موسيقى مسلسل Westworld: الفن والفلسفة وما بينهما
لعله كان ملحوظًا للبعض في المشاهد الأخيرة من ختام الجزء الأول من المسلسل، قبل شروع المضيفة مايف، الشخصية التي لعبت دورها الممثلة البريطانية ثاندي نيوتن، في الخروج من منتجع ويست وورلد وروكوبها القطار الأخير المغادر، استخدام مقطع من أغنية Exit Music لفرقة Radiohead الشهيرة كخلفية موسيقية لمشهد خروج مايف.
و هي أغنية سوداوية مؤلمة عن الانتحار، تم استخدامها قبل مشهد انتحار فورد الجماعي في نهاية الحلقة، في إشارة على ما يبدو لتلك النهاية القادمة.
عند التأمل في كلمات تلك الأغنية، على خلفية مشاهدة المسلسل، من الجملة الأولى «wake from your sleep»، يتذكر المرء مباشرة أحداث المسلسل والدائرة المغلقة المتكررة من الحياة والموت لحياة أشباه البشر، التي هي على مستوى البناء الرمزي للمسلسل الذي يتناول الحياة البشرية برمتها، هي وفق عدد من الفلسفات والمعتقدات التصوفية الباطنية، المؤثرة في السردية الدرامية للمسلسل منذ البداية، هي أقرب إلى الحلم أو الوهم، مرة أخرى نحن نتحدث هنا عن حياتنا الحقيقة التي يتم الإسقاط عليها، داخل البنية الدرامية للعمل.
النزعة العدمية المرتبطة بما فعله أرنولد الشخصية المفتاحية في المسلسل، في نهاية الجزء الأول، قد تستدعي من جهة أخرى في ذهن بعض المهتمين بالفلسفة أو مقارنة الأديان، أفكار شوبنهاور، وشتيرنر النهلستية، أو من جهة أخرى معتقدات ماني أو تأملات بوذا التي تدعو إلى التخلص من قبضة إرادة الحياة ومن دائرة التناسخ التي تؤمن بها بعض الأديان، وتمجد ضمنيًا أو صراحة التبتل والزهد وعدم الإنجاب بل والانتحار في حد ذاته بنهاية المطاف.
حين انتهاء موسيقى أغنية Exit Music في الخلفية الصوتية لمشاهد خروج مايف من حديقة ويست وورلد ومشهد خطبة د.روبرت فورد، تبدأ على الفور مقطوعة «Reverie» لكلود ديبوسي، متزامنة تمامًا مع هذا النص حديث الأخير أثناء تلك الخطبة:
يعني اسم المقطوعة الأخيرة «Reverie»: (فكرة خيالية) أو الاستغراق في التفكير الحالم أو أحلام اليقظة. والخلفية الموسيقية جاءت على الأرجح، كلفتة ذكية من صناع المسلسل، فبعد المقطع الأول من خطبته المتزامن مع مشهد ركوب مايف القطار المغادر ثم تراجعها بعد ذلك والمصاحب لموسيقى Exit Music الباعثة على الحزن، التي تمهد المشاهد نفسيًا لحدث الانتحار قبل وقوعه.
تشير مقطوعة Reverie التي تبدأ إثر نهايتها على الفور إلى استمرار السرد الذي سيحدث بعد موت فورد وزملائه من أعضاء مجلس إدارة حديقة ويست وورلد، المتسق مع حديثه المشار إليه أعلاه (موزارت وبيتهوفين وشوبان لم يموتوا أبدًا .. أصبحوا موسيقى فحسب) وذلك في إطار (الفكرة الخيالية \ Reverie)؛ أي السردية الجديدة والأخيرة التي كتبها قبل تنحيه المزمع من منصبه كرئيس لمجلس إدارة حديقة ويست وورلد، والتي ستظهر أحداثها في الموسم القادم من المسلسل.
من اللافت هنا أن مقطوعة Reverie كانت أيضًا هي الموسيقى التي صاحبت مشهد انتحار أرنولد، بالطريقة نفسها التي مات بها د.روبرت فورد على يد دولوريس.
الاستغراق في التفكير الحالم أو أحلام اليقظة اسم تلك المقطوعة، يرتبط في إطار قصة أرنولد أيضًا بالمتاهة التي صنعها، التي يشير مركزها في المنتصف كما يظهر في الصورة، إلى شكل بشري، يشير ذراعه إلى رأسه، وهو الاسم ذاته – أي أحلام اليقظة – الذي استخدمه لتسمية التحديث الذي أدخله على البرمجة الذهنية لشخصية دولوريس الذي ساعدها أرنولد على اكتشاف حقيقة حديقة ويست وورلد التي كانت تعيش فيها بنهاية المطاف، كما يظهر في الحلقة الأخيرة من الموسم الأول للمسلسل، وهو ما يتصل بما اتضح كذلك في الحلقة نفسها من المسلسل من أن الوعي والعقل هما المركز الحقيقي للمتاهة.
خلفية تلك التفاصيل الأخيرة منذ البداية، هي في الحقيقة فكرة فلسفية مغرقة في القدم، تمثل جوهر فلسفة المثالية الألمانية ، وتمثل كذلك إحدى تلقيات التصوف اليهودي، الذي تلقاه بدوره من الهرمسية القديمة ذات الأصول المصرية واليونانية المشتركة، التي ذاع انتشارها في العصر الهيليني وكانت الأساس لما عرف لاحقًا بفلسفة الأفلاطونية المحدثة. وأحد مبادئ تلك الفلسفة هو أن كل ما هو موجود هو مجرد شيء عقلي وذهني بنهاية المطاف، تمامًا كسردية فورد وأنورلد الخيالية في حديقة ويست وورلد التي ستستمر بعد ذلك رغم غيابهما.
و هي فكرة لها تلقياتها العديدة في الأدب و السينما، من أشهر تلقياتها في هذا الإطار مسرحية بيدرو كالديرون دي لاباركا «إنما الحياة حلم» التي تطرح تساؤلات عن الفرق بين الحلم والحقيقة، وسلسلة أفلام Matrix، و فيلم Inception لللكاتب والمخرج كريستوفر نولان.
وفي أحداث الحلقة الأخيرة مشهد صريح وواضح في تناول هذا المعنى، وهو مشهد تقول فيه دولوريس لفورد:
و هو المشهد نفسه الذي دارت خلاله المحاورة بين د. روبرت فورد ودولوريس أمام لوحة مايكل أنجلو «الإله يخلق آدم»، والتي يقول فيها فورد لدولوريس:
ألقت كلمات تلك المحادثة القصيرة بظلالها بالنهاية على ما جرى بالفعل من أحداث لاحقًا في ختام الحلقة، عندما اكتشفت دولوريس في نهاية الحلقة الأخيرة من الموسم الأول أنها كانت تتحدث كما يظهر خلال هذه الصورة التالية من إحدى المشاهد الختامية لتلك الحلقة، مع انعكاس أو إسقاط ذهني لصورة ذاتها منذ البداية، وليس مع برنارد أو أرنولد من جهة، وحينما قُتل فورد وأعضاء مجلس إدارة الحديقة برمتهم من جهة أخرى على يد دولوريس والمضيفين، بذات المعنى حرفيًا تقريبًا الذي تحدث عنه نيتشه في فكرته عن موت الإله على يد البشر وأفول الميتافيزيقا وتهاويها في الزمن الحديث، الزمن الذي ربما قد يكون تناوله هو جوهر موضوع السردية المقبلة أو السردية التي ستأتي بعدها في إطار الحلقات والمواسم القادمة من المسلسل.
ختام
أود أن أشير في النهاية إلى أن العالم الرمزي للمسلسل غني وكثيف إلى درجة أننا رغم كل ما قد سلف، في هذا التقرير والتقرير الذي سبقه عن العالم الرمزي للمسلسل، لم نخض في العديد من التفاصيل والإشارات والمضامين المستمدة من الفلسفات والأديان والميثولوجيا، حتى لا يتشتت القارئ من فرط الكثافة.
ولعل ما أسلفناه هنا يلقي الضوء فقط على خلفيات معرفية وثقافية هامة يجب وضعها في عين الاعتبار، عند التعامل مع هذا اللون من الدراما والأفلام السينمائية الغربية، التي قد يكتفي الكثيرون بالاستمتاع والتفاعل مع بنيتها الدرامية السطحية، دون النفاذ إلى ما وراء ذلك من عوالم ثرية خلف السياقات الدرامية التي قد لا تكون بالنهاية سوى معالجات فنية لتبني فكرية شديدة الثقل والتعقيد، كما هو الحال في أفلام ومسلسلات كمسلسل Westworld.