نحن أولى بالأم منهم!
في هذا الوقت من كل عام يكثر اللغط حول عيد الأم، ونرى صراعات حول تكييفه، هل هو عادة أم عبادة؟ محمود أم مذموم؟ مباح أم بدعة؟ هناك ثلاثة محاور ينبغي تناولها حتى ننهي هذا الجدل الذي لا يغني ولا يسمن من جوع، وهي فهم الواقع ومآلاته، والنص ومقتضياته، وفقه التنزيل والربط بين النص والواقع.
أولًا: ظرف المناسبة
لو تم حجب ظرف المناسبة؛ لن نكيفها بطريقة سليمة. يصح دخولها تحت بند الأعراف، فمعظمها ذات دلالة رمزية، كذكرى الحروب بانتصاراتها التي تضفي على الشعوب الفخر والحماسة، وبهزائمها التي تبعث في النفوس العبرة والعظة من أحداث التاريخ، وكذلك باقي المناسبات الاجتماعية، كيومٍ للعمال يذكِّر بدورهم في الصناعات والحِرَف وبأهمية الأيدي العاملة، ومهما تبدو بساطتهم، إلا أنهم صانعو الأماكن الفاخرة، وحرفتهم تلك تعكس التطور الحضاري المادي للمجتمع.
كذلك تدشين يوم للأم؛ ليُذَكِّر الناس بدورها في الأسرة والمجتمع. فهو مناسبة ذات مدلول لطيف تُسَرّ به الأمهات، ويتذكر به من غفل ومن تذكر «فإن الذكرى تنفع المؤمنين». إذن، فتلك مناسبة اجتماعية وليست دينية، حتى نخرج من دائرة هل هي عادة أم عبادة.
ثانيًا: التكييف الشرعي للمناسبة
1. إشكالية البدعة
يخشى كثير من الأفاضل الوقوع في البدع، زادهم الله تُقَى، ولكن مزيدًا من العلم يضبطها، ولا يضيق واسعًا ولا يحرم حلالًا، فالبدعة في اللغة مأخوذة من البَدع وهو الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» أي مخترعها على غير مثال سابق. والابتداع على قسمين:
ابتداع في العادات، كابتداع المخترعات الحديثة، وهذا مباح لأن الأصل في العادات الإباحة. وابتداع في الدين، وهذا محرّم، لأن الأصل فيه التوقف، لقول النبي: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» متفق عليه. لذلك عَرَّف الإمام الشاطبي البدعة شرعًا بأنها «طريقة في الدين مخترعة». أما أنواع البدعة في الدين فنوعان: بدعة قولية اعتقادية، كمقالات «الجهمية» و«المعتزلة» و«الرافضة» وسائر الفرق «الضالَّة» واعتقاداتهم. وبدعة في العبادات: كالتعبد لله بعبادة لم يشرعها، وهي أقسام كالآتي:
أولها: ما يكون في أصل العبادة، بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع، كأن يحدث صلاة غير مشروعة.
ثانيها: ما يكون من الزيادة في العبادة المشروعة، كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر مثلًا.
ثالثها: ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة، بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، كالتشديد على النفس في العبادات، إلى حد يخرج عن سنة الرسول.
وأخيرًا رابعها: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع، كتخصيص صيام يوم لم يشرع فيه، فأصل الصيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل.
هنا يحصل اللبس، خصوصًا في هذا الصنف عند كثير من الناس، وهذا ما سنجليه بعد بيان حكم البدعة في الدين بجميع أنواعها، وهو: كل بدعة في الدين مُحرَّمة؛ لقول النبي: «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» – رواه «أبو داود» و«الترمذي».
2. إشكالية العيد
ليس لدى المسلمين إلا أعيادًا معروفة ومحددة، ولذا أي عيد غيرها يدخلنا في البدعة، لأنه يعد تخصيص عبادة بوقت محدد لم تُشْرَع فيه. وبالرجوع إلى فهم الواقع ومآلاته، نستطيع أن نرى أن فكرة عيد الأم لا ترمز لعبادة دينية، ولكنها عادة وعرف اجتماعي، وعندما نكيف الأعراف نرجعها إلى الشرع، فإن وافقت مضمونه قُبِلَت، بل واستحبت وندعو الناس لها – «خذ العفو وأمر بالعرف» -، وأما إن خالف مضمونها مقاصد الشرع رددناها.
لم يبق لنا سوى تسمية لفظة «عيد» التي تثير حفيظة الناس، فبعد وضوح المقصد بخلوها عن المعتقد الشرعي، بأنها لازمة أو مسنونة أو مقصودة في ذاتها؛ فلا يصح فهم لفظ «عيد» بمعناه الشرعي، بل يصرف إلى المعنى اللغوي للكلمة، وما تحملها في طياتها من بهجة وفرحة، ولذلك يقول علماء الأصول: «لا مُشاحّة في المصطلح».
سمِّ عيدًا أو يومًا، أو ما شئت بعد وضوح هذا المقصد، كما حملنا قول النبي «كل بدعة ضلالة» على المعنى الشرعي للكلمة، ولم نحمله على المعنى اللغوي، وإلا لوقفت الحياة وخلت من كل اختراع.
3. التنزيل وربط النص بالواقع
لو ذهب أحدنا لأي عالِمٍ تقيٍ، وقال له: يا مولانا هل يجوز تخصيص عبادة بزمان أو مكان لم تشرع فيه؟ سيجيبه على الفور: لقد عرَّفت البدعة المحرمة! فإن قال: فما بالك إن اتُخِذَت عيدًا؟ سيجيبه: لقد اشتدَّت الحرمة. ولن يفرق عنده كلمة الأم بعد كلمة عيد، فهو لن يحابِ في الله أحدًا، ولا تصح المقاصد دون سلامة الوسائل. فهذه الطريقة في السؤال تعد توجيهًا في ذاتها للحرمة، وخلت من التبيين والاستيضاح.
لكن على الجانب الآخر، لنتأمل حدثًا قريبًا بعض الشيء. في مجتمع المدينة، الذي اختلط فيه المسلم مع اليهودي، وتعددت الثقافات واختلفت المرجعيات، قَدِمَ النبي المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فسأل عن سبب ذلك، فعلم أنهم يعتقدون أنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، وكان يوم عاشوراء، فصامه النبي وقال: «نحن أولى بموسى منكم». ولحرصه على مخالفتهم، جاء في سنته القولية: «لئن عشت إلى قابل – أي العام المقبل – لأصومن التاسع والعاشر»، فما كان من النبي لما رأى الآخرين يفعلون الخير إلا أن زاحمهم فيه، بل وزاد عليهم وسبقهم.
هذه الثقافة التي تحمل في طياتها تقبل الخير من الغير، تم تقريرها في القرآن: «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه»، فإذا أرادت المجتمعات الأخرى تكريم الأم والتذكير بها في أحد الأيام، فلا يُتَصَوَّر للمسلم أن ينسحب من هذا المشهد، مخافة الابتداع أو التبعية الغربية والانسلاخ من الهوية. إذ أصل الشرع يطالب المرء بالبر على مدار العام الـ365 يومًا، فلو بر أحدهم في يوم الأم، فلا نلومه ونعاتبه على هذا البر، بل نلومه على تقصيره في باقي الـ364 يومًا، ونَحُثُّه على برها في باقي العام، لا بأن نمنعه من البر.
كيف للبارِّ أن يمتنع عن بره مخافة مشابهة الفاجر؟ فو الله لقد رأيت من يترك بِرّ أمه في هذا اليوم عمدًا ليقصد المخالفة، فكيف بنظر الله إليه وإلى الفاجر في هذا اليوم؟ فالمخالفة تتحقق بالإحسان طوال العام، فلم يقُل النبي نحن نذكره على الدوام ونؤمن به، ولكنهم يذكرونه اليوم فقط! ولكنه سبقهم في الخير وخالفهم بالسنة القولية: لئن عشت إلى قابل.. فماذا نريد غير استقامة الحياة؟ فلو فعل الناس خيرًا سبقناهم إليه وزدنا عليهم، لا امتنعنا عن الخير مخافة مشابهتهم فيه! فقد جاء في الحديث: «لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا».
هكذا تظهر مخالفاتنا لهم، وندور مع الحق حيث دار – «ولو على أنفسكم» -، ولا نشخصن الأفعال بل نناقش الأفكار، فنحن أولى بالأم منهم.