مسلسل «وش وضهر»: الوجه الآخر لدراما «الكمبوندات»
لاقى مسلسل «وش وضهر» الذي عُرض الأيام الماضية على منصة «شاهد»، ردود فعل واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، كانت إيجابية في غالبها. المسلسل من تأليف «ورشة سرد» تحت إشراف «مريم نعوم»، ومن إخراج «مريم أبو عوف»، وبطولة «إياد نصار» و«ريهام عبد الحكيم». تصدّر المسلسل قائمة الأعلى مشاهدة في مصر، إذ نجح في عرض جزء مفقود في الدراما المصرية منذ سنوات وهو جزء الدراما الاجتماعية.
في «طنطا».. بعيدًا عن دراما الكومبوندات
لعل أحد أهم عوامل جذب جزء كبير من الجمهور للمسلسل، هو المكان الذي تدور فيه الأحداث، حيثُ تبدأ القصة بهروب جمال (بطلها الذي يعمل أمين مخازن في شركة أدوية) من القاهرة إلى طنطا، بسبب تنغيص زوجته الحياة عليه، لينتحل شخصية طبيب، ويفتح عيادة خاصة به هناك.
وفي طنطا يلتقي «ضحى» بطلة القصة، وهي فتاة ريفية بسيطة تقوم بإعالة عائلتها من صغرها بعد رحيل والدها، اضطرتها ظروف المعيشة الصعبة، وعدم توافر فرص العمل، للعمل كراقصة أفراح شعبية، قبل أن تنتحل هي الأخرى شخصية ممرضة، لتسوقها الأقدار للعمل في «عيادة جلال»، وهو اسم الطبيب الذي انتحله جمال.
في طنطا يتكشَّف لنا المجتمع على حقيقته التي لا تظهر في الأعمال الدرامية التي تدور داخل الكمبوندات المُنمقة في القاهرة، التي يغلب الرغد على طابعها وعلى قاطنيها بالتبعية. في طنطا يكشف لنا المجتمع وجهه الآخر، أو ظهره كما جاء في اسم المسلسل، حيثُ المعاناة هي السمة الغالبة، وضيق الحال يسيطر على الأغلبية.
يمكنك أن تلحظ ذلك في أغلب الكادرات التي تصورها ببراعة المخرجة مريم أبو عوف في الخارج، فكل ما تجده هو شوارع ضيقة، ومزدحمة، وعمارات ذات طابع معماري قديم، وأعمدة إنارة قديمة، وحوائط أكل الزمن عليها وشرب، وشخصيات تلهث جميعًا خلف لقمة العيش بوجوه عابثة، من الباعة الجائلين، إلى الموظفين بمختلف أنواعهم، إضافة إلى التراث الديني متمثلًا في جامع عريق كـ«السيد البدوي»، لتنقل لنا روح المكان، وهي أيضًا من المشاهد التي اختفت من الدراما منذ أن اتخذت من الكمبوندات أو من الفقاعات السكنية مكانًا لأحداثها.
لم تكن طنطا بصفة خاصة حاضرة بقوة في السينما والدراما المصرية، لكن معاناة الريف ومدن الأقاليم لم تغب عن الدراما والسينما إلا في العقد الأخير، لذا جاء اختيار طنطا كمكان لأحداث مسلسل «وش وضهر» كمفاجئة أسرّت الجماهير، التي تعطشت طويلًا لعمل يعكس واقعهم، وما يعيشونه حقًا.
طنطا كانت اختيارًا مثاليًا لعدة أسباب، لعل أهمها أنها لم يطلها حتى الآن التوسعات الإنشائية من الطرق والكباري التي تُشيد في القاهرة والمدن الرئيسية، ما يعني أنها ما زالت محافظة بشكل أو بآخر على طابعها المعماري الذي يعكس حال المواطنين، وهو ما جاء في أحداث المسلسل.
انتحل جمال شخصية طبيب، وجعل «التعريفة»، وهو الأجر الذي يتقاضاه من المرضى، عشرين جنيهًا فقط، ليتهافت عليه المرضى من كل حدب وصوب، سواء من مدينة طنطا نفسها أو من القرى التابعة لها، وهو ما يجعلك تتساءل طيلة حلقات المسلسل، هل تهافتت المرضى عليه بسبب براعته؟ أم بسبب ضعف الأجر الذي يتقاضاه؟
هو أمر يمكنك أن تستشفّه من حال المرضى التي تأتي له، فثمة بائع على عربة خضروات، وآخر مسن تركه أولاده، وغيرهم ممن يجمعهم الفقر، ولا يستطيعون الذهاب حتى للمستشفيات الحكومية، التابعة للدولة، وهو ما أرادت الكاتبة مريم نعوم معالجته، وتسليط الضوء عليه، دون أن تُبرزه أو تجعله القضية الرئيسية لأحداث المسلسل.
طنطا ورغم قلة حضورها في الأعمال الدرامية كما ذكرنا، فإن المعاناة تكون الفاعل الرئيسي في الموضوع عندما تدور الأحداث فيها، وذلك رغم تعاقب الأزمنة، فمثلًا في فيلم «أمريكاني من طنطا» بطولة الراحل عبدالسلام النابلسي، وإنتاج عام 1954، كانت تدور الأحداث حول موظف بسيط في الحكومة يعيش مع عائلته في أحد طنطا، ويعاني من قسوة الحياة ومتاعبها، حيث لديه كثير من الالتزامات والمصاريف المالية، ولا يكفي راتبه لتلك المصاريف الكثيرة، وقد بدأت أحداث القصة تظهر عندما أعلن مليونير يقطن الولايات المتحدة، ويرغب في الرجوع إلى بلده الأصلي (طنطا)، ليتعرّف على أقاربه هناك، فخطر على بال هذا الموظف البسيط أن يدّعي بأنه أحد أقارب الغني؛ لكي يستفيد من أمواله.
وعلى الرغم من مرور قرابة الـ70 عامًا، فإن طنطا كانت الاختيار الأمثل لمريم نعوم ومريم أبو عوف عندما أرادا إبراز المعاناة التي يعيشها المواطن في عام 2022، فربما طنطا هي «ضهر» المجتمع الذي لم يعد يُجسد مؤخرًا في الدراما.
المرأة في الريف.. سلطة ذكورية وجهل
يأخذنا المسلسل إلى معاناة من نوع آخر، وهي معاناة المرأة في الريف، فإن كانت المرأة تعاني في مصر وفي المدن عامةً، فمعانتها في الريف أضعافًا مضاعفة، فـ«ضحى» التي تعول أسرتها بعد وفاة والدها، وتضطر للعمل في مصانع طنطا، لتوفير لقمة العيش لأهلها، يضطرها قلة الدخل إلى العمل كراقصة هي وصديقتها في الأفراح الشعبية دون علم أهليهما، فتقع تحت دائرة الشك من الجميع، وبخاصة أهل المنطقة التي تعيش فيها.
ففي أحد المشاهد تعود ضحى من أحد الأفراح في الثالثة فجرًا، لتجد أهل المنطقة التي تسكنها في طنطا في انتظارها، ليفتحوا تحقيقًا معها حول موعد عودتها، لتضطر للكذب عليهم وتخبرهم أنها تعمل في مستشفى، وتضطر للسهر لوقت متأخر، وتنتهي الحكاية بأن يذهبوا معها فجرًا إلى المستشفى للتأكد من صدقها، ولولا أنها كانت قد أرسلت لصديقها لينتحل شخصية عامل داخل المستشفى، ويؤكد روايتها، لكان شأنها شأن الآلاف من النساء اللاتي يقعن ضحية تسلط المجتمع عليهن في الملبس والعمل وغيره.
تمثل ضحى وحكايتها طيلة المسلسل، حكاية كثير من نساء الريف، فتوجد داخل هذه القرى مئات الحكايات التي تقوم فيها النساء بدور البطولة، فيوجد كثيرات مثل ضحى التي أجبرها رحيل والدها على تحمل المسئولية والخروج للعمل من أجل توفير أدنى مستويات الحياة لأهلها، بخاصة مع قلة المعاش الذي يُصرف لهم، وغيرها من مئات القصص التي تستحق التكريم من الجميع لكنها لا تلقى سوى الإهانة.
تتعرض المرأة في الريف لظلم كبير، حيث إن كثيرًا من حقوقها مهدورة، كما أن المجتمع الريفي يسهم بشكل كبير في ذلك، والسبب الجهل وغياب الثقافة وأسباب أخرى رسّخت هذا الظلم المجتمعي على المرأة.
يقول المفكر المصري «مصطفى حجازي» في مؤلفه «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»:
إن مساهمة المرأة في الحياة الريفية تأتي في الدرجة الثانية بعد الرجل، وهذا يعود إلى الظروف الاجتماعية التي تؤثر على هذه المساهمة، ومنها انخفاض مستوى تعليم النساء الريفيات، وتفشي ظاهرة الأمية، والتسرب من المدارس، والزواج المبكر، والانغماس في الأعباء الزراعية والمنزلية، ووضع المرأة في مرتبة دونية في عدد كبير من المجتمعات الريفية.
يقع الكثير من النساء -بسبب قلة ثقافتهن وتعليمهن- في مشاكل يُحيكها لهم أشباه الذكور، مثل أن تنخرط إحداهن في علاقة مع شخص، ثم يرفض الزواج منها بعد ذلك، كما حدث في قصة صديقة ضحى.
نقلتا الكاتبة والمخرجة صورة خاصة عن المرأة الريفية بمنتهى البراعة، حيثُ سلّط المسلسل الضوء أيضًا على الموروثات الثقافية في الاحتفالات بالزواج في الريف المصري، مثلما حدث في فرح أخت ضحى، حيثُ الغناء من الفلكلور الريفي، والرقص في منتصف «الدار» وصبغ الحناء، وغيرها من المشاهد التي كانت قد اندثرت من الدراما والسينما.
ربما لم تُرد الكاتبة المقارنة بين زوجة جمال التي كانت تعامله معاملة سيئة، وجعلته يفر منها، وذلك بسبب نظرتها الدونيه له، بسبب ضعف شهادته مقارنةً بها، وضحى بنت الريف، التي -ورغم المعاناة- وجد فيها جمال الاهتمام الذي بحث عنه طيلة حياته ولم يحصل عليه.
ربما لا توجد مقارنة هنا، ولكن هناك مفارقة يجب النظر إليها بعين الاعتبار؛ فعلى الرغم من علو صوت قضايا النساء والمنظمات النسوية في الآونة الأخيرة، فإن القضايا التي تُطرَح وتُناقَش لا تزال بعيدة المنال عن نساء الريف، بل أكاد أجزم أنها بعيدة جدًا عن اهتماماتهن، وهن منْ يتمنين التمتع بحقهن في التعليم والملبس والحياة الكريمة فقط.
«عبده وردة».. الفن في الأقاليم
«عبده وردة» هو متعهد الأفراح الذي يأخذ ضحى وصديقتها إلى الرقص في الأفراح الشعبية، ويجسد شخصيته الفنان «إسلام إبراهيم»، وهو شخصية رُسمت بمنتهى الدقة لتُقدِّم لنا المخرجة والكاتبة، نظرة ثاقبة عن حال الفن والشباب في الريف المصري.
عبده وردة الذي استغل حب «هبة» صديقة ضحى له، وأقام معها علاقة، ثم رفض الزواج منها، بعدما أخبرته بحملها، بسبب ضيق حاله، واضطرت للإجهاض في أحد الأماكن غير الشرعية، التي كادت تودي بحياتها، ليضعنا الموقف أمام نقطتين مهمتين.
أولهما، هي فتح النقاش حول حق المرأة في الإجهاض من عدمه، حيث يعتبر القانون المصري الإجهاض من جرائم الاعتداء على الحق في الحياة؛ إذ غالبًا ما يكون المقصود بها إنهاء حق الجنين في الحياة المستقبلية، وقد خصّص له المُشرِّع المصري بابًا مُستقلًا في قانون العقوبات، فأرادت الكاتبة فتح باب النقاش حول هذه الموضوع عن طريق موقف عبده وردة من هبة، دون إبداء رأيها في الموضوع، تاركةً الحكم للمشاهد بعد القصة.
النقطة الأخرى، هي الفن في الأقاليم، فعبده وردة لاعب «أورج» موهوب، ومُوزع موسيقي، لا يستطيع أن يجد فرصة بسبب ضيق الحال، وعدم الالتفات للمواهب الفنية في الأقاليم، في إسقاط على عازف الأورج الشعبي الشهير «محمد عبد السلام»، الذي يعاني طيلة الوقت من المنع وخلافه، بسبب اللون الذي يقدمه، وهو لون يجد صدى كبيرًا في الريف المصري وفي الأحياء الشعبية.
الوجه والوجه الآخر للحياة في مصر
في عشر حلقات فقط من مسلسل «وش وضهر»، ستقف متأملًا في الوجه والوجه الآخر لكل شيء شخصي وعام، فكما ذكرنا متناقضات المجتمع في أحداث المسلسل، فهو لا يخلو من المتناقضات الشخصية لكل بطل من أبطال الرواية، فكل شخصية تحمل وجه يظهر أمام الناس، ووجه آخر معاكس تمامًا يظهر في الظل، وهو تمثيل حرفي لعبارة «وش وضهر»، التي تشمل الناس والحياة والمجتمع وأنفسنا.
«وش وضهر» تجربة تتحدث عن المتناقضات لكل شيء في مصر. تجربة ممتعة خرجت عن السائد مؤخرًا، وأنتجت مسلسلًا يستحق المشاهدة والتدبر، ويؤكد أن الفن وصناعه الحقيقين مثل مريم نعوم ومريم أبو عوف، لن ينتهوا من مصر أبدًا، حتى ولو كان الحال كما في أحداث المسلسل.