ماذا بعد الانتخابات التركية؟
ومنذ الإعلان عن نتائج الانتخابات التي شكلت صدمة لحزب العدالة والتنمية لم يكن يتوقعها، راح رجال السياسة والمحللون يطرحون سيناريوهات متعددة تتعلق بأطراف الحكومة الائتلافية المقبلة.
ومع صباح كل يوم جديد كانت تلك السيناريوهات تتطور وتتبدل وفق ما يستجد من تصريحات للزعماء السياسيين في الأحزاب المختلفة. ناهيك عن التصريح الأخير لرئيس الجمهورية التركية أردوغان الذي بدت فيه لهجة التهديد واضحة بقوله أنه إن لم تتشكل الحكومة الائتلافية خلال الـ 45 يومًا فإنه سيلجأ حتمًا إلى إعادة الانتخابات البرلمانية.
وبغض النظر عما إذا كانت إعادة الانتخابات يمكنها أن تصب في صالح حزب العدالة والتنمية أم لا، فإن المشهد السياسي في تركيا حاليًا يكشف عن أزمة سياسية قد تبدو غريبة للبعض، إلا أنها كانت الوضع المعتاد للحالة السياسية التركية خلال عقد التسعينيات بأكمله.
فالحكومة الائتلافية كانت هي السمة الرئيسية للوضع السياسي في تركيا خلال ذلك العقد حيث كان متوسط أعمار تلك الحكومات لا يتجاوز البضعة أشهر، فضلاً عن انسداد قنوات اتخاذ القرار السياسي في تلك الفترة، ما جعل تركيا أشبه بالكرة العالقة بين أحبال الأحزاب السياسية المختلفة تتجاذبها من كل جانب.
ولا ريب أن نتائج هذه الانتخابات البرلمانية قد أعادت تشكيل الخريطة السياسية بأيديولوجياتها المختلفة، وستعمل حتمًا على إعادة رسم مسارات تركيا في السياسة الداخلية والخارجية في ظل المشكلات المتأزمة التي تعاني منها تركيا حاليًا داخليًّا وإقليميًّا.
الحكومة الائتلافية المقبلة: توافقات وتنازلات متبادلة
يستوجب الدستور التركي، بعد انتخاب رئيس للبرلمان، أن يقوم رئيس الجمهورية بتكليف أحد الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان بتشكيل حكومة جديدة.
بينما يقضي العرف السياسي بأن يكلف رئيس الجمهورية الحزب الفائز بالمركز الأول في الانتخابات بتشكيل الحكومة، وفي حال إخفاق الحزب في ذلك يقوم رئيس الجمهورية بتكليف الحزب الفائز بالمركز الثاني، وهكذا.
كما يمنح الدستور لرئيس الجمهورية الحق في الدعوة إلى إعادة الانتخابات البرلمانية حال الفشل في تشكيل الحكومة بعد انتهاء مدة 45 يومًا من تكليفه بتشكيلها. فإلى أين يتجه المشهد السياسي في تركيا؟
رغم أن الحسابات الرياضية تسمح بتشكيل حكومة ائتلافية بين حزب العدالة والتنمية وأحد الأحزاب الثلاثة الأخرى، أو بين أحزاب المعارضة الثلاثة مجتمعين دون حزب العدالة والتنمية، إلا أن حسابات الواقع السياسي وطبيعة النسيج الأيديولوجي للأحزاب السياسية ومدى قربها أو بعدها من نظام الدولة المؤسس يطرح سيناريوهات مختلفة.
فمنذ أن ظهرت النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية تداولت الأروقة السياسية احتمالية الائتلاف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومي.
وقام ذلك الطرح على مرتكز التقارب الأيديولوجي بشكل كبير؛ لما بين الحزبين من تقارب في التوجه المحافظ والرؤية القومية والانفتاح الديمقراطي. بيد أن الشروط التي وضعها “دولت بهتشالي” رئيس حزب الحركة القومي من أجل الموافقة على الائتلاف مع حزب العدالة والتنمية، كشفت عن عدم رغبة حزب الحركة القومي في ذلك الائتلاف.
ففضلاً عن أنه في حال تشكُّل الحكومة الائتلافية من حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري، سيحصل حزب الحركة القومي على لقب “حزب المعارضة الرئيسي” الذي يجعله قادرًا على رفع الدعاوى أمام المحكمة الدستورية دون الحاجة إلى موافقة خُمْس أعضاء البرلمان، تمثلت شروط “بهتشالي” في إيقاف عملية السلام مع الأكراد، والتخلي عن فكرة النظام الرئاسي، وعدم تدخل أردوغان في العمل الحزبي، وفتح التحقيقات في تهم قضايا الفساد والرشوة ضد أي شخص أياً كان اسمه.
كما يمكن القول أن حكومة ائتلافية بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومي بما بينهما من تقارب في الرؤى والأفكار قد يغذي عملية انتقال الناخبين بين كلا الحزبين، والذوبان الجزئي بين الأطر المرجعية لكلا الحزبين في ظل التفاعل المشترك في العملية السياسية.
فرغم إن التقارب الأيديولوجي بين الأحزاب في الحكومات الائتلافية قد يؤثر إيجابيًّا في مسارات العمل السياسي إلا أنه بتوسيعه لنقاط التلاقي يؤثر سلبيًّا على نقاط التمايز بين الأحزاب ويؤدي إلى ذوبان الكتل الناخبة بين الأحزاب.
أما حزب الشعوب الديمقراطي، فقد أسرع زعيمه “صلاح الدين ديمرطاش” فور إعلان النتائج الأولية للانتخابات برفضه التام الدخول في حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية. وبتصريحه ذلك يكون خارج معادلة الحكومات الائتلافية، ويكون قد أكد على رغبته في الحفاظ على موقعه في المعارضة وعدم الذوبان في مساومات السلطة، والعمل على زيادة كتلته الناخبة في الانتخابات المقبلة.
وتبقى المعادلة الأخيرة في تشكيل الحكومة الائتلافية بين حزب العدالة والتنمية والشعب الجمهوري هي الأقوى والأوفر حظًّا رغم التناقض الشديد بين التوجهات الأيديولوجية لكلا الحزبين. فكما أن الحسابات الأيديولوجية لا تفترض صحة الائتلاف بين هذين الحزبين، وهو ما تؤكده آراء القواعد المنتمية للحزبين، إلا أن تاريخ العمل الحزبي في تركيا يكشف عن وقوع ذلك النوع من التحالفات أكثر من مرة في عقد السبعينيات بين حزب السلامة الوطني بزعامة الراحل نجم الدين أربكان مؤسس الإسلام السياسي في تركيا وبين بولنت أجاويد.
وثمة أسباب تدفع إلى تشكيل ائتلاف بين حزبي العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري في هذه المرحلة السياسية التي تمر بها تركيا حاليًا، وهي:
- يقوم ذلك الائتلاف على تحقيق مصالح وأهداف حزبية مشتركة، لا دخل فيها للتمايز الأيديولوجي بين الحزبين بل إن ذلك التناقض في توجهات الحزبين يحفظ لكل منهما كتلته الناخبة.
- رغبة حزب الشعب الجمهوري العارمة للمشاركة في السلطة بعد ابتعاده عنها لعقود طويلة؛ حيث كان آخر وجود له في السلطة منفردًا عام 1950م وفي حكومات ائتلافية قصيرة في عقد السبعينيات والتسعينيات. ولا شك أن هذه المرحلة تمثل فرصة ذهبية للحزب في اختبار برنامجه الحزبي الذي قام بتطويره خلال السنوات الخمس الأخيرة، والحفاظ على كتلته الناخبة من التآكل، وبث الروح مرة أخرى في الحزب المؤسس للدولة التركية الحديثة.
- يسعى حزب العدالة والتنمية إلى التحول إلى “حزب الدولة”، بعد بقائه في السلطة منفردًا لمدة ثلاثة عشر عامًا، والتغلغل بكوادره وأفكاره داخل معظم أجهزة الدولة.
ومن ثم فإن ائتلاف حزب العدالة والتنمية مع حزب الشعب الجمهوري الذي يمثل حتى الآن “حزب الدولة” المؤسس لها بزعامة أتاتورك والتي تقوم مبادئه الستة على ذات المبادئ التي يقوم عليها الدستور التركي يمكنه أن يقدم “نسقًا سياسيًّا جديدًا” في إدارة الدولة ورسم استراتيجياتها المستقبلية، بمنأى عن السياسات الحزبية الأيديولوجية الأخرى البعيدة عن النظام المؤسس للدولة التركية.
- كما أن ذلك الائتلاف يمكنه أن يقلص من جبهات المعارضة المفتوحة أمام حزب العدالة والتنمية في شتى المجالات؛ وذلك باعتبار أن حزب الشعب الجمهوري هو أكبر أحزاب المعارضة. حيث من المفترض أن يفضي ذلك الائتلاف إلى مساومات تتبعها مواءمات سياسية في العلاقة بين الحزبين في الحكومة الائتلافية.
- ورغم أن هناك اختلاف في الرؤى بين الحزبين بشأن التحول للنظام الرئاسي، وتدخلات تركيا في قضايا المنطقة العربية، وسياستها الخارجية بشكل عام خاصة فيما يتعلق بملف الانضمام للاتحاد الأوروبي، إلا أن ثمة ما يجمع بينهما ويجعل الائتلاف بينهما أمرًا ممكنًا؛ وهو الاتفاق على استمرار عملية السلام مع الأكراد، والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي في البلاد.
- أضف إلى ذلك أنه في حال عدم ائتلاف حزب الشعب الجمهوري مع حزب العدالة والتنمية فإن البديل سيكون ائتلاف حزب الحركة القومي مع حزب العدالة والتنمية وهو ما قد يؤدي إلى توقف عملية السلام مع الأكراد خاصة في ظل التوترات المتصاعدة في المسألة الكردية داخل تركيا وخارجها، وما قد يجعل الاستقرار السياسي وبالتبعية الاستقرار الاقتصادي أمرًا غير ممكن. ومن ثم تكون معادلة العدالة والتنمية مع الشعب الجمهوري هي المعادلة الأفضل للاستقرار السياسي والاقتصادي في تركيا وتصحيح المسار الديمقراطي.
ورغم كل ما سبق يحتفظ سيناريو إعادة الانتخابات البرلمانية بمكانه بين السيناريوهات المحتملة وبقوة. لاسيما وأنه من المستبعد تمامًا أن يكلف رئيس الجمهورية أردوغان حزبًا آخر سوى حزب العدالة والتنمية بتشكيل الحكومة الجديدة.
ويمثل ذلك السيناريو خيارًا أساسيًا لدى حزب العدالة والتنمية دون غيره من الأحزاب الأخرى، اعتقادًا منه أن بإمكانه استعادة أصواته التي فقدها، وأن الناخبين الذين تخلوا عنه هذه المرة قد ندموا على خيارهم.
ويمكن القول أن هذه الأزمة السياسية التي يتعرض لها المشهد السياسي في تركيا تمثل منعطفًا ومرحلة انتقالية نحو تغير قادم في التوازنات السياسية التركية داخليًا وإقليميًا له انعكاساته وارتداداته على قضايا الداخل التركي مثل: وضعية الأكراد السياسية والاجتماعية، والبنية الايديولوجية والهيكلية لحزب العدالة والتنمية ذاته، وحالة الاقتصاد التركي بشكل عام، كما أنها ستؤثر حتمًا على الدور الإقليمي الذي تطمح تركيا الأردوغانية في القيام به، لاسيما فيما يتعلق بالنظام السوري وأكراد سوريا.
*أكاديمي متخصص في الشأن التركي – جامعة عين شمس
اقرأ المزيد
أثر الانتخابات التركية على المنطقة العربية (ملف) تأثير حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات التركية انفوجراف | كل ما تحتاج أن تعرفه عن الانتخابات البرلمانية في تركيا هل تؤثر الانتخابات البرلمانية علي الدور التركى في سوريا؟ قراءة في الانتخابات التركية وأثرها على تركيا والمنطقة