لنا كبواتنا ولهم كبواتهم
تعرفت منذ مدة على امرأة تسعينية، قابلتها في إحدى الرحلات، ألمانية، وتتحدث باللهجة البايرشية (نسبة إلى بايرن)، وفي نهاية الرحلة أعطتني رقم هاتفها وعنوانها، وأخبرتني أنه يسعدها أن أتناول القهوة معها في منزلها، وأنها في انتظار اتصال مني.
تواصلت معها منذ أسبوع تقريبا، وكان موعد ذهابي إليها اليوم…
هي تعلم أنني من مصر، فكان سؤالها الأول مع بداية قائمة الأسئلة المتوقعة في مثل تلك الزيارات، هو من أي مكان في مصر؟
وهل أذهب إلى مصر باستمرار أم لا… لأفاجأ بعد إجابتي بأن تلك اللهجة الألمانية التي توحي بأنها ابنة المقاطعة أبا عن جد… أنها في الأصل في يوغوسلافيا، قبل أن تنقسم ولا يصبح في العالم الحديث دولة بهذا الاسم… وأنها مازالت تدعو هذا المكان بلدها الأم، وأنها مازالت حتى اليوم تذهب إلى هناك بانتظام، رغم عدم تفهم ابنتها لذلك، وعدم رضاها عن إطلاق والدتها على مكان آخر غير ألمانيا بلدها الأم!
قصت علينا أنها ولدت مع بدايات يوغوسلافيا، بعد أن كانت سابقا تابعة للنمسا والمجر، وأن يوغوسلافيا لم يصبح لها وجود في عام 1941 (مسقط رأسها هي مما يُطلق عليه صربيا اليوم)، وأنها انتقلت إلى ألمانيا بعد ذلك بأربعة أعوام، هربا من الحرب ومما يحدث في البلد.
قصت علينا كيف هربت هي وإخوتها بمفردهم، هي أكبرهم في السادسة عشرة من عمرها، تصطحب إخوتها والذين تتراوح أعمارهم حتى تصل إلى السادسة من العمر. هربت مع إخوتها بمفردهم، حيث إن والدتهم كانت قد توفيت، ووالدهم كان في الجيش، ولا يعلمون عنه ولا عن مكانه شيئا.
حكت لنا عن مكوثهم في مخازن اللاجئين في ألمانيا منذ استطاعتهم الهرب إليها وحتى تزوجت بعد ذلك بثلاث سنوات. وكيف أنهم أمضوا أياما يسيرون على أقدامهم في عام كانت البرودة فيه في الشتاء بأقصاها، حيث لم يكن هناك من وسيلة تنقلهم بين الحدود، وكان لا بد من السير على الأقدام على أمل النجاح في الهروب.
وعند إبدائنا ملاحظة أن الاستماع للأمر ممن عايشه أمر يستحق حقا، حيث إنك تقرأ عن تلك الحقبة في الكتب، أو تشاهدها في الأفلام الوثائقية، لكن أن تستمع لمن عاشها حقا، وخاض الرحلة بنفسه لهو أمر مختلف، كان تعليقها على حديثنا أنها كانت فترة عصيبة ومحزنة وتستحضر للنفس ذكريات مرة.
جال في خاطري وهي تحكي عن رحلتها، ما يحدث اليوم في سوريا وغيرها، اليوم نعيش نفس المأساة بنفس المشاعر، يخوضون نفس الرحلة، رحلة الهرب من واقع مر وسيئ في بلادهم، إلى مجهول لا يعلمون عنه شيئا.
جال في خاطري أن الأمر يتكرر اليوم، ولكن في بقعة أخرى من هذا العالم، في بلاد مختلفة، ومع أناس مختلفين.
يُعيد التاريخ نفسه بكل ملل، لكنه يتفنن في اختيار الضحية الجديدة، في عالم حيث لابد أن يكون فيه قوي وضعيف، يتبادل فيه الناس مواقعهم وأدوارهم، ليصبح ضعيف الأمس ثابت القدم اليوم، ويصبح مهمش الأمس ضعيفا أو قويا، كل تبعا لما تعطيه له الدنيا من دور في هذا الزمن.
نعم عانى الكثيرون غيرنا في هذا العالم، ومروا جميعا بكبوات مثلما نمر، لكن يبدو أن الفرق بيننا وبينهم أنهم لا يعيشون على خسارات الماضي طويلا.
ما حدث بالنسبة لهم قد حدث، ولا سبيل اليوم لتغييره، فلا يعيشون في كربلائياته، ولا يبكون مطولا على اللبن المسكوب… نقطة ومن أول السطر.
فمن أراد أن يقاوم بدأ في مقاومته، ومن أراد أن يسير في حياته الجديدة سار فيها، ومن رأى أن يعمر أرضا غير أرضه بدأ في تعميرها، ومن أراد أن يغير مستقبله الذي كان يحلم به أعواما قبل أن تحل الكارثة، بدأ في تغييره.
هذا ما جعل صديقتي التسعينية تبدأ حياتها السياسية بعد 5 أعوام فقط من هربها من الجحيم، تبدؤها في بلد جديد، ربما لم تبدأ بعد في إتقان لغته، وتبدأها في بلد مازال يرزخ تحت تبعات ويلات الحرب والهزيمة.
بدأت تبني بلدها الجديد بمساعدة أهله، فالعالم لن يتوقف لكارثتك الشخصية، ولا حتى لكارثة بلد أو حتى أمة.. هذا العالم سيستمر في الدوران حتى تقوم الساعة، ولن ينتظرك حتى تستفيق مما حدث لك.. نعم تحتاج إلى بعض الوقت لتستطيع أن تقف على قدمك، ولكن يجب ألا يكون هذا الوقت يسرق من عمرك أعواما تستطيع فيها أن تنجز -مما لا شك فيه- الكثير.