومصر ” الحفاظ على المصالح المختلفة المنتفعة من النظام العسكري مثل السيطرة على الخدمات الحيوية مثل الكهرباء والطاقة”، وغير ذلك من الأمثلة الكثير والكثير الذي يوضح تلك الحقيقة بشكل جلي.
إنها ليست دولة داخل الدولة إنما هي الدولة نفسها. وهذا يفسر عدم حدوث التغيير المنشود في الدول التي قامت بها الثورات مثل يناير 2011.
قائمة المراجع
–The Green Political Foundation
– Huffington post,anatomy of the deep state
–Review on Deep State: Inside the government Secrecy Industry
–The Deep State: How Egypt’s Shadow State won out?
–منظومة الدولة العميقة في ظل الربيع العربي، الجزيرة.
– فهمي هويدي،سؤال الدولة العميقة في مصر، الجزيرة.
– وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2014.
– يزيد صايغ، فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر، أوراق كارنيغي، بيروت، 2012.
– جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، د. ناصر اسماعيل: مترجم، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2015.