ماذا بعد أن تخلى مدراء الشركات الأمريكية الكبرى عن ترامب؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
يعتبر الهروب الأخير من قبل الرؤساء التنفيذيين للشركات من المجالس الاستشارية لترامب، وما أعقبه من حل للمجالس، أمرًا غير مسبوق. حيث شددت المؤسسة الإعلامية على السخرية من ترامب رجل الأعمال الذي فشل في الحفاظ على مستشاري أعماله. لكنها أغفلت أهمية هذه «الهجرة الجماعية»، وهو الأمر الذي أثارته تصريحات ترامب، التي عبر فيها عن تعاطفه مع المتظاهرين المتعصبين للبيض في بلدة شارلوت.
وصل ترامب للرئاسة وتعهد بأن يصبح مثالًا للزعيم الأمريكي، معيدًا للبلاد عظمتها. وأنه سيقضي على أكباش الفداء التي حمّلها مسؤولية الضعف الأمريكي المحتمل. فالخصوم السياسيون سيعانون من السخرية وقد يتعرضون حتى للمقاضاة. وسيخوف النقاد الإعلاميين بالتهكمات والتهديدات حتى يلتزموا الصمت. وسيعاد تنشيط المؤسسات الحكومية الراكدة، بالضغط عليهم لتحقيق مزايداته. كانت هذه قواعد اللعبة للحاكم اليميني القومي المترقب، في أقصى درجات صفائها.
لكن ترامب تولى منصبًا يفتقر لمقوم محوري لرئاسة قوية: فلم يتلق دعمًا من الشركات الكبرى والبنوك التي لها قوة اقتصادية وسياسية كبيرة في الولايات المتحدة.
بعد تنصيبه، بدأ ببناء هذا الأساس؛ حيث عين العديد من كبار رجال الأعمال في مناصب بمجلس الوزراء (على الرغم من أن اثنين فقط منهم جاءوا من مؤسسات ضخمة للأعمال التجارية، كالرئيس التنفيذي لشركة إكسون موبيل «ريكس تيلرسون» ورئيس جولدمان ساكس «غاري كوهن»). وفي محاولته للوصول إلى المزيد من رءوس الأموال الكبيرة، أنشأ مجلسين استشاريين للأعمال؛ منتدى الاستراتيجية والسياسة، والذي كانت مسئوليته السياسة الاقتصادية كاملة، ومجلس التصنيع الأمريكي، والذي يقدم المشورة بشأن السياسات التي تؤثر بشكل خاص على التصنيع.
مثلت هاتان الهيئتان وسائل رئيسية لترامب لترسيخ حكمه في الطبقة الرأسمالية. فتفاخر مجلس الاستراتيجية والسياسة بمسئوليه من المؤسسات المالية الضخمة كـ«جولدمان ساكس وجي بي مورغان» ومن كبرى الشركات غير المالية «بوينغ وجنرال إلكتريك وجنرال موتورز وآي بي إم وبيبسيكو ووول مارت». ويضم مجلس التصنيع المؤلف من ثمانية وعشرين عضوًا قطاعًا عريضًا من المصنعين الأمريكيين، متضمنًا المنتجات الاستهلاكية والسلع الرأسمالية ومنتجي الطائرات والمقاولين العسكريين والتكنولوجيا الحديثة والمستحضرات الطبية، فضلًا عن ممثليّن رمزيين عن نقابة العمال، وممثل عن رابطة التحالف العمالي للتصنيع الأمريكي. كما عقد المجلسان اجتماعات علنية مع ترامب عقب تأسيسهما (إلا أنهم لم يجتمعوا مجددًا منذ ذلك الحين).
كان لدى ترامب عمله الذي انقطع له في محاولة لبناء الجسور مع الأعمال التجارية الكبرى. فمنذ حملته الرئاسية، علق رؤساء الشركات والبنوك العملاقة دعمهم الحماسي المعتاد لمرشحي الحزب الجمهوري، محذرين من برنامج ترامب الانتخابي. وكان لهذا سبب وجيه؛ أولًا، دعوة ترامب لرفع التسعيرات الجمركية وغيرها من التدابير الوقائية التي تهدد أغلب الأعمال التجارية الكبرى، بدايةً من تجار التجزئة الذين يعتمدون على السلع الاستهلاكية المستوردة إلى شركات التصنيع التي تستورد موادها الخام من الخارج. وستواجه قطاعات التصدير الثقيلة تسعيرات انتقامية إذا ما أقامت الولايات المتحدة حواجز تجارية. كما أن معظم الأعمال التجارية الكبرى مرتبطة بالعولمة الاقتصادية.
ثانيًا، تدابير ترامب لمكافحة المهاجرين أثارت غضب قطاعات واسعة من الأعمال التجارية الأمريكية الكبرى. حيث تحتاج قطاعات الأعمال الزراعية والضيافة إلى عمالة مهاجرة منخفضة الأجر، في حين تعتمد قطاعات التكنولوجيا الحديثة على العمال ذوي المهارات العالية من الخارج. وثالثًا، فإن ميل ترامب لملاحقة الشركات الفردية – في محاولة ليملي عليهم قراراتهم الاستثمارية – يتعارض مع رغبة رأس المال الكبير في الحصول على أقصى قدر من الحرية في اختيار محل استثماره.
وبعيدًا عن المصالح الاقتصادية اليومية، يبدو أن الأعمال التجارية الكبرى قلقة بشأن السمات المتباينة للنمط الحاكم لترامب. في الرأسمالية المعاصرة، يحتاج رأس المال الكبير ما هو أكثر من مجرد أن يُترك وحده، فهو يحتاج إلى إدارة تشغيل فعالة تلبي احتياجاته الربحية، وتعتمد الأعمال التجارية الكبرى على «سيادة القانون» لتأمين حقوقها وممتلكاتها ضد الجهات الحكومية أو الخاصة. وتعتمد على فصل السلطات للحد من الدولة الوطنية، وتُقدّر الكفاءة الحكومية. رفض ترامب للوقائع والعلوم يزعج الشركات التي يجب أن تجمع المعلومات التجريبية ذات الصلة وتطبق التقدم العلمي للنجاة في السوق التنافسية. كذلك فإن تهوره وقلة تفكيره يغضب كبار المدراء التنفيذيين للشركات بطريقة مرعبة.
سلوك ترامب في السياسة الخارجية هو أيضًا مصدر محتمل للقلق. فرءوس الأموال الكبيرة تحتاج للولايات المتحدة للحفاظ على وجودها المهيمن على الساحة العالمية، بينما تهدد أفعال ترامب بتقويض هذه الهيمنة من خلال صد الحلفاء القدامى للولايات المتحدة، وفتح مساحة للمنافسين مثل الصين. وكما أن تهديدات ترامب الفجائية بالعدوان النووي أو التقليدي تقربه إلى المدراء التنفيذيين للشركات الكبرى، التي قد تستفيد من تعزيز الأسلحة، لكنها كذلك لا تريد عدم الاستقرار الناتج عن الحرب.
وقد أظهر ترامب دلائل قليلة على أنه يهتم فعلًا بما يعتقده هؤلاء المديرون التنفيذيون. ولكن إذا كان يريد تثبيت نظام قومي يميني في الولايات المتحدة، فإنه يجب أن يفوز على الأقل بتبعية رءوس الأموال الكبيرة، إن لم يكن دعمهم القوي. تحوُّله بعد الانتخابات من السياسة الاقتصادية المحلية إلى السياسات النيوليبرالية، من إلغاءٍ للوائح ودعواتٍ لتخفيض الضرائب التجارية، كانت بهدف شراء ذلك الولاء، فضلًا عن تهدئة النيوليبراليين المتشددين في الكونغرس. كما كانت مجالسه الاستشارية التجارية جزءًا رئيسيًا من جهوده الساعية لجذب الأعمال التجارية الكبيرة. والتي انهارت جميعها الآن.
المثير للسخرية حقًا في هروب الرؤساء التنفيذيين هو أنه لم يكن مدفوعًا بالخلافات المذكورة سابقًا بشأن السياسة الاقتصادية أو أسلوب ترامب في الحكم. وبدلًا من ذلك، كان تطرف ترامب وعنصريته المعلنة، وتمييزه الصريح جدًا للجماعات المتعصبة للبيض، هو ما تسبب في هذا الخروج الجماعي.
إن التغيرات الاجتماعية التي اجتاحت المجتمع الأمريكي منذ الستينيات لم تترك الشركات الكبرى والبنوك دون تأثير. ففي العشرينيات والثلاثينيات كانت عائلة «دوبونت»، أصحاب شركة «دوبونت»، وأحد المراقبين السابقين لـ «جنرال موتورز»، من المعادين للسامية سيئي السمعة والمؤيدين لهتلر. إلا أنه وبحلول عام 1973، ترأس المحامي اليهودي «ايرفينغ شابيرو» شركة «دوبونت» باعتباره أول رئيس تنفيذي للشركة من خارج العائلة.
في العقود التي تلت ذلك، انتقل أيضًا عدد من المجموعات الأخرى المستبعدة سابقًا مثل -الأمريكيين من أصل أفريقي واللاتينيون والآسيويون والنساء والشعب الليبرالي البلغاري- إلى الطبقة المتوسطة، حتى أن بعضهم وصل إلى الطبقة العليا في الشركات البيروقراطية. وكشف استعراض أعضاء مجلسي ترامب الاستشاريين التجاريين الرئيسيين عن قلة النساء والأقليات العرقية والشعب اليهودي. وتُمثل السيدات الرؤساء التنفيذيين لـ «كامبل سوب» و«جنرال موتورز» و «آي بي إم» و«لوكهيد» و«بيبسيكو» في المجالس، كما تمثلت الأقليات العرقية والإثنية في «جولدمان ساكس» و«ميرك» و«بيبسيكو».
في الواقع، بدأ هروب المديرين التنفيذيين بـ «كينيث فرازيير»، رئيس ميرك «الأميركي» ذي الأصول الأفريقية. وكان الأعضاء الثلاثة التاليين الذين قفزوا من السفينة جميعهن من النساء، ممثلات مجلس التصنيع من «جنرال موتورز» و «آي بي إم» و«بيبسيكو». ولكن لابد من أن جميع الشركات اعتبرت تصريحات ترامب الأخيرة تهديدًا لأعمالهم وللقوى العاملة الإدارية المتنوعة.
كما قيل إنهم يخشون انتقادات المستهلكين وأعضاء مجلس الإدارة لمواصلتهم المشاركة في مجالس ترامب. وعندما استطلع «ستيفن شوارتزمان» من مجموعة بلاكستون -زعيم مجلس الاستراتيجية والسياسة- آراء أعضاء المجلس بعد تصريحات ترامب عن بلدة شارلوت، وجد أغلبية حاسمة تؤيد حل المجلس. ألغى ترامب كلا المجلسين بعد هذا الحدث بوقت قصير (وإن لم يكن قبل إدانة الرؤساء التنفيذيين المنشقين).
وفي الوقت نفسه، تفاجأ الرئيس بتمرد علني وشيك من كبار ضباط الجيش. بعد تعيينه جنرالات في العديد من المناصب العليا في حكومته، كتحرك غير مألوف يحتمل أن يكون مرتبطًا برغبته في تثبيت نظام قومي يميني. وبعد أحداث بلدة شارلوت، اتخذ كبار قادة القوات الجوية والجيش وخفر السواحل وقوات المارينز والبحرية خطوة غريبة بإصدار بيانات عامة تدين العنصرية والنازيين الجدد.
فالجيش -الذي يعتمد الآن على التجنيد التطوعي- جاء ليعكس تنوع المجتمع الأمريكي المعاصر، أكثر حتى من الشركات الكبرى. حيث تهدد تصريحات ترامب العنصرية التماسك العسكري -ناهيك عن الإساءة لقادة الجيش الذين أصيبوا بجروح جسيمة لهزيمة الفاشية- والتي كانت أصواتهم المعارضة نكسة كبيرة لمشروع ترامب اليميني القومي.
والأسوأ من ذلك بالنسبة لترامب، أن بقاءه في منصبه الرئاسي ربما يصبح مهددًا الآن.
قدم ترامب خدمةً للجمهوريين بفوزه بالبيت الأبيض، لكنه الآن أصبح كالطوق في أعناقهم. يجب أن يكون الرئيس بينس -وهو سياسي نيوليبرالي متطرف- أكثر جاذبية بكثير أمام الجمهوريين بالكونغرس. فمن المرجح أن ما يعيقهم بالأساس هو خوفهم من دعم ترامب الذي ما زال قويًا بين ناخبي الحزب الجمهوري. ومع ذلك؛ إذا ما قرر جزء كبير من الأعمال التجارية الكبرى الانتقال إلى ما هو أبعد من الانفصال عن ترامب وبدءوا في تأييد إزالته بهدوء، فربما نرى بينس وقد أصبح رئيسًا قبل حلول 2020.